مدارات تاريخية

أيزنهاور.. صانع سياسة «ملء الفراغ»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الثامن والعشرين من مارس 1969، ودعت الولايات المتحدة واحدا من أهم رؤسائها في القرن العشرين وهو دوايت أيزنهاور، أو «آيك» كما كان يدلل. وهو رئيس من فصيلة الحزب الجمهوري وحكم أميركا خلال الفترة من عام 1953 الى 1961.

بلغ سدة الحكم خلفا للرئيس هاري ترومان، بفوز كاسح في انتخابات عام 52 . وكان الناخب وقتها يحمل أشهر لافتة تقول: (أحب ايك). فقد اكتسب شعبيته من تاريخه العسكري ، واختاره الأميركيون باعتباره بطلا جلب انتصار الحلفاء على النازية. اذ كان رئيس اركان قوات التحالف خلال الحرب العالمية الثانية، ولعب دوراً بارزاً في تحرير فرنسا واجتياح الأراضي الألمانية. كما أنه أول قائد لقوات حلف شمال الأطلسي »الناتو« في عام 1949.

استهل أيزنهاور حكمه بالعمل على إنهاء الحرب الكورية (يوليو 1953). وبالنسبة للشرق الأوسط، فقد أمر عام 1954 بإصدار كتيب عن السياسة الأميركية تجاه إسرائيل. جاء فيه أن »إسرائيل ولدت بعد الحرب العالمية الثانية وقامت لتعيش مع غيرها من الدول التي اقترنت مصالح الولايات المتحدة بقيامها«. ورغم ما قيل عن أيزنهاور عن أنه حرص على تخفيف حدة التوتر والمحافظة على السلام العالمي، الا أن اسمه ارتبط بما عرف بسياسة «ملء الفراغ» في الشرق الأوسط، او ما سمي بـ « مبدأ أيزنهاور».

وقد أعلنه في الخامس من يناير 1957 في رسالة للكونغرس ركز فيها على أهمية سد الفراغ الذي نتج في المنطقة بعد انسحاب بريطانيا منها. وحدد الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط لمرحلة ما بعد حرب السويس تحت ذريعة احتواء التمدد السوفييتي باتجاه المنطقة. ومطالب أيزنهاور من الكونغرس لتنفيذ هذه السياسة هي:

- تفويض الرئيس سلطة استخدام القوة العسكرية في الحالات التي يراها ضرورية لضمان السلامة الإقليمية، وحماية أي دولة، أو مجموعة من الدول في الشرق الأوسط، إذا ما طلبت مثل المقاومة على أي اعتداء عسكري سافر تتعرض له من قبل أي مصدر تسيطر عليه الشيوعية الدولية.

- تفويض الحكومة الأميركية في وضع برامج المساعدة العسكرية لأي دولة أو مجموعة من دول المنطقة إذا ما أبدت استعدادها لذلك، وكذلك تفويضها في تقديم العون الاقتصادي.

مبدأ أيزنهاور، لاقى معارضة العديد من الدول العربية وعلى رأسها مصر وسوريا، حيث رأت أنه سيؤدي إلى تقسيم الدول العربية إلى فريقين متضاربين : أحدهما مؤيد للاتحاد السوفييتي والآخر خاضع للهيمنة الغربية. وندد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بهذا المبدأ ووصفه بأنه يرمي إلى قمع النضال في المنطقة وربط المنطقة بسياسة واشنطن. ويمكن القول إنه قبل الإعلان عن سياسة ملء الفراغ وبالتحديد خلال العدوان الثلاثي على مصر، كان موقف أيزنهاور غير عدائي تجاه مصر . ويقول «بيتر إل هان» أستاذ التاريخ بجامعة ولاية أوهايو إن أيزنهاور عالج أزمة السويس على أساس ثلاث فرضيات أساسية ومتداخلة:

أولاً- مع أنه تعاطف مع رغبة بريطانيا وفرنسا في استعادة شركة القناة، فإنه لم يعارض حق مصر في السيطرة على الشركة، شريطة أن تدفع تعويضا كافياً كما يقتضي القانون الدولي. وبذلك كان أيزنهاور يسعى إلى تسوية نزاع القناة بالطرق الدبلوماسية قبل أن يستغل الاتحاد السوفييتي الوضع لتحقيق مكاسب سياسية. وكلّف وزير خارجيته جون فوستر دالاس بنزع فتيل الأزمة بشروط مقبولة لبريطانيا وفرنسا عن طريق البيانات العلنية والمفاوضات ومؤتمرين دوليين في لندن وتأسيس مؤسسة لمستخدمي قناة السويس، ومداولات في الأمم المتحدة. إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل بحلول أواخر أكتوبر، واستمرت الاستعدادات الأنجلو - فرنسية للحرب.

ثانياً- سعى أيزنهاور لتجنب استعداء القوميين العرب وضم رجال دولة عرب في مساعيه الدبلوماسية لإنهاء الأزمة. ونتج رفضه تأييد استخدام القوة الأنجلو - فرنسية ضد مصر جزئيا عن إدراكه بأن استيلاء عبد الناصر على القناة حظي بشعبية واسعة لدى الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى. بل إن تصاعد شعبية عبد الناصر في الدول العربية أضعفت جهود أيزنهاور لتسوية أزمة القناة بالاشتراك مع الزعماء العرب. ورفض السعوديون والعراقيون الاقتراحات الأميركية بانتقاد إجراء عبد الناصر أو تحدي هيبته.

ثالثاً- سعى أيزنهاور إلى عزل إسرائيل عن نزاع القناة خشية أن يؤدي النزاعان الإسرائيلي - المصري و الأنجلو فرنسي- المصري المتفجران إلى إشعال الشرق الأوسط. لذا حرم وزير دالاس إسرائيل من أي صوت في المؤتمرات التي عقدت لتسوية الأزمة ومنع مناقشة مظالم إسرائيل حول السياسة المصرية خلال مداولات الأمم المتحدة. وشعر أيزنهاور بازدياد حدة موقف إسرائيل المشاكس نحو مصر في شهري أغسطس وسبتمبر (1956 ) وقام بترتيب إمدادات محدودة من الأسلحة لإسرائيل من الولايات المتحدة وفرنسا وكندا أملا في الحد من إحساس إسرائيل بعدم الأمن وبالتالي تجنب نشوب حرب مصرية - إسرائيلية.

وبوجه عام، يقال إن أيزنهاور قبل مغادرته منصبه في يناير1961، حث خليفته ( جون كيندي) على ضرورة الاحتفاظ بقوة عسكرية ملائمة، وفي الوقت نفسه، حذر من أن النفقات العسكرية الضخمة المستمرة لأمد طويل يمكنها أن تولد أخطاراً للمجتمع الأميركي.

Email