إهداءات الكتب.. فن يعكس تمايز ملكات الكتّاب

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تتصفح كتاباً، لا يمكنك أن تهمل الاهداء المدوّن في صفحاته الأولى، إنه يشبه المقبلات التي تفتح شهيّة مواصلة القراءة. فبيـن دَفتـّي كل كتاب توجد حديقــة، وقبل أن نتنزه فيها تصادفنا وردة معلقة على الصفحات الأولى، هــي "إهــداء" المؤلف في كلمات مُختصرة مُعبــرة، لأشخاص يحددهم هو ، ووفقاً لما تنسجه رغباته وذائقته.

 لا يمكن تحديد تاريخ اهداءات الكتاب، ولعلها ولدت مع ولادة الكتاب. وفي الكتب القديمة نعثر على مؤلف يقول: قدمتُ هذا الكتاب إلى الوالي أو إلى فلان، كما كتب ابن حزم "طوق الحمامة" وأهداه إلى صديقه.

إن "الإهـداء"، وبشكله الحالي، ظاهرة تجدّدت وأصبحت عملاً مألوفاً تطّور مع فن "صناعة" الكتاب، سيما باختراع المطبعة الحديثة وما تبعه من إنتاج الكتب وازدهار دُور النشر وتطُّور في مفاهيم حقوق التأليف والطباعة. وعادة ما يعبّر الاهداء عن نوع من مخاطبة شخصية مهمة ومؤثرة، أو لتجسيد مشاعر الامتنان أو الصداقة. ومن المعروف أن فن اهداء الكتب يمتد عميقاً في جذور الحضارة الإنسانية، من هوراس وفيرجيل وسقراط. ومعظم المؤلفين حرص على إفراد صفحة للإهداء. فهي تساعد على إضاءة الكتاب.

ربما تبدو محاولة فهم دوافع الإهداءات لدى المؤلفين، مهمة صعبة ومعقدة، وذلك لتعدد الأهداف والمقاصد الكامنة في نفوس المؤلفين. ففي الأطروحات الجامعية، تتم الإشارة إلى "الزوجة التي سهرت وتحملت".. وكذلك الأساتذة الذين اشرفوا على الباحث، وغير ذلك..

مثلا إلى احد المشاهير الذين تأثر بهم المؤلف. ولكن تتميز الإهداءات التي تتصدر الأعمال الإبداعية، من شعر وقصة ورواية، بحس مختلف عن إهداءات الدراسات والأبحاث، بل وتختلف لغتها وتبدو محملة بالعديد من الإشارات والإيحاءات، وتكتنفها المشاعر والعواطف والانفعالات.

كما تميلُ كلمات الإهداء في الكتب العلمية إلى الشكر والامتنان، لأشخاص أو جهات قَدمت تسهيلاتٍ للمؤلف. وتميل في كتب السير الذاتية أو التراجم، إلى الامتنان والعرفان لأفراد العائلة، آباء أو أبناء. وبشكل خاص إلى الزوجة. وفي العديد من الكتب الفقهية والقانونية، كان الإهداء لمحبي العدالة أو لنُصرتها.

 تواصل إنساني

يمكن للإهداء أن يختزل جهد الكاتب والغرض الذي من أجله ألف الكتاب. وأحياناً يستنجد الكتّاب بالآخرين من أجل كتابة إهداء لكتبهم. فعلى سبيل المثال، الكاتبة غادة السمان، كتبت الاهداء التالي على صفحات أحد كتبها: "لعلنا خلقنا لنظل هكذا، خطين متوازيين .. يعجزان عن الفراق وعن التواصل .. ولن يلتقيا إلاّ إذا انكسر أحدهما ".

ومن الاهداءات الملفتة، اهداء الروائي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته «الحب في أزمنة الكوليرا"، قائلاً (الى زوجتي مرسيدس. طبعاً ). وهناك اهداء كتاب ( ذكريات سمين سابق ) للإعلامي تركي الدخيل، الذي يتحدث عن تجربته في التخلص من السمنة فيقول:" إلى الميزان، بأنواعه الإلكتروني منه، وذي المؤشر الأحمر! أيها الصامد أمام أوزان البشر، يا من تتحمل البدين منهم والنحيف، يا من تصبر على ثقل دمهم قبل ثقل أجسادهم".

ويعمد المؤلفون عادة، إلى كسب القارئ، من خلال نصوص الكتاب، ويحرصون في الوقت ذاته، على رد الجميل، من خلال كتابة عبارة تسترعي الانتباه في مقدمة مؤلفاتهم، تتضمن إهداء الكتاب إلى أشخاص أو رموز لها تأثير في حياتهم.

وأيضا، تعبر الاهداءات عن رؤية الكاتب، وربما تنعكس في إهداءاته ليتوجه الى فكرة أو شخص أو رمز من الرموز، التي لها اتصال بروحه وبالفكرة الرمزية التي يحملها.

ويبقى الكتاب ككل، يمثل نصا واحدا، كما ان الإهداء يمثل نصا إلى جانب متن الكتاب، وفي هذه الحالة يكون الإهداء بمثابة عتبة للنص ومدخلا إليه، ينسجم مع المضمون في الداخل. وهناك إهداءات صريحة وغامضة ولأناس غير موجودين على أرض الواقع، وهناك من يهدي إلى الوطن أو شخصية عامة لعبت دوراً في تقدم البشرية.

مضيفاً فيها، إن صدور كتاب بدون إهداء، أمر نادر الحدوث. وكتب الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز في رواية (اعترافات كاتم صوت)، في الإهداء: إلى "قسمت التي رممتني"، والذين يعرفون الكاتب، يدركون أن هذا الإهداء موجه الى زوجته التي وقفت بجانبه في الأوقات العصيبة.

 بوابة الفكر

يبقى الإهداء أمرا ذاتيا بحتا ومساحة خاصة للكاتب، وبوابة تدل على طريقة تفكيره، وغير محكوم بضوابط فنية أو منهجية. وهي في أنواعها، تتمثل في ثلاثة أنماط:

 الإهداءات التقريرية (تتصف بالإنشائية وتوجه للأشخاص الذين لهم مكانة أو أسهموا في تقديم خدمة أو خدمات للكاتب)، الإهداءات المفتاحية (أي أنها مفتاح تمهد للمتلقي للتعامل مع النص، وهي من أنجح الإهداءات)، ذاتي مصدره الكاتب (وهذا ربما يكون فيه مأخذ إذ إنه نوع من النرجسية، ويكون أكثر قبولا في الأعمال الإبداعية).

نماذج

غادة السمان في" القمر المربع":

"أهدي هذا الكتاب الى حبيب لم يغادرني يوما اسمه الدهشة!"

رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني:

" إلى الذين لم يولدوا بعد!...".

- أعلنت عليك الحب:

"هذه الحروف بحلوها ومرها ..

نمت في رحم حبك ...

وترعرعت في بلاط جدك...

وكبرت تحت شمس لقائك ...

وانتظمت في سطور لأجل عينيك...

لك وحدك اهديها ...

واستميحك عذراً في إطلاع الآخرين عليها ".

الحبيب الافتراضي:

"لا اهدي هذا الكتاب إلى حبيبي الافتراضي،

بل اهديه إلى الشجرة التي تم قصها،

ليصدر هذا الكتاب..."

والبقــية تــأتــي ...

وما زلتُ أنتظر باقات كتبكم وازهاركم ...".

وكتبت غادة السّمان في رواية "كوابيس بيروت" :

"أهدي هذه الرواية، الى عمال المطبعة، الذين يصفون في هذه اللحظة حروفها رغم زوبعة الصواريخ والقنابل، وهم يعرفون أن الكتاب لن يحمل أسماءهم. إليهم، هم الكادحون المجهولون دونما ضوضاء كسواهم من الأبطال الحقيقيين الذين يعيشون ويموتون بصمت، ويصنعون تاريخنا، إليهم، هم الذين يكتبون الكتب كلها بدون أن تحمل تواقيعهم، إلى أصابعهم الشموع التي أوقدوها من أجل أن يطلع الفجر، أهدي هذه السطور".

 

مساق مغاير

دون الكاتب عبدالله باجيبر، إهداء خاصا في مؤلفه "همس الأحباب":

"إلى التي حدثتني وأنطقتني وأسعدتني وعذبتني! إلى التي تدق أجراس الهاتف فتدقُ أجراس الدنيا كلها، إلى التي تأتي حلماً ووهماً وروحاً ونبضاً إلى التي تأتي وتتأبى. إلى التي تأتي ولا تأتي".

وكتب الروائي عبده خال، إهداء على أحد رواياته:

" ليس هناك ما يبهج : إلى أبي ذكرى وحزن ولهفة متأخرة ".

وكتب أيضا:

" الأيام لا تخبئ أحدا: إلى شلة تطلب الله : صالح. حسن. جمال.عمر . عثمان.محمد. علي. باوزير . وعبده

حلم شاخ في الأوردة، وضحكة تسري بيننا كلما مضى بنا العمر

وكتب الطاهر بن جلون، إهداء لروايته "تلك العتمة الباهرة":

"كل أحداث هذه الرواية واقعية .. إنها مستلهمة من شهادة أحد معتقلي سجن ( تزمامارت)

إنه عزيز، وإليه أهدي هذا العمل الروائي، وأهديه أيضاً إلى صغيرة رضا، نور حياته الثالثة".

الإهداء المدون في رواية" 11 دقيقة" لباولو كويلو:

"في التاسع والعشرين من مايو سنة 2002 وقبل ساعات قليلة من الفراغ من هذا الكتاب، ذهبت الى مدينة لورد في فرنسا لأجلب القليل من مياه الينبوع العجائبية. كنت أقف في ساحة الكنيسة عندما اتجه نحوي رجل يناهز السبعين وخاطبني قائلا (هل تعرف أنك تشبه باولو كويليو) ؟

أجبته بأنني أنا هو، عانقني الرجل وقدم لي زوجته وحفيدته، وقال لي ان كتبي تحتل مكانة كبيرة في حياته، ثم ختم كلامه بالقول: (أنها تجعلني أحلم) . غالبا ما سمعت هذه الجملة وأدخلت المسرة الى قلبي لدى سماعها . لكني، مع ذلك شعرت في تلك اللحظة بقلق عميق. كنت أعرف أن روايتي ( 11 دقيقة ) تتناول موضوعا حساسا يحدث لدى القارئ صدمة عنيفة ومزعجة. مشيت الى الينبوع لأحصل على القليل من المياه العجائبية. ثم سألت الرجل عن مكان أقامته ( شمال فرنسا قريبا من الحدود مع بلجيكا) وسجلت اسمه في مفكرتي..

موريس غرافلين هذا الكتاب مهدى اليك. لدي واجب تجاهك وتجاه زوجتك وحفيدتك وتجاه نفسى. التحدث عما يشغلني وليس عن ما يود الناس سماعه . ان بعض الكتب تجعلنا نحلم وبعضها الأخر يذكرنا بالواقع، لكن لا يمكن لأي كاتب أن يتنصل مما هو جوهري لكتابته، الا وهو النزاهة التي يكتب بها".

وكتبت ميرال الطحاوي في روايتها "الخباء، إهداء:

" إلى جسدي.. وتد خيمةٍ مصلوبةٍ في العراء "

" المعماري دكتاتور بطبعه، يخلق من أفكاره حوائط ليجبر الغير على العيش فيها ".

وكتب الاديب الراحل غازي القصيبي، لزوجته في رواية" 7" إهداء :

" إلى من تحملت ..

شطحات الشاعر

وكوابيس الروائي

ولؤم البيروقراطي ...".

هناك إهداء من غوته في أحد كتبه:

"الى أنيته

خلع القدامى على كتبهم

أسماء الآلهة وعرائس الشعر

وأسماء الأصدقاء

لكن أياً منهم لم يخلع عليها اسم حبيبته

فلماذا يا انيته وانتِ بالنسبة إلي

الهة وعروس وصديقة

وكل شيء لا اخلع اسمك

المحبوب على هذا الكتاب؟".

وكتب عبد الواحد الانصاري، إهداء في رواية "كيف تصنع يدا؟":

"إلى تلك الأصقاع الصحراوية التي عاش فيها أجدادي، وجاء منها أبي،

وإلى هذه الأصقاع الصحراوية التي عشت فيها،

وسيجيء إليها أحفادي.

إلى الأقلية النادرة التي أمثلها،

والأكثرية الكاثرة التي لا تعرفني".

وكتب سيد قطب في إهداء كتابه "أشواك":

"إلى التي سارت معي في الأشواك، فدميت ودميَت، وشقيتُ وشقيَت. ثمّ سارت في طريق وسرتُ في طريق، جريحين بعد المعركة. لا نفسها إلى قرار ولا نفسي إلى استقرار".

كتب واسيني الأعرج، إهداء في "حارسة الظلال ـ دون كيشوت في الجزائر":

" في البدء كنت وحدك وكانت الزرقة والماء

إليك أيها البحر المنسي في جبروت عزلته الكبيرة يا سيد الأشواق والخيبة

إليكِ مريم، يا زهرة الأوركيدا ومرثية الغريب

ياسيدة المقام والمستحيلات كلها ..

سيدة المقام (مراثي الجمع الحزينة)

الحياة إما أن تكون مغامرة جريئة أو لاشيء .

الحبيبة الغالية نجاة، أيتها الجرح الصامت، وحدك تعرفين كم أن الدنيا هشّة وقاسية، وفي أحيان كثيرة غير عادلة".

 

 

 

Email