قصص وأشواق لا تموت.. شكلت منبعاً لثراء الأدب والفــــن والموسيقى

الأماكن والحنين.. أوتار الإبداع تعـــزف لحن الذكريات

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تتداعى الصور والكلمات إلى الأذهان، في محطات كثيرة، لتعيد إلى أنفسنا دفء مكان لا يزال يحيا في الوجدان، ويستدعيه العقل واللسان، من آن إلى آخر.. وربما تكون الذكريات بالنسبة إلى أحدهم، بمحيطها ومضمونها، كعابر سبيل، وإلى آخر مثل الشمعة التي يحملها هذا العابر نفسه.

وذلك كحال خصوصيتها الفريدة لدى المبدعين، من فنانين وأدباء وموسيقيين، إذ يحمل هؤلاء مخزون ذكريات وقصص، يصوغون مع بريقها وفي وحيها، ملامح إبداعات، تعبر عن مكنون سير وشجون ومسرات وحنين، لا تنفك تستمر في إيقاد جذوة الدفع باتجاه انجاز عمل فريد، يشكل أرضية للنجاح والتميز.

 

كثيرة هي المنازل التي نختبرها ونمر بها، ولكن مقر النشأة، ومرتع الصبا، يبقيا متنفسنا وحنينيا وجذوة حضورنا ومحرك عطائنا.. هكذا هي حالنا نحن البشر. وقد وصف الشاعر العباسي أبو تمام ذلك : كم منزل في الأرض يألفه الفتى.

 

وحنينه أبداً لأول منزل

نطالع في قاموس الإبداع والمبدعين العرب، قيمة ونبضاً خاصين لهذه الحيثية، ونحاول استكناه حقيقتهما، مع محطات رحلة شيقة في عوالم وعقول ونفوس عدد من المبدعين لنتعرف على طبيعة ارتباطهم بأماكن استمروا يحنون إليها ويعيشونها بقوة وتأثير كبيرين.

 

ز س

غالباً ما يكون الارتباط بمكان ما، أكثر قوة عندما يتعلم منه الإنسان شيئا يحتفظ به في مشوار حياته، ذلك مثل دكة عم رفاعي بالنسبة إلى الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي لديه اليقين التام بأن لا شيء يأتي من فراغ، وهذا ما عبّر عنه بكلماته في كتابه أيامي الحلوة، قائلاً: لا يأتي شيء من فراغ.. لولا الشقاء والقسوة ولولا رجولة المواجهة لما كنا ولا أبدعنا.

وحكى الأبنودي عن دكة عم رفاعي: كان لدكان عم رفاعي راديو صغير يفتح في فترات محددة على قرآن الصباح، وأغنيات الظهيرة نصف ساعة ونشرة الأخبار في الثانية والنصف بعد الظهر وعلى مسلسل الخامسة إلا ربع مساء، أما يوم الجمعة فكان مسموحا للراديو أن يبث ما يطلبه المستمعون.

وكان هناك مكان دائم على الدكة النحيلة التي إلى جوار دكان عم رفاعي، والتي لا تتسع سوى لنصف مؤخرة رجل نحيل مثلي في ذلك الوقت، ولقد حاول الكثيرون مصادقة هذه الشريحة الخشبية النحيلة فلفظتهم لكني كنت مجبرا.. على هذه الدكة التي في عرض شبر وطول متر والتي تتسع لشخصين ونصف إذا استثنينا عدم الراحة أو الاستقرار انتظر جلوسي.

لم يكن يتوقّع الأبنودي ذاته، أن هذه الدكة ستثير تحديه وموهبته في الكتابة، وعن ذلك قال: على هذه الدكة استمعت للأغنية المصرية وجمعت معلوماتي عنها وعرفت أسماء جميع المؤلفين والملحنين والمطربين ومؤلفي الموسيقى والفروق بين كلام وكلام، ومن ثم بين مؤلف ومؤلف، ونفس الأمر مع الملحنين والمطربين. صادقت البعض ونفرت من البعض. أحببت البعض بدون معرفة متبادلة.. ويوما سمعت أغنية ركيكة فأعلنت رأيي فتحداني شاب يعمل في دكان عم رفاعي كان مهتما بالغناء إذا ما كنت قادرا على كتابة .. أفضل منها، ولم أكن كتبت أغنية من قبل.

وبعد يوم عدت إليهم لأقرأ الأغنية التي كتبتها فقط لإثبات إني قادر على الكتابة وقرأت وكانت كلماته: (قلت أحبك خفت احتار قلت أسيبك خفت احتار.. ده أنا من يوم ما عرفتك قاعد عين في الجنة وعين في النار).. وهي أول أغنية أكتبها في حياتي، غناها من بعد ذلك بسنوات الفنان سيد إسماعيل من لحنه، وبذلك اعترف الجميع بأحقيتي في مكان دائم على دكة عم رفاعي.

 

شاليه مرقية

أما الشاعر ماجد يوسف، أحد شعراء العامية من جيل السبعينيات في القرن الماضي، فكان شاليه مرقية بالإسكندرية، وهو أكثر الأماكن التي يأخذه الحنين إليها، معللاً الأمر بأن أكثر فترات حياته تألقا، هي حينما كان يكتب قصائد أو دواوين كانت تعتمل في داخله وتتخلق وهو جالس أمام البحر.

وكذا الخضرة والورق والهواء الطلق، منفردا انفرادا جميلاً في فترة إبداعية لا يشغلها ارتباطات أسرية ولا تليفونات العمل، ولا زحام القاهرة أو أي من ضوضائها، فهو (ذاك المكان) بالنسبة إليه، مصدر إلهام ونشوة اشتياق إلى كتابات يقرؤها ويكتبها إحساسه بها. ولا يتردد ماجد يوسف في التعبير عن فخره بقصيدة وشوش، إحدى قصائد ديوانه ليالي مرقية الذي ألفه اعتزازا بذلك المكان وحبا له.

 

عناني والغورية

ينطلق الفنان التشكيلي صلاح عناني، عند سؤاله عن الأماكن التي يحن إليها إلى منطقة الغورية، بل إلى جميع المناطق الشعبية، التي تجمع تاريخ مصر، على امتداد فترات التاريخ، ولم يكن سر تحيزه إلا لأكثر ما يلفت نظره إليها، مثل: البسطاء، ألوان المباني، الحرف الطبيعية.

والغورية وغيرها من هذه الأماكن، يعدها عناني، حقيقية راسخة كأهلها الذين لا يشوبهم زيف ولا خداع، ويرى أنها مناطق حميمة تضم اناساً واقعيين وطبيعيين وطيبين -على حد وصفه.

ولا يكتفي عناني بأن يكون أناس وملامح الأماكن ضيوف حنين لحظي في ابداعاتهم، بل جعلهم دائما ضيوف لوحاته المعبرة عن تراث الشخصية المصرية، بما فيهم من صعلكة ونقاء ووفاء وصدق وواقعية، وتلك الثقافة التي يسميها ثقافة شوارع تحمل تيار الشخصية المصرية على مر التاريخ، ابتداء من الفراعنة، وكذا التاريخ الإسلامي والفاطمي بشكل خاص، ومرورا بكل الأزمنة والعصور.

كما لا يجد عناني أفضل من تلك الأماكن لتكون مصدر إلهامه، أو هؤلاء الأشخاص أصحاب المشاعر الحريفة، كما يصفهم، لفرحهم وحزنهم الشديد، لتكون أبطال لوحاته، وعلى الرغم من التحامه بكل شعوب الأرض، إلا أنه لا يجد أناسا بهذه الغرابة، يجمعون بين الخبث واللؤم والدهاء والذكاء والحب، وتجتمع فيهم كل الصفات الإنسانية -على حد قوله.

ويسرد عناني مدى تأثره بهذه الأماكن، ذلك إلى درجة جعلته يتخذ ألوانها الشعبية في لوحاته، مثل :ألوان الطرشي، البصلي، أحمر لحم الهوانم، حمصي، الليموني، الأخضر الوردي. وعن تلك اللوحات، قال أعشق الواقع الشعبي، بما فيه من سلوكيات، وتجمع بين كل أنماط السلوكيات التاريخية.

لأنها محملة بشجون ومشحونة بإنسانية، وعلى الرغم من أن معظم لوحاتي فيه مبالغات شكلية، إلا أنه من وراء تلك المبالغات، أبرز مكنون الشخصية، معتمداً في الرسومات، على أصول وأساسيات تلك المناطق الشعبية، بما فيها من مبان معوجة ومتينة، أو شخصية فيها لف ودوران. وعلى الرغم من ذلك، إلا أنها واعرة بملء العبارة، ففي هذه المناطق أتقصى اثارهم، وفي مخيلتي أفكار، فهم من آليات استلهامي.

ويؤكد عناني أنه يؤمن بأن اللغة البصرية أبلغ من مليون كلمة، وأن رنين حروفها هو على العكس مما يقال، إذ إن الحروف والكلمات اخترعت لتخبئ الأفكار والمشاعر الحقيقية.. وفي تلك الشعبيات، وخاصة الغورية، صمم عناني لوحة موضوعها هو في أثناء وقت العصر، عن جيران في أسواق وأحياء شعبية لا يفصل بين بيوتهم شيء، وكأنهم في بوتقة واحدة، وفي نسيج واحد.

وفي تلك اللوحة التي تشرع أبعادها من مناظير مختلفة، وفي أحد أبعادها، يتظاهر طالب في الثانوية العامة، بأنه يقرأ دروسه، بينما هو في الحقيقة يتلصص على سيدة جميلة في البلكونة، كان زوجها يتابع برامج التلفزيون، ويظهر فيها شخص آخر يقف فوق سطح المبنى، ويستمع إلى أنغام أم كلثوم، كما نرى امراة محجبة تظهر وهي تعترض على تصرفات إحدى جاراتها، ونجد أن أسلوب الغمز واللمز يظهر على خلفيات الرسومات، خصوصا وأن الفنان يستخدم بقوة وكثرة، الألوان الحريفة.

 

شمة.. معزوفات المعاناة

بقيت رؤى الجمال الداخلي للمكان والبحث عنه والحنين اليه، سيدة الموقف لدى الفنان وعازف العود العراقي نصير شمة، رغم المعاناة التي لم تفارق طفولته حيث كان الموت أشبه بالرفيق، إذ نجد أنه لا تفارقه صورة العراق، وخاصة مدينة الكوت التي تربى فيها، وكذا الحضارة السومارية التي تخيل دائما، ولا يزال، أنه أحد عازفيها، لتظهر هذه الصور والذكريات من خلال أوتار عوده.

وحول تلك الذكريات، وايضاً الأشواق والنغمات المرتسمة في وحي تأثيرها، يقول شمة : درجت خلال مراحل نشأتي، وكما تربيت منذ أن كان عمري ست سنوات، على الالتزام بمسائل وركائز جوهرية، رسخها في جو العائلة ومبادئ المكان.. واعتدت على جمع مبلغ محدد من مصروفي الشخصي، لأتبرع به في كل أسبوع، إلى طفل مثلي في فلسطين، وكذلك كان يفعل كل أطفال العراق، وأذكر أنه في كل خميس، كنا نحضر مختلف المواد الغذائية من البيت:

السكر والدقيق والصابون، وزيادة مني عليها، كنت أوفر من نقود مصروفاتي أكثر من مبلغ النصف لأقوم بالتبرع بها. وبعد ذلك شعرت أن المبلغ قليل فأصبحت أبيع الخبز صباحًا في السابعة والنصف، إذ أبيع شوال خبز كبير أقوم بتوزيعه على البيوت وهكذا فإن العائد كان كبيرا؛ لأن الناس كانت تعرف عائلتي فكانوا متفاجئين كيف أن ابن شمة يمتهن هذا العمل، وهنا كانوا يعطونني نقودا أكثر، فأقوم بجمعها، وفي النهاية كنت أتبرع إلى فلسطين أكثر من ابن المحافظ نفسه.

وكان ذلك بالنسبة إليّ، مصدر سعادة، كانت أحلامنا غير شخصية وهذا أعتبره تربية إيجابية.. إنه قضية غاية في السمو. فكيف تستطيع التفاني من أجل الغير وتحبس نفسك عن شيء جميل تريده كطفل صغير، في سبيل أن تعطيه لشخص آخر فلسطيني لم تره، لكنك تشعر به عن بعد؟.

ويصف شمة حنين الإنسان إلى ذكرياته، وكيف تؤثر فيه إلى درجة تغدو معها هي المصاحبة والرفيقة التي لا تغيب: نحن أناس كل ما يسكن دواخلنا روحاني وبسيط، بشكل كبير، وذلك حتى مع شدة تعقيد عقلنا.. وأنا أجد نفسي طفلاً أمام صورة لأمي -رحمة الله عليها- وكذا أمام مشهد لأبي .

وهو يصطحبني في الشارع، فالتفاصيل التي لا تغيب عن بالي هي تفاصيل إنسانية كبرت فيها، حتى عندما يأتي شخص عائدا من بغداد قيقول لي، بغداد لم تعد كما تتصور، تشوهت.. تجدني لا أبالي بقوله. إذ لا أريد أن أسمع مثل هذا الكلام؛ لأن بغداد بالنسبة إليّ هي التي أحبها وكانت أنظف عاصمة مثل المرأة التي ترى زوجها بصورة جميلة، رغم ما في ملامحه من مشاكل، فمن يحب لا يرى العيوب، فقط يشاهد الجوهر وبالنسبة إليّ، كلما أغمض عيني أرى الجوهر في جميع الأشياء.

 

بيت الجد رضوان

هناك أماكن أثرت في شخصية المبدعين الرواد في الوطن العربي؛ خلال عصرنا الحالي، نظراً إلى ارتباطهم بها منذ الطفولة، ذلك حتى لو تناقضت جوانبها، وهو ما حدث بالنسبة للكاتب والأديب إحسان عبد القدوس، وفي حياته، حيث كان أكثر الأماكن التي لا يمكن نسيانها في حياته، بيت جده لوالده، الشيخ رضوان، الذي هو من خريجي الأزهر، حيث نشأ فيه.

وكذلك منزل والدته الفنانة والصحافية روزاليوسف، وهي مبدعة معروفة وسيدة متحررة لم تقف عند التفرغ للعمل الفني، بل اشتغلت بالصحافة والسياسة، ويقول عبد القدوس عن ذلك، كما جاء في كتاب إحسان عبد القدوس يتذكر لأميرة أبو الفتوح: شخصيتي الأدبية بنت الظروف والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها، وهي ظروف متضاربة ومتناقضة للغاية ويتهم بعضها البعض، وهذا التناقض في نشأتي الاجتماعية الأولى أثر.

ولا يزال يؤثر تأثيراً كبيراً جداً في شخصيتي، لا كأديب فحسب، بل كمفكر وكاتب سياسي واجتماعي أيضاً، وأستطيع أن أقول بلا تحفظ -كما سبق أن ذكرت- إنني نشأت في بيئة تجمع كل التضاربات والألوان المتنافرة في المجتمع المصري.

 

نزار قباني صاحب الحبين

ومن الطبيعي أن يكون للبيئة التي تربي فيها الإنسان الجزء الأكبر من الحنين والذكريات، ولكن هذا مثّل قيمة مميزة لدى الشاعر السوري الراحل، نزار قباني، فأماكنه التي أحب، استمرت تؤثر فيه بشكل نوعي، والى درجة العشق غير المنتهي والمترجم في الحرص على بقاء ذكريات ذلك المكان، حتى بعد الرحيل، وهكذا كانت اسبانيا ومحطات وذكريات عيشه بها، صنوا وقرينا لدمشق التي سكنت عمق احاسيسه وقريحته الشعرية في جميع ما ابدع وقدم من اعمال ادبية.

وعلى الرغم من أن بقاء نزار قباني في اسبانيا( اندلسه)، كان فقط إلى ما يقارب الأربع سنوات( منذ 1962 وحتى 1966)، غير أن قصائده التي جاءت بعنوان أوراق اسبانية ضمن مجموعته الرسم بالكلمات التي صدرت 1966، ظلت شاهدة على ذلك العشق، فقد تعلّم القباني اللغة الإسبانية ووصفها بأنها لغة ماء ونار، فتراه يقول:

 ليس شعر رفائيل ألبرتي، وغارثيا لوركا، ولوحة غيرنيكا لبيكاسو سوى شهادة خطيرة على تعايش الماء والنار في الفن الإسباني. وربما كانت كلمات نزار قباني عن اسبانيا وعشقه لها، تعبيرا مجازيا عن عشقه بلده الأصلي الذي نشأ فيه. ولكن شاء القدر أن يظل رحالة، يسافر بعيداً عنه.

ولكن دمشق لم تفارقه يوماً، ذلك حتى وقت النوم، وخاصة في اسبانيا، فتجده يقول معبرا عن السفر إلى إسبانيا :السفر إلى الأندلس، سفر في غابة من الدمع. وما من مرة ذهبت فيها إلى غرناطة، ونزلت في فندق الحمراء، إلا ونامت معي دمشق على مخدتي الأندلسية.

وبرّر قباني لمن يلومه على عدم استطاعته اتخاذ موقف الحياد مع ذلك البلد المعشوق: إسبانيا هي أرض الانفعال، والتوتر، ولا يمكن لأي إنسان يمر بها أو يسكنها أن يبقى محايدا، الحياد في اسبانيا كلمة لا معنى لها، فبمجرد أن تخترق حدود البيرنيه، أو تنزل على شواطئ برشلونة أو فالنسيا، تصبح طرفا في اللعبة المثيرة، وتتحول في دقائق، إلى شجرة من أشجار الغابة المحترقة.

 

درويش .. وفاء المكان

سكن المكان روح إبداعات الفلسطينيين، في شتى حقول الفكر والفن والأدب والشعر. ولكن الحال في هذا الخصوص، كانت بصيغة فرادة وتمايز. إذ ارتبطت الأشواق الى المكان والحنين الى مراتع الصبا، بأنشودة خالدة لديهم، عنوانها التأكيد في مضامين نتاجاتهم على صورة تعبر عن ألم احتلال الأرض وتشرد الشعب.

وهكذا جاءت قصائد الراحل محمود درويش مفعمة بجماليات الصور التي تصف قيمة المكان وروعة اهله، حتى وهي تحكي عن حالة الانفصام في شخصية الفلسطيني، والحرب على ذكرياته واغتيالها، بعد نزوحه. إذ بقي يتغنى معها بموجودات المكان ورمزيتها المؤكدة على يقين العودة، فشجى لزيتون بلاده وشجرها الجميل. وطعم قصائده بروح التحدي تجاه أي من اشكال الزوال التي يريدها المحتل، محيلا ذلك الى إرادة قاهرة كونتها في نفس الفلسطيني، قوة تأثير المكان والأرض.

والتعلق دائما بمقر ومرتع الأجداد، وملجأ الذكريات. فكانت كلماته تصرخ دوماً بأن البرتقال وألحان الطفولة ستصمد في وجه دبابة الإسرائيلي، لأن المكان سيكون مخلصاً لأهله الأصليين. ولأن الذكريات، ثوب جميل سينسج أبدع نغمات العودة المضفرة.

وطرح محمود درويش، مرة، أبلغ صيغ قيمة المكان، ودوره، وخاصة في الحالة الفلسطينية، ذلك بعد ان غادره:

ز: س.

ونستشف مكنون تقاطعات منوعة ومشوقة، بين الزمان والمكان، لدى درويش، في منوال تأثير غير روتيني، بل هو خلاق ومغاير. إذ يقول في إحدى قصائده:

زسبن حاضر وشاطئ جميرا

 

 

 

 

 

حكاية قوامها سرديات المكان في قالب توليفته النابضة تشويقاً وتنويعاً، ترسم صدى روحية الإبداع المتسق مع المكان والمرتبط به، لدى كوكبة من المبدعين الإماراتيين، في الشعر والتشكيل والرواية. وغيرها. ومن بين هؤلاء الشاعر الإماراتي الراحل محمد خليفة بن حاضر الذي زاوجت قصيدته بين الحب والمكان، في توليفة معانٍ متكاملة ومتعددة، لا يمكن ان تتأطر أو تنحصر في جماليات معانيها.

ومن بين قصائده المدللة على التعلق بالمكان والانجذاب الى ثيمه وأهله، تلك التي باح فيها بعشقه العميق لدبي، وتغنى ببهائها وفرادتها. ووصف الشاعر الراحل في قصديته شاطئ جميرا، تأثيرات واهمية هذا الشاطئ بالنسبة له :

 

على رملـــــــه الفُضـــــيِّ فَاضَـــــتْ قَرِيحَتـــــي

فــَأدْلَـــــــــت بِــــرُؤيـــــــــــــــــــــا للمَكـــــــــــانِ مِـــــــــــنَ الأمــــــــــــــــسِ

تَقَــــــــارَبُ أبنـــــــاءُ الحَيــــــــــــــــاةِ عــــــــــلى الثّــــــــرى

فسيَّــــــانِ فيهـــــــم سَاكــــــــــنُ القَصْــــــــــرِ والرَّمـــــــسِ

عَكَفــــــــت عليهـــــــــــــــا سَائِــــــــــــــلاً مُتَسائِـــــــــــــــــــــــلا

عــلى الحــــسِّ أحْيانـــــاً وحِينَـــــــاً عــــلى الحَــــــــدْسِ

وغَامــــــتْ بها عينـــــــي.فَغَـــــادرتُ موقعـــــــي

أُغالـــــــــــبُ آهـــــــــات تنــــــــــــــــــــــــــوءُ بهـــــــــــــــــــا نفســــــــــــــــــــــــــــــــي

وبالأُفــــق لاَذَ الخـــاطــــرُ الطَّافحُ الهوى

كأنِّـــــــــــــــي بــــــــــه يسعـــــــــــى إلى هَامــــــــــــةِ الشَّمـــــــــــــــْسِ

وخُيِّـــــــــــلَ لــــــــــــــــي أنَّ الزمـــــــــــــــــانَ أعَــــــــــــــــــــــــــــادَه

غَــريـــراً ! يناجــــــــي فاتــــــــنَ القلــــــــــــبِ بالهَـمْـــــــــــسِ

فيا شاطئَ الأحْلامِ بالسُّخطِ والرِّضى

ومجـــرى شَبــــــــابٍ مَـــــــرَّ بالسَّعــــــدِ والنّحْـــــسِ

أتيتُـــــك مـــــن عُمـــــــــــــــــــــق السنينِ مُفتشــــــــــــــا

عــن الموجـــــةِ الخجْـــلى، عن الزَّورق الورْسي

عــــن ـ النَّـــــورسِ الرَّحـــــالِ ـ ينشُـــــــدُ إلفــــــَه

إذا مافتــــــــــــاةُ الــــدَّهــــــرِ مـــَالـــــــــــــتْ إلى الغَــــــطْسِ

عن (اليَـــــلِّ) عن إنســـانِ، عيـــنِ مكانـــــــــِه

عن (البدْحَــــةِ) الفضيــــَّةِ اللّـــــــونِ (والسِلْــسِ)

أتيتُـــــك مُشْتَاقـــــــاً إلـــى (رَايــــح) الضُّــحــى

و(خرُّوفَــــــةٍ) عـــــــــــــــن عالــــمِ الــــجنِ والإنـــــــــسِ؟؟

فلــــم تُسعــــــــــــــــفِ المُشْتَــــــــــــاقَ رَدّاً وإنَّمــــــــــــا

أخــــذتَ بصمــــتٍ ـ ويــــكَ ـ أدنــــــى إلى الخُـــــــــــرْسِ

وســــاعــــــةَ أزمعـــــــــــــــتُ الــــــــــــــوداعَ أجبتنــــــــــي:

سَتَحظــــــى بما تهــــوى عــــلى شَاطـــئِ الأمسِ!

 

Email