مدارات ساخنة

الهند بين التطرف والفوضى

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة مومباي الهندية مؤخرا، والتي أدت إلى مقتل وجرح مايزيد على الأربعمئة شخص، تعتبر امتدادا لحلقات العنف الدموي التي تعيشها الهند منذ عقود، على ضوء الاحتقان الديني بين الطوائف الهندية المختلفة. وخاصة العلاقات بين الهندوس الذين يمثلون الأكثرية من ناحية وبين بقية عناصر المجتمع ممثلين في المسلمين والمسيحيين والسيخ من ناحية أخرى.

فالديمقراطية والعلمانية اللتان تتفاخر بهما الهند لم تفلحا بعد في لملمة شتات الأمة الهندية أو بالأدق الأمم الهندية داخل حدود الدولة، ذلك أن حالة التطرف بين الأغلبية الهندوسية طغت على حقوق الأقليات الأخرى على كافة المستويات، بل أنها وصلت إلى المس بجوهر التعايش السلمي بين الأغلبية والأقليات.

وحتى ننعش الذاكرة الإنسانية الرخوة التي تسعى إلى حصر أحداث العنف بيوم الأربعاء قبل الماضي فقط، وكأنها حالة مستجدة على الهند، نذكر أن أنديرا غاندي رئيسة الوزراء الهندية الراحلة اغتيلت في أكتوبر من العام 1984, على خلفية أحداث عنف انطلقت من دوافع دينية، بسبب ما رآه السيخ إفراطا من جانب الدولة في استخدام قوتها العسكرية ضدهم وضد مقدساتهم الدينية، وفي أعلاها المعبد الذهبي في أمريستار. وكان القتلة من السيخ ضمن حراسها الشخصيين.

وفي خلال السنوات الماضية شهدت الهند حوادث عنف ديني على خلفية تأزم العلاقة بين المسلمين والهندوس. وكان منها تلك الأحداث الدامية التي جرت في مومباي خلال يوليو من العام 2006 وسقط فيها 190قتيلا ونحو700 جريح. وشهد العام 2002 إعدام نحو ألفي مسلم في جوجارات قتلا وحرقا بيد الهندوس المتطرفين.

أما أشد تلك الحوادث دموية فقد ارتبطت باقتحام وهدم مسجد بابري الذي يعتز به المسلمون الهنود، نظرا لقيمته الدينية والتاريخية. ففي تلك الأحداث التي امتدت لأشهر قتل وجرح الآلاف. وكانت ذروتها الدموية في العام 1992, عندما قتل حوالي ألفي شخص في هدم المسجد، وسط حالة من التواطؤ بين أجهزة الدولة وبين المنظمات الهندوسية، وفي مقدمتها المنظمات المغذية لحزب بهاراتيا جاناتا، ذلك الحزب الذي حكم البلاد خلال الفترة من 1996 إلى 2004.

وعلى الرغم من مضى ما يزيد على الخمسة عشر عاما على هدم المسجد، فان الدولة الهندية لا تزال عاجزة عن حل هذه المشكلة التي تؤزم - مع مشكلة كشمير-العلاقة بين المسلمين والهندوس. كما لم تخل العلاقة بين الهندوس والمسيحيين من أحداث عنف دامية وصلت إلى حد القتل وهدم الكنائس.

وأدت أعمال العنف إلى نزوح آلاف المسيحيين الهنود إلى مخيمات إغاثة، كما حدث في شرق ولاية أوريسا، حتى أن بابا الفاتيكان انتقد بشدة أعمال العنف بحق رعاياه المسيحيين على أيدي الهندوس ووصفهم بالآثمين، وذلك في كلمة له مؤخرا بمناسبة إعلان أول قديسة مسيحية في الهند، وهي الراهبة الفونسا المتوفاة قبل أكثر من نصف قرن. ودعا بابا الفاتيكان الدولة الهندية إلى إنهاء أعمال العنف، وذاك في انتقاد مبطن لها.

هناك بالفعل أزمة تعايش بين الطوائف الهندية بسبب تطرف بعض الهندوس من منطلق إيديولوجي يسعي إلى دولة هندية خالصة للهندوس على غرار الأيديولوجية التي تتمسك بها إسرائيل بشأن يهودية الدولة. وهؤلاء المتطرفون يسعون بجد إلى تحقيق مشروعهم، وقد نجحوا بالفعل في اختراق المؤسسات الرسمية.

وهكذا فان الهند أمام أزمة حقيقية بدأت تنال من تماسك الدولة بسبب استقواء، بل طغيان فئة على حقوق بقية الفئات، فالهند يبلغ عدد سكانها نحو مليار ومئتي مليون شخص، ويشكل الهندوس بينهم نحو 80% ، ويأتي المسلمون في الترتيب الثاني بنسبة 12% ، يليهم البوذيون والسيخ والمسيحيون بنسبة2% لكل منهم. والباقون ينتمون إلى ديانات أخرى مختلفة.

هذا هو حال الهند منذ عقود، فهي تشهد انفجارات وأعمال عنف متعاظمة، لكن التعامل الرسمي والدولي معها يضعها دوما في نطاق محدود، لكن هجمات هذه المرة اكتسبت أهمية خاصة جدا لعدة عوامل منها :

(1) اتخاذ الهجمات بعدا دوليا حرص عليه المهاجمون، من حيث الأماكن المستهدفة، ومنها أماكن سياحية مثل فندقى تاج محل وأوبروى ومقهى ليوبولد ومحطة السكة الحديد، وهى أماكن يتواجد بها سياح غربيون من جنسيات متنوعة، كما شملت الهجمات أماكن دينية مثل مبنى ناريمان هاوس الذي يضم مكاتب ومحال إقامة لأفراد من الطائفة اليهودية. وهو ما جعل الدول الغربية وإسرائيل التي لها رعايا إلى الاهتمام والتحرك.

(2) استهداف المهاجمين لقوى الأمن في مومباي، وقتل قائد قوة مكافحة الإرهاب مما يشي بأنهم يمتلكون معلومات استخباراتية دقيقة تجاه أهدافهم، وفي ذات الوقت تمثل الهجمات إخفاقا استخباراتيا وأمنيا هنديا، إذ لم تتحسب أجهزة الأمن والاستخبارات الهندية لهذه الهجمات، على الرغم من إعلان مسؤول كبير بالاستخبارات الروسية كشف فيه لوكالة الأنباء الفرنسية( فور وقوع الهجوم) أنهم أبلغوا الهند بمعلومات عن تلك المجموعات المنفذة للهجمات، لكن الأجهزة الهندية لم تهتم بالتحرك المبكر. وكان في استقالة وزير الداخلية الهندي اعترافا ضمنيا بوجود هذا الفشل.

(3) الربط بين المهاجمين وتنظيم القاعدة، ولو صحت هذه الفرضية فإنها تعني أن الهند صارت هدفا إستراتيجيا في مخططات هذا التنظيم الدولي، وليس هذا فقط بل إن الوجود الغربي والإسرائيلي صار هدفا ثابتا لهجمات التنظيم أينما كان هذا الوجود.

(4) توقيت ومكان الهجمات من حيث الأزمة الاقتصادية العالمية، ووقوعها في مومباي العاصمة الاقتصادية للهند، مع الوضع في الاعتبار أن التقارير الدولية تكشف أن الهند هي من أقل الدول تأثرا بهذه الأزمة، وأنها مرشحة الى جانب الصين للعب دور اقتصادي عالمي مستقبلا على حساب الاقتصادات الغربية.

كل هذا يجعلها في مرمى التخريب الاقتصادي المباشر وغير المباشر، بكل السبل والوسائل، من جانب الدول المتضررة بالأزمة، وتلك الدول تمتلك مقومات استخباراتية وعملياتية ضخمة. وهنا يتداخل العنصر الدولي مع الإقليمي، مع استحضار فكر وأسلوب تنظيم القاعدة. وليس من المستبعد أن يكون في الأمر توظيفا استخباراتيا إقليميا لحساب مصالح دول مهيمنة.

وفي هذا الجانب الاقتصادي كانت بعض التقارير والتحليلات الدولية قد أشارت مؤخرا إلى تحول فوائض مالية عالمية من الغرب إلى الشرق. وتوقعت بعض التقديرات توجه ما يزيد على الأربعمئة مليار دولار إلى دول آسيوية.

وهذا يجعل من الشقيقات الآسيويات أهدافا غير بعيدة عن مثل هذه الضربات مستقبلا، فالقوى العالمية المهيمنة المتضررة من الأزمة الاقتصادية قادرة على توظيف الإرهاب الدولي بكل الوجوه، بداية من هجمات بومباى إلى القرصنة الصومالية.

وليس مستبعدا أن تكون كل هذه المعاني حاضرة في ذهن الساسة الهنود وهم يتحدثون عن الهجمات ومن يقف وراءها. ولهذا حرصوا على عدم الاهتمام بدور العامل الداخلي فيها، ربما للتهرب من الاستحقاقات.

فهذا العامل وان كان حاضرا في (منظمة مجاهدي ديكان) التي أعلنت مسؤوليتها، إلا أنه من غير المستبعد أن يكون قد تم توظيفه دوليا وإقليميا. لكن ذلك لا ينفي أن التطرف الهندوسي يمثل سببا جامحا في كل أزمات الهند الداخلية.

وعلى هذا الصعيد فان الوقت قد حان لأن تتعامل الدولة الهندية والنخب الحاكمة بجدية مع التطرف الهندوسي من موقع التأثيم وليس التدليل، لأنه سيظل يمثل خطرا مستديما على الدولة والمجتمع، بل ومصدر استقطاب دولي لقطاعات هندية داخلية، وميدانا نشطا للتدخلات الخارجية في الهندي الداخلي سواء على مستوى المسلمين أو المسيحيين أو السيخ.

فالفترة المقبلة ستشهد عالميا حروبا مالية واقتصادية عالية المستوى من التقنية والدموية بين القوى المهيمنة والقوى الصاعدة، بل إن القوى المالية العالمثالثية لن تكون بمنأى عن تلك التهديدات، لأن لديها مايغرى الطامعين الأقوياء الذين لن يسمحوا لمكانتهم العالمية بالتراجع تحت أي ظرف.

ولاشك أن هذه الأحداث الدامية سوف تترك آثارها على وجه الهند لفترة طويلة مقبلة خاصة على المستقبل المالي والاقتصادي، فيما يتصل بجذب الاستثمارات والفوائض المالية العالمية، فهذه الهجمات جعلت درجة المخاطرة المالية في الهند تتقارب إلى حد كبير مع المخاطرة القائمة في الغرب، وان كان هناك اختلاف في النوع، ففي الهند خطر أمني وفي الغرب خطر اقتصادي، ولكن رأس المال جبان يخاف من خياله.

فإذا ما تكررت هذه الأحداث، وهي ستكون كذلك إذا ما استمرت أسبابها. فالهند بأكملها وليس مومباي فقط مرشحة لفقدان مكانتها المالية المرتقبة، خاصة وأن التركيز المستمر على معاناة المسلمين الهنود إعلاميا، إلى جانب التطور المتنامي في العلاقة الهندية الإسرائيلية ستضع - إلى حد ما - حاجزا نفسيا بين المال العربي وبين الأسواق الهندية، مع الأخذ في الاعتبار أن المال العربي هو المرشح عالميا للهروب من الغرب إلى الشرق.

وربما تكون كل هذه الأهداف وغيرها كانت حاضرة في ذهن مخططي العمليات. وهنا لا نستبعد أن يكون المخططون استهدفوا أيضا إذكاء التوترات الإقليمية من اجل استنزاف الهند لإهدار فرصها في الانتقال إلى الصدارة الاقتصادية العالمية، ففي إشعال الأزمات الدينية والاثنية في أي جزء من القارة الآسيوية وسيلة لنشر الفوضى السريعة الانتقال بين دول المنطقة، ولاتستثنى الصين من ذلك بفعل التعدد الديني والثقافي، وبفعل جاهزية المنطقة بأكملها للاشتعال.

والملاحظ أن السلوك الرسمي الهندي تسرع كثيرا في إلقاء اللوم على باكستان قبل تقصى الحقيقة، وهو ما يكشف عن استحضار ميراث العداء، في موقف ينم عن التخبط والاستئساد، بما يوحي بان الهند المتأزمة داخليا ليست محصنة من الانزلاق خارجيا. وهذا كله يعني أن استراتيجيات نشر الفوضى في العالم صارت قابلة للتدويل من جانب القوى المهيمنة ضد نظيرتها الكبرى، ولم تعد فقط موجهة نحو الدول الصغرى، لأنها صارت تستهدف الجميع في زمن الفوضى المالية والاقتصادية.

إضاءة

يعتبر تنظيم مجاهدي ديكان الذي أعلن مسؤوليته عن الأحداث مجهولاً في تاريخ الصراع الداخلي الهندي، لكن الملفت أنه رغم حداثته فان هجمات مومباي كشفت أنه يتمتع بقدرات تنظيمية عالية المستوى من حيث التخطيط والتنفيذ.

وكلمة ديكان تعني الجنوب، وهو اسم هضبة تضم عددا من ولايات الهند الجنوبية، يرى بعض سكانها المسلمون انهم يتعرضون للاضطهاد الهندوسي. وهذا أيضا ما عبر عنه المهاجمون. و فور وقوع الهجمات في مومباي أعلنت أجهزة الأمن الهندية أن تنظيم مجاهدي ديكان مجرد واجهة لتنظيمات باكستانية معادية للهند مثل (عسكر طيبة)، وهو ما لم يتأكد بعد.

المحرر سياسي

Email