التراث النوبي ..ثقافة «البيئة السمــراء» تصارع الضياع والإهمال

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يمثل التراث النوبي، جزءا أصيلا من مكونات الهوية المصرية وامتدادا للحضارة الفرعونية، إلا أن هذا التراث الذي يغتني بالحضارة النوبية، بما تحويه من فنون وموسيقى وعمارة وتقاليد، يتعرّض، حسب آراء متخصصين، إلى ظلم كبير؛ نظرا لإهماله على مدار عقود طويلة.

وهو ما دفع خبراء في الثقافة النوبية إلى إطلاق دعوات مكثفة، خلال الفترة الأخيرة، تنضوي في إطار مشروعات تثقيف ممنهجة، غرضها الأساس، حفظ مفردات التراث« النوبي»، وخصوصا لغته التي أصبحت مهددة بالاندثار.

 

يؤكد خبراء متخصصون في مضمون التراث النوبي، مدى اهمية هذا التراث وقيمته، كونه شكل اساسا حيويا لركائز التطوير في مختلف الفنون والعلوم، وابرزها العمارة التقليدية، التي اتصفت، ضمن الحضارة النوبية، بملامح جماليات نوعية، برزت معها البيوت المبنية من الطين. ولم يقتصر الامر على ذلك، بل شملت تلك الركائز، عدة جوانب من الوان الابداع والفنون في الحضارة الانسانية، ومنها: الموسيقى، البعد الثقافي والاجتماعي في النوبة، المنتوجات النوبية.

 

ملامح وجماليات

حول تفرد مواصفات وجماليات البيت النوبي، يبيّن المهندس عماد فريد، الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العمارة البيئية، وصاحب مشروع عمارة الجبل الأبيض في سيوة، في حديث متخصص له، ضمن مؤتمر حول الثقافة النوبية، نظم في مصر، اخيرا، أن البيت النوبي هو نتاج الثقافة والحضارة النوبية التي امتزجت بالحضارة المصرية.

ويضيف: " شكل البيت المصري القديم، إلى حد ما، امتدادا للبيت النوبي، سواء في طريقة تكوينه أو في خامات البناء التي استخدمت فيه، حيث إن البيت في صعيد مصر، قبل دخول الإسلام، كان يبنى من القبب الطينية، وهذا ما أدى إلى انتشار القبو النوبي. ولكن بعد دخول الإسلام الى النوبة، اختفى القبو وكذا حصل للقبب، وبدأ ينتشر السقف المستوي المسطح، المصنوع من جريد النخيل".

كما يشير عماد فريد إلى أن الكنيسة النوبية، اتسمت بشخصيتها المعمارية المتفردة، النابعة من طبيعة البيئة والمناخ والخامات الموجودة في النوبة، موضحًا أن الحضارة النوبية، نتاج نهر النيل، بكل معطياته، وهي قضية أهلت هذا الشعب (الشعب النوبي)، كي يستطيع العيش على وادي النيل، سواء في مصر أو ضمن منطقة امتداد النوبة.

ويلفت فريد، ايضا، إلى أن أجداد المصريين، هم أفضل من استطاع أن يعيش ضمن منطقة وادي النيل، ومن ثم أن يتعامل معه بوجهة هذبت ما يفرزه من عقبات وصعوبات، وطوعت ما يمليه ويؤدي اليه من قضايا، ذلك من اجل توفير مقومات حياتية مناسبة.

 

فنون "المشربيات"

يرى دارسون وخبراء كثر، ان الثقافة النوبية ومكوناتها الحضارية، بشكل عام، باتت تتعرض الى جملة تهديديات تطال جوهرها.

وكذا أخذت تعاني غزوا أجنبيا للعمارة المصرية، متمثلا في نمط البيوت التي بنيت على الطراز الأوروبي. ويتحسّر مثقفون ومؤرخون عديدون، على جملة مفردات في فنون العمارة النوبية، فقدت انتشارها حاليا، وباتت مهددة بالانقراض، ومنها: زخارف وتصاميم" المشربية"، مجموعة ملامح وتصاميم تراثية للابنية والشوارع في مصر قديما( تحديدا قبل الحضارة الاسلامية).

 

قيمة

يتميز البيت النوبي بخصوصية وسمات جاذبية متنوعة، كما انه لا يقتصر على هذه الجوانب، فهو يمثل أرفع نماذج الوحدات السكنية ذات الطابع الاقتصادي. وحسب ابحاث المهندس عماد فريد، يجسد البيت النوبي نموذجا لوحدة اقتصادية متكاملة وعملية الطابع، وبذا فهو ليس مكانًا للسكن فقط، إذ إن مساحة المنزل كبيرة جدًا، وأحيانًا تصل إلى مساحة ما يقدر بال ( فدان ).

وكذلك هو مقسم إلى حجرات منفصلة، ومنها المخصصة للمعيشة، واخرى المطبخ، وثالثة للتخزين ( تكون في الجهة الشرقية من المنزل. وأما في الجهة الشمالية للمنزل، فتوجد حجرات عديدة، تتكون من الفناء، وكذا حجرة كبيرة تسمى الديوان، إضافة الى دورة مياه ومطبخ.

وأما في الجهة الجنوبية للمنزل، فتوجد صالة مغطاة تطل على فنائه. كما أن البيت النوبي كان يضج بالحيوية المتأتية عن النشاط الإنساني ضمنه. إذ اشتمل على امكنة كثيرة: مكان لتربية الحيوانات، مكان للزرع، مكان للصناعات التقليدية التي يحتاجها المنزل (كالمشغولات اليدوية).

 

هوية وإصرار

يفسر المهندس عماد فريد، بابحاثه ضمن هذا الموضوع، ماهية انشطة الانسان النوبي، وقدرته على تجاوز اي من المعوقات، وصولا الى نجاحه في الحفاظ على مكنون ثقافته وبنيتها، على الرغم من المشاكل والاخطار والتهديدات التي تعرض لها، اخيرا، ومنها تهجيره من قرى النوبة. إلى جانب عوامل عدم درايته بطبيعة غنى القيمة الحضارية والثقافية للمفردات التي يشتمل عليها بيته.

وكذا بناء الجهات الرسمية، لمنازل تخالف الطابع النوبي. ولكن ذلك، بجميع ما املاه وافرزه، حسب فريد، لم يهزم ارادة النوبي في حفظ مكون هويته، فظل في هذا الاطار، مصمما على استعادة مكونات حضارته باي من الاشكال، وفي شتى المناسبات.

واصر على استرجاع الكثير من انماطه وتجسيداته واشكاله. خلصت دراسات وابحاث كثيرة، الى ان فن العمارة في الحضارة النوبية، يعد من ارفع اشكال ومقومات خصوصيتها وتفردها، إذ انه يتمتع بمزايا غير متوافرة في اي من فنون العمارة في الحضارات الاخرى.

وتوضح موضوعات بحثية في هذا الجانب، قدمها المهندس رامز إبراهيم، في مؤتمر خاص عن موضوع " الحضارة النوبية "، أن البناء شكل جزءا محوريا من توليفة مكون حضارة النوبة، فالبناء باستخدام الطين يرجع إلى المصريين القدماء، إذ كانت هناك كميات كبيرة من خامة الطين، لذلك استفاد النوبيون من هذه الخامة في البناء.

واما عن مواصفات البيت النوبي، فيوضح رامز ابراهيم، أنه كان يعتمد في بنائه على الطوب اللَّبِنُ، المستقى في مادته من البيئة النوبية، إذ إن خامات هذا الطوب تتيح صنع أشكال عديدة يصعب على الخامات الحديثة، مثل الخرسانة والطوب، أن توفرها.

ويقول: " كان يخمر الطوب المستخدم، بالتبن، ذلك ليكون الاخير، عاملاً مساعدًا على توفير عامل خفة وزن الطوب وعدم تشققه.. ومما لا شك فيه، أن البناء بالطين والخامات البيئية، يمثل نوعا من التنمية المستدامة؛ لأن هذه الخامة يعاد استخدامها مرة أخرى، ومن ثم تحدث نوعا من التنمية الشاملة في البناء".

 

 

خمس بيئات

وفي السياق ذاته، وحول جانب اخر ضمن الحضارة النوبية، يشرح الدكتور فتحي الخميسي، رئيس قسم علوم الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى العربية، في ابحاث واحاديث عديدة اجراها، ماهية الفن والموسيقى في النوبة، إذ يرى أن الفن الشعبي النوبي بصفة عامة، من أكثر الفنون الإقليمية المصرية التي ظُلمت؛ نظرا إلى إهماله على مدار السنين، إلا أنه ظل مدافعًا عن نفسه من الفقدان أو الانقراض.

كما أن النوبة، هي أكثر إقليم تعرض لخسارة فادحة في فنه وثقافته الشعبية، وأطلق على التراث النوبي الذي يعد جزءا من الحضارة المصرية والتراث المصري وصف "البيئة السمراء"، التي تشتمل على ثقافة النوبة وأسوان.

كما يقسم الخميسي، مصر، إلى خمس بيئات ثقافية فنية، تتمثل في: النوبة، المدن، البدو، الصعيد، الريف. وهذا التقسيم -حسب الخميسي- نابع من وجود خمس بيئات ثقافية وفنية وحضارية واجتماعية كبرى. وتختلف اي بيئة فيها عن الأخرى، من حيث ملامح الفن والموسيقى في كل منها، فلكل واحدة منها، لغة وقاموس ونوتة موسيقية متمايزة تماما.

ويؤكد ايضا أن الفن الشعبي لا يمكن أن يتغير ويفقد هويته؛ لأن دورته لا تنتهي في كل بيئاته، مثل الأغاني النوبية، والتي هي في الأصل، مأخوذة من الأغاني الفرعونية. ويقدم الخميسي، نصيحة جوهرية، في هذا الاطار، يشدد معها على ضرورة الحفاظ على الفن الشعبي النوبي والصعيدي والبدوي.

ومنع طغيان فن المدن الرسمي. إذ لابد أن تقوم "قصور الثقافة المصرية"، طبقا لرايه، بدورها في الحفاظ على التراث الفني والموسيقى والشعبي للبيئات الثقافية الخمسة، وذلك بأن يدرس قصر الثقافة التابع لكل محافظة، فنها وتراثها الشعبي، ويحافظ عليه ويحميه من ضياع الهوية. ومن ثم يجب الاهتمام بمؤسسات قصور الثقافة للارتقاء بالفن الشعبي المصري، حتى تقوم بدورها في هذا الشأن.

ويستشهد الخميسي، بمثال مهم في هذا الصدد، اذ ان معهد الكونسرفتوار، هو أبلغ دلالة على ضياع الفن الشعبي والموسيقى العربية، كونه مستعمرة موسيقية داخل مصر -على حد قوله. وعلى هذا الاساس، فهو يشدد على اهمية الحفاظ على التراث الفني الشعبي المصري.

ومنع محاولات اختراق الفن الأوروبي جسد الفن الشعبي، مبديا رفضه للفن والموسيقى الحالية، وواصفا اياها، بأنها نتاج فساد فني وموسيقى كامل في مصر. فبرأيه، كل الأعمال الفنية والموسيقية التي أنتجتها الإذاعة والتلفزيون في السنوات الأخيرة، تخريب للموسيقى العربية.

 

أهمية وضرورة

ليس هناك من عنصر ومقوم اهم واكثر الحاحا، في سياق حفظ الثقافة النوبية، من اللغة، حسب ما توضح الدكتوره فينوس فؤاد، الناقدة والفنانة التشكيلية، مشيرة الى دور وقيمة اللغة النوبية، وضرورة العمل على أحيائها وتطويرها، معربة عن سعادتها لأن جميع برامج المرشحين للرئاسة بمصر، ألقى الضوء على مشاكل النوبة والاهتمام بها، ومطالبة بأن نسلط الضوء على أهمية اللغة النوبية، لأنها أصحبت مهددة بالانقراض.

 

Email