رحلات مكوكية بين حافة الأرض وتخوم السماء

رحلات مكوكية بين حافة الأرض وتخوم السماء

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بثياب رثّة وعيون مليئة بالشجن، ببشرة ألبستها الشمس رداء داكناً، وقواما ما زال قادراً على تقديم الخدمات المجانية، يدقون أبوابنا كظل خفيف، يلقون التحية بهزة رأس كناقوس يدق، حيث لا تشغلنا شاغلة ولا تعكر صفو مزاجنا جزئيات الحياة، وحيث لا نهدر وقتنا على الطريق، يكون عمال البقالة منتظرين داخل زنزاناتهم المتحركة.

ما بين الدور الأول والدور الخامس والعشرين يهدر راجن البقال عقوداً من عمره معلقاً داخل غرفة معدنية متحركة بشكل عمودي، تشبه زنزانة منفردة بباب معدني ينزلق أفقياً، والتي تدعى المصعد بلغتنا و (left elevator) بلغة أخرى، وأما راجن البقال فيدعوها (غرفة مال أنا)،، يقطن فيها منذ سنين... يفتح بابها على أشخاص مغادرين دون عودة ويغلق على اخرين جدد قادمين بلا أمل بالعودة.

ما يدهشك براجن من خلال سفره الدائم بين حافة الأرض وتخوم السماء، معرفته أحوال سكان المبنى وأوضاعهم المعيشية وشؤونهم العائلية، أكثر مما يعرف عن عائلة غادرها منذ عقود وعن أولاد لم يرهم حتى الآن وزوجة لم ينعم بحضنها غير ليلة واحدة، ليس ما يدور برأسه سوى أرقام شقق وطوابق وأسعار مواد استهلاكية.

عمليات حسابية لنقود يأخذها ويعيد البقية، يعرف سكان العمارة من أصواتهم على الهاتف ومن سياراتهم على الأرصفة... من زائريهم وضيوفهم... من لباسهم ومشيتهم ورائحة عطورهم.

الشمع والقداحة والدخان للطابق العاشر، فالكهرباء عند حسام مقطوعة، ونور الطريق لا يكفي ليكمل قراءة دروسه في اللغة.

واللبن السعودي (بدون دسم) والبطاطا وبسكويت دايجستيف للطابق الثاني، لابن أم سمير الذي يعاني بالتأكيد من عسر الهضم أو وعكة صحية حادة.

المارلبورو والمكسرات المالحة والريدبول وعصير البرتقال لمروان، العاشق الذي طلّق زوجته فور قدومه من السفر.

البصل والزيتون والبقدونس وحبتان من التفاح حتماً للسيد رجب الذي يصر على بناء منزل له في بلده على حساب ما يدخره من طعام.

راجن لا يرغب بالصعود للطابق العشرين، ليس خوفاً من الارتفاعات ولا كرهاً بقاطنيها، بل بسبب فتى نزق جعله ومن أجل قطعة شوكولا صغيرة بدرهم واحد يقوم بثلاث جولات صعوداً وهبوطاً، ليختار الماركة التي رآها على التلفاز أمس، والجولة الرابعة ليعيد بقية المئة درهم الذي تناولها مع غصة في حلقه ولوعة في قلبه، ودون أن ينبس ببنت شفة.

ما يحزن راجن هو رحيل الجميع بلا عودة، وبقاؤه في (غرفة مال أنا) وحيداً، يوصل الطلبات لباب البيت، فما أن تتوطد علاقته بالقاطن الجديد وما يتركه من فكة وبقشيش، حتى يرحل سريعاً دون استئذان لمبنى آخر وبقال آخر.

يجمع راجن طلبات بنايته ويأخذها دفعة واحدة، يبقى بالمصعد متنقلاً كعصفور داخل قفص من طابق لآخر، ومن شقة لأخرى، يرى ما يرى ويسمع ما يسمع، يدندن نغمات غير مفهومة تهشم له رتابة الطريق، ويرطن بكلمات مبهمة لا يفهمها سوى أولاد عمومته في العمل.

وفي الطريق صعوداً يقل من عادوا من العمل، وفي الطريق هبوطاً يساعد في حمل أغراضهم الشخصية دون أن ينسى مداعبة أطفالهم، كسائق تاكسي، بدون عداد وبغير أجر.

من يبتسم له إشفاقاً، ومن يرمقه بعين ساخرة، ومن يصرخ بوجهه متهماً إياه بالغباء والهبل، أو من يبتعد عنه وعن رائحة عرقه.

راجن يعمل منذ الثامنة صباحاً وحتى الثانية ليلاً، وساعتان للراحة يقضيهما في غسل السيارات، ليضيف مئتي درهم لأجر شهري لا يتجاوز الثمانمئة درهم.

لم يخطر لنا مرة أن نتوقف لنسأله ماذا يدندن؟ أو بماذا يفكر؟ أو أين ينام؟

أيحلم راجن البقال الذي نمر بجانبه غير مكترثين لأمره، أو شاعرين بمعاناته بتقصير مدة عقوبته داخل غرفة معدنية تشعره دائماً بالزنزانة الانفرادية. أو تقليل لساعات العمل التي يقضيها في حياته.

محلقاً تارة وهابطاً تارة أخرى. أم بزيادة لأبخس أجر يتلقاه رجل على وجه الخليقة، أو بعودة ظافرة لرجل تتكاثر أسرته بغيابه بفعل وصاية الشقيق في غياب الزوج، أو بثورة لأكثر الرجال صبراً على ابتلاع المر والعلقم ومضغ الوحدة والغربة والفقر بوجه بشوش.

أتعرف من دخل الآن إلى شقتي وأنا أكتب عن راجن؟

إنه راجن بعينيه البراقتين وجسده المهدود، وسحنة اكتسحتها الكآبة، وضع الجيتان لايت على الطاولة وخرج بهدوء ليضيفها على حساب آخر الشهر.

بسيم الريس

Email