الزمن في الرواية العربية

الزمن في الرواية العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظل مفهوم الزمن ومازال يتصدر الدراسات الفلسفية والفيزيائية والأدبية لاسيما على مستوى علاقته بالوجود الإنساني، وفي دراسة جديدة عن الزمن في الرواية العربية تحاول الباحثة والأكاديمية الفلسطينية الجنسية والمقيمة في الأردن د. مها حسن القصراوي أن تستجلي هذا المفهوم من خلال عدد من الأسئلة المحورية التي تطرحها في مقدمة الكتاب حول الدور الذي يقوم به لكي يمنح الرواية شكلها وصورتها النهائية. وحول مدى قدرته على تجسيد الرؤيا والفلسفة تجاه الواقع المعاش،

وتشكيل زمنه الخاص ورؤيته في النص، وللإجابة عن هذه الأسئلة تتخذ من الرواية العربية أنموذجاً لدراسة بناء الزمن الروائي في النص، ونظراً لوفرة الأعمال الروائية العربية تلجأ إلى اختيار نماذج تمثل مراحل متنوعة من تعاطي الروائي مع الزمن، من حيث البناء والقيمة، وتنتمي إلى مناطق جغرافية متنوعة، أما على مستوى المنهج، فإنها تنطلق في اتجاهين، الأول شكلي وتعتمد فيه على بعض مصطلحات جيرار جينت التي تربط بين زمن الحكاية وزمن السرد،

والثاني تحليل المستوى الدلالي من خلال دراسة علاقة الزمن الروائي بالشخصية والمكان والزمن التاريخي. يتوزع الكتاب على خمسة فصول ومدخل نظري يبحث فيه مفهوم الزمن، لغة واصطلاحاً، وجدلية العلاقة بين الإنسان والزمن، والرؤية الفلسفية والعلمية له، إضافة إلى دراسة أنواع الزمن وأبعاده. وتؤكد الباحثة في هذا السياق أن من يمعن النظر في مقولة الزمن يجسده هذا السيل المتدفق المستمر من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، وفي سيلانه حركة تحمل الصيرورة والتحوّل والتغيّر.

ثم تبحث في المعنى اللغوي للزمن، الذي يظهر مندمجاً في الحدث، وإذا كان الزمن محور الكون والحياة ومحور حياة الإنسان الداخلية، والمحرك الخفي لمشاعره وتقلباته الجسدية والنفسية، فإن الفلاسفة والعلماء اجتهدوا في تحديد مفهومهم الخاص للزمن، وتخلص من ذلك إلى تحديد نوعين من الزمن لهما دور في تشكيل الزمن في الأدب، وهما الزمن الطبيعي (الموضوعي) والزمن النفسي، كما تتناول أبعاد الزمن، الماضي والحاضر والمستقبل.

تنتقل الباحثة القصراوي في الفصل الأول إلى مجال بحثها الرئيسي، فتدرس الزمن في الأدب كإطار عام، والزمن في الرواية كإطار خاص. وتؤكد في بداية دراستها الأولى أن الأدباء المعاصرين فقدوا ثقتهم بالمذهب التقليدي في معالجة الكثير من القيم الاجتماعية، ولذلك اتجهوا إلى استخدام تيار الوعي كتصور جديد للزمن في بناء النص الأدبي، وكان الأدباء قد عرفوا الحوار الداخلي والتداعي قبل علم النفس، ويُعد الزمن محور الرواية وعمودها الفقري. في حين ان طريقة بناء الزمن فيها يكشف عن تشكيل بنية النص، والتقنيات المستخدمة في البناء، الأمر الذي يدفعها إلى القول إن القص هو أكثر الفنون التصاقاً بالزمن.

فالرواية هي فن زمني، والزمن الروائي تعبير عن رؤيا تجاه الكون والحياة والإنسان، ثم تطرح سؤالاً أساسياً حول مدى تطابق الزمن الروائي مع الزمن الواقعي، وفي الإجابة عنه لا تنكر وجود علاقة بينهما، كما لا تنكر وجود اختلاف بين الزمنين. إذ ان الزمن الأول يتقدم بصورة خطية مباشرة ومن الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، في حين يتسع الزمن الروائي ويتقلص، ومهمته تتمثل في خلق الإحساس بالمدة الزمنية الروائية.

وبعد أن تتعرض للتسلسل الزمني المنطقي في الرواية التقليدية القائمة في بنائها على السببية، وتتابع الأحداث وترابطها تشير إلى أن الرواية الحديثة تجاوزت الأشكال الثابتة في البنية والاختيار والحبكة والسببية إلى ارتفاع وانخفاض الإيقاع الروائي، كما ارتبط الزمن بالرواية في علاقة مزدوجة لأن النص الروائي يشكل في جوهره بؤرة زمنية تنطلق في اتجاهات عدة، ثم تقدم آراء النقاد وتصوراتهم حول الزمن الروائي وأقسامه بدءاً من الشكلانيين الروس ورواد الرواية الجديدة في فرنسا، وصولاً إلى الاتجاهات الشعرية وبعض النقاد العرب، كما تقدم تعريفها للزمن الروائي باعتباره زمناً داخلياً تخييلياً من صنع الخيال الفني، وتحدد مستويات الزمن الروائي في زمن الحكاية وزمن الخطاب.

تبحث في الفصل الثاني في أشكال بناء الزمن في الرواية العربية، وتجملها في ثلاثة أشكال هي البناء التتابعي للزمن والبناء التداخلي الجدلي، والبناء المتشظي، وفي مجال البناء التتابعي نجد أن هذا الشكل سيطر على الرواية العربية حتى أواخر الخمسينات وأن ما يميزه هو توالي الأحداث وتعاقبها دون انحرافات بارزة في سير الزمن.

وفي هذا الشكل يظهر التناغم بين زمن الحكاية وزمن الخطاب إذ يسير الزمنان في خط متسلسل. ثم تقدم دراسة تطبيقية على رواية «وعاد الزورق إلى النبع» لعبد الكريم غلاب ورواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ. أما بالنسبة للبناء التداخلي الجدلي للزمن فإن ما يميزه هو عدم تقدم زمن الخطاب بنفس الترتيب مع زمن الحكاية، حيث تتشابك أزمنة الحكاية مع زمن الخطاب، وترى أن هذا الشكل هو أكثر الأشكال بروزاً في الرواية العربية الحديثة، وتقسمه إلى خمسة أنواع: تصاعدي تداخلي ودائري وتزامني وتضميني ومتوازيات زمنية وتقدم كل نوع أمثلة من الرواية العربية، مبينة تباينات الرؤية إلى الزمن بين كل نوع وآخر من أنواع الزمن في هذه التجارب الروائية.

على صعيد البناء المتشظي للزمن هناك نسق مغاير، فأبعاد الزمن هنا تخضع للتشظي والتكسر وتجاوز كل إشارة تقود إلى التتابع، الأمر الذي جعل رواية الزمن المتشظي تتحول إلى شبه حلم أو كابوس يتجاوز أحداثها لكل ما هو منطقي وواقعي، كما أن البناء الزمني يفقد المتلقي القدرة على جمع خيوط النص وتتحول اللغة فيه إلى حالة شعرية مكثفة تتجاوز قواعد اللغة وتقدم أمثلة روائية عديدة على هذا النوع من فلسطين والجزائر ولبنان.

وفي الفصل الثالث تتناول مستويات زمن الخطاب السردي وأبعاده عبر ثلاثة محاور هي زمن السرد ومؤشرات زمن الحكاية وزمن الشخصية الروائية وتجلياته، واللازمة الزمنية ودلالتها، وتؤكد انه إذا كان زمن الحكاية هو الماضي فإن السرد هو زمن الحاضر في الرواية وللتمييز بين الزمنين تبحث في المؤشرات السردية والحكائية في النص الروائي وتبين دورها في تجسيد الرؤيا وتحقيق البعد الجمالي. تنتقل بعد ذلك إلى دراسة زمن الشخصية الروائية ومنذ البداية توضح العلاقة الجدلية التي تربط الشخصية مع الزمن، خاصة وأن زمن الشخصية يمثل المستوى الثاني من مستويات الزمن الروائي.

تميز بين اهتمام الكاتب في الرواية التقليدية ببناء الشخصية الروائية بزمنها الخارجي، واهتمام الرواية الحديثة بذاتية الزمن الذي اهتم به الروائي الحديث متجهاً إلى الحالات الذهنية والشعورية أكثر من الاهتمام بالتصرفات والحركات في المكان، ونظراً لعمق علاقة الزمن بالشخصية الروائية تدرس أبعاد زمن الشخصية

كما تتجلى في المزاوجة بين حاضر الشخصية وماضيها باتجاه الموت، وبين حاضر الشخصية وماضيها لاستشراف الآتي، والتماهي بين الزمن الذاتي والزمن الجمعي، وحركة الشخصية باتجاه المستقبل، وحركة الحاضر والموت، وتقدم أمثلة تطبيقية على كل مثال لروائيين عرب، وفي القسم الأخير من هذا الفصل تدرس اللازمة الزمنية ودلالاتها، مشيرة إلى أن المصطلح مستمد من الموسيقى، وأن رواية تيار الوعي هي أكثر الروايات استحواذاً لها كما في رواية «ما تبقى لكم» لغسان كنفاني التي لعبت الساعة فيها دوراً أساسياً في تشكيلها.

الفصل الرابع مخصص لدراسة المفارقات ودلالاتها ممثلة في مفهومي الاسترجاع والاستباق، حيث يعد الاسترجاع من أكثر التقنيات السردية تجلياً في الرواية، إذ يشكل ذاكرة النص وفيه ينقطع زمن السرد الحاضر ويستدعي الماضي وتتأتى أهميته في كونه تقنية تتمحور حول تجربة الذات، ثم تشرح أهمية استخدامه والوظائف الدلالية والجمالية التي يحققها، وأنواعه التي تتمثل في الاسترجاع الخارجي والداخلي مقدمة أمثلة على كل نوع، كذلك تعرض لمحفزات الاسترجاع وآلياته.

ويأتي الاستباق بالمقابل ليعبر عن مفارقة زمنية سردية تتجه نحو الأمام، وهو يمثل تصويراً مستقبلياً لحدث سردي، سيأتي مفصلاً فيما بعد، وتتناول هنا الاستباق كتمهيد، والاستباق كإعلان مع تقديم أمثلة عديدة على هذا الاستخدام في روايات عربية معروفة.

وتنتقل الباحثة في الفصل الخامس إلى دراسة تقنيات زمن السرد كما تتمظهر في تسريع السرد عبر الخلاصة والحذف، وفي إبطاء السرد كما يظهر ذلك في المشهدية والمونولوج والوقفة الوصفية، في حين أن الخلاصة كما تعرفها هي سرد موجز يكون فيه زمن الخطاب أصغر بكثير من زمن الحكاية، ويلجأ الروائي إلى هذه التقنيات عندما يروي أحداثاً حكائية طويلة، ويكون التلخيص لأحداث سردية لا تحتاج إلى توقف زمني سردي طويل وترتبط تقنيات زمن السرد بإيقاع النص، فمن خلالها يمكن دراسة إيقاع النص من حيث السرعة والبطء.

وتجمل الباحثة في الختام أبرز النتائج التي توصل إليها البحث، وفيها يظهر أن الاهتمام بالزمن لم يقتصر على العصر الحديث، إذ برز حتى في الأساطير، وأن الزمن الروائي هو زمن تخييلي.

كذلك أبرزت الدراسة عن عمق العلاقة بين أشكال بناء الزمن الروائي ووجهة نظر الروائي في التعبير عن واقعه وقضاياه ومشاعره، إضافة إلى هيمنة المفارقات الزمنية وسيطرة مفارقة الاسترجاع، وتؤكد أن النص الروائي العربي هو نص مفتوح يقبل التأويل والقراءة وإضافة الجديد والسؤال هل هذه السمة خاصة بالنص الروائي العربي الذي كان وما زال يخضع في بنائه وتشكيله وتقنياته إلى تأثير واضح للمنجز الروائي الغربي والأميركي اللاتيني.

أما العلاقة مع التراث على مستوى توظيف تقنيات الزمن في السرد الحكائي القديم أو ما يعرف بالزمن الحلزوني فقد ظل غائباً عن مجال البحث، كما ظلت الأعمال الروائية العربية التي توظف أشكاله بعيدة عن التناول.

مفيد نجم

الكتاب: الزمن في الرواية العربية

الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2004

الصفحات: 283 صفحة من القطع الكبير

Email