الراعي ـ قصة حياة سفاح - الحلقة الخامسة

بارليف يتهم شارون بتسريب معلومات للصحافة حول تحصينات قناة السويس

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال الأشهر الأولى من عام 1968 انشغل الجيش الإسرائيلي بدراسة انتشار قوات الجيش في سيناء لا سيما في منطقة قناة السويس، وشارون باعتباره مسؤول شعبة التخطيط أعرب عن رأيه بوجوب استخدام قوات مدرعة متحركة على مسافة تتراوح بين 10-20 كيلو متراً شرقي القناة والسيطرة على خط المياه بواسطة نقاط مراقبة ودوريات محدودة العدد.

وشرح شارون أهمية خطته بالقول : «انه طالما لا توجد حرب شاملة في سيناء فإن القوات المدرعة ستكون متمركزة مع المشاة في مكان آمن خارج مرمى المدفعية المصرية، وفي حال حاول الجيش المصري اجتياز القناة تكون القوات الإسرائيلية على مسافة معقولة تمكنها من الرد بسرعة وبمرونة كبيرة».

لكن رئيس الأركان آنذاك حاييم بارليف حسم الأمر لصالح خيار آخر يقوم على تخندق الجيش الإسرائيلي على ضفة القناة، مما يؤمن السيطرة على الضفة الشرقية للقناة، وعلى الصعيد السياسي يثبت ذلك أن إسرائيل هي الطرف المسيطر على شبه جزيرة سيناء، وحالها كمصر، فهي تملك قرار تحديد حركة الملاحة في القناة..

ولأجل ذلك قام رئيس الأركان بتعيين اللواء «أفراهام أدان» رئيساً لطاقم التخطيط والبناء لخط دفاعي محصن أُطلق عليه اسم «خط بارليف»، وحتى شهر مارس 1969 تم استكمال إنشاء 33 تحصينا على حافة القناة يتواجد في كل واحد منها حوالي عشرين مقاتلاً.

أما شارون فقد اضطر رسمياً لقبول هذا الأمر، لكنه ومن الناحية العملية رفضه رغم أن الجميع وقف إلى جانب رئيس الأركان بارليف، وباستثناء اللواء يسرائيل طال قائد القوات المدرعة لم يقف أحدا إلى جانب شارون.

من هنا تصاعدت حدة الخلاف بين بارليف وشارون وبلغت ذروتها في ابريل 1969، وذلك بعد انتهاء اللواء «أدان» من إنشاء خط التحصينات الأول، وعقدت هيئة الأركان اجتماعاً موسعاً لمناقشة مستجدات الوضع بحضور وزير الدفاع موشي دايان، حيث وجه بارليف اتهامات لشارون تتعلق بتسريبه فحوى تحصينات قناة السويس للصحافة.

مما أثار خوف الجمهور الإسرائيلي من إمكانية إندلاع حرب، عندها لم يقف شارون صامتاً، بل شن هجوماً مضاداً على بارليف متهماً سياسته العسكرية بأنها سبب قتل العديد من الجنود في منطقة القناة، فتصاعدت حدة النقاش حتى قال بارليف: «منذ بدأت خدمتي في الجيش وأنا أعلم بوجود أخطاء وخلل وتقصير.

ولكن بما أن شارون تحدث عن الأمر، فإنني أتذكر بشأنه أمرين ما كنت لأتفاخر بهما، ماذا بشأن معركة المتلة وقلقيلية، رغم قيادتك لتلك الأحداث، ورغم قتلانا في المعركتين، إلا أنه لم تكن هناك استنتاجات شخصية ضدك».

وبعد مرور أسبوع على هذا الاجتماع العاصف، عقدت هيئة الأركان اجتماعاً آخر، لكن شارون تغيب عنه، وبعد ذلك بيومين، تحدثت معه إحدى الموظفات في شعبة الموارد البشرية ووجهت إليه سؤالاً حول ترتيبات تسرحه من الجيش، الأمر الذي فاجأه، فعلى الرغم من قرب انتهاء خدمته العسكرية إلا أنه كان ينوي تمديدها، لذلك طلب منها إرسال استمارة تمديد خدمة لمدة عشرة أعوام إضافية.

لكن اتضح لشارون لاحقاً أن حديثه مع تلك الموظفة لم يكن مصادفة، بل إن رئيس الأركان بارليف والذي يعلم أن مدة الخدمة العسكرية لشارون على وشك الإنتهاء وأنه ينوي تمديدها، كان ينوي بالأصل رفض التمديد.

وليس ذلك فحسب، بل قام بارليف بإقالة شارون من منصبه كرئيس لشعبة التوجيه وعيّن بدلاً منه اللواء «يتسحاق حوفي» والذي كان يوماً ما نائباً لشارون في معركة المتلة.

* إهانة شارون

لقد شكل ذلك الأمر إهانة كبيرة لشارون بطل حرب يونيو، إنها إهانة من الصعب تخيلها، وهكذا وجد شارون نفسه في حالة صعبة بمنزله في «تسهلا» يراوده شعور الضحية مرة أخرى، ولتغيير واقعه توجه لوزير الدفاع موشيه دايان بهدف الحصول على دعمه وتغيير قرار بارليف.

وبالفعل حاول دايان مراراً إقناع بارليف بالعدول عن موقفه تجاه شارون، لكن دون جدوى، حتى أن شارون توجه لرئيسة الحكومة غولدا مائير لكنها أخبرته أنها وضعت نصب عينيها عدم التدخل بمواضيع عسكرية.

عندها أدرك شارون أن عليه اتخاذ قرار عاجل بشأن مستقبله، فخلافاً لفترة رئاسة رابين لهيئة الأركان وحكومة بن غوريون، فإنه لا يتمتع بأي دعم سياسي، وبالتالي عليه التحرك الآن قبل أن يجد نفسه مطروداً من الجهاز العسكري رغماً عنه.

وكان مدركاً أن القفز مباشرة من الجيش للحلبة السياسية يحتم عليه الإسراع للانضمام لأحد الأحزاب الكبرى قبل إغلاق قوائم المرشحين النهائية استعداداً للانتخابات العامة التي ستجري في أكتوبر 1969.

لقد كان شارون من ناحية رسمية عضواً في حزب ماباي وخلال الفترة التي حصل فيها على رتبة لواء سجل اسمه عضواً في الحزب، إذ إن قيادة المستوى السياسي في ماباي اعتادت في حينه على ممارسة ضغوط على جميع قادة الجيش برتبة لواء من أجل الانضمام إلى صفوف الحزب بشكل آلي مع دخولهم هيئة الأركان.

وكما هو في مجالات عامة أخرى، فإنه في الجيش أيضاً من لم يكن عضواً في ماباي وجد صعوبة كبرى في الحصول على رتبة لواء، مما يعني أن شارون خضع لهذا الإملاء وتسجل عضواً في حزب ماباي رغم اختلاف آرائه السياسية والعسكرية عما يتبناه الحزب.

من هنا بدأ شارون بالتحرك متوجهاً نحو أحد معارفه وهو يوسف سيبر من قادة الحزب الليبرالي. وبالفعل وافق شارون على توصية سيبر وأبلغه أنه يفكر في التسرح من الجيش ودخول معترك الحياة السياسية طالباً منه ضمه في موقع مضمون ضمن قائمة كتلته الليبرالية «غاحال» فاقترح عليه سبيد عقد لقاء مع زعيم الحزب مناحيم بيغن.

وبالفعل تم عقد اللقاء في الأسبوع الأول من يونيو 1969 في فندق الملك داوود بالقدس وذلك قبل إغلاق قوائم المرشحين النهائية للأحزاب، إذ يقضي القانون بإغلاق هذه القوائم قبل مئة يوم من موعد إجراء الانتخابات.

وفي صبيحة اليوم التالي تحدثت الصحف عن لقاء سيبر وشارون وبيغن وتسارعت التحليلات التي تشير إلى انضمام اللواء شارون لتيار اليمين، مما عصف بالساحة السياسية الإسرائيلية بشدة. وفي ذات الوقت، ثار جدل عاصف في أوساط «التجمع» وهو عبارة عن كتلة مشتركة لأحزاب اليسار التي تضم «ماباي، أحدوت هعفودا، رافي، مابام» .

وبدأت التساؤلات حول الجهة المسؤولة عن كسر التقليد الذي كان قائماً والذي يقضي بانضمام الضباط من رتبة لواء إلى ماباي، ومن هو المسؤول عن تفكير شارون في الإنضمام لحزب غاحال، خاصة أن الأمر يتعلق بضابط مشهور وغني بالمعارك فضلاً عن كونه من القرية التعاونية «ملال» المحسوبة على الحركة العمالية.

هذه الأنباء وصلت إلى مسامع وزير المالية في حينه «بنحاس سيبر» والذي كان في زيارة إلى واشنطن،ولأنه كان يعلم أن توقيت اعتزام شارون التسرح من الجيش والتنافس في الكنيست ضمن قائمة غاحال أمر لا يصب في صالح حزب ماباي سارع للاتصال برئيس الأركان بارليف طالباً منه الإبقاء على شارون في الجيش.

مجرياً العديد من الاتصالات بهذا الشأن مع رئيس الحكومة ووزير الدفاع، من هنا يمكن القول إنه وفي غضون ساعات قليلة تم تنظيم لوبي من كبار قادة حزب ماباي يضغطون لصالح بقاء شارون في الجيش.

مما اضطر بارليف إلى الإصغاء لمطالب هؤلاء القادة، وبالتالي تم تفصيل وظيفة جديدة لشارون، هي قائد لواء محاضر خارج البلاد، وهي وظيفة تم استحداثها خصيصاً لإبقاء شارون في الجيش، كما تلقى وعداً شفهياً بالحصول على وظيفة ملائمة في الجيش في أعقاب انتهاء الانتخابات.

وبالفعل انتهت الانتخابات وتم تشكيل حكومة جديدة برئاسة غولدا مائير وعاد موشي دايان وزيراً للدفاع، وفي أعقاب ضغوط مستمرة على بارليف تم تعيين شارون قائداً للمنطقة الجنوبية.

مما جعله في منصب طالما حلم بالوصول إليه، فقيادة المنطقة الجنوبية كانت حلماً بالنسبة لشارون رغب من خلاله إثبات قدرته على التحرك والعمل ضد أقوى جيش عربي آنذاك «الجيش المصري» مما شكل نقطة انطلاق ممتازة له لخوض التنافس على تولي منصب رئيس هيئة الأركان.

* الحملة ضد غزة

لقد كانت المنطقة الجنوبية التي تولى شارون قيادتها أكبر بكثير من الكيان الاسرائيلي حيث تضم وادي عربة والبحر الميت وحتى إيلات والنقب وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء. وبما أنه تولى قيادة المنطقة في ذروة حرب الاستنزاف فقد واجه سلسلة من العمليات التي قام بها المصريون أو التنظيمات الفلسطينية الفدائية.

وعلى الرغم من الخلافات الحاصلة بين شارون وبارليف، إلا أنه تلقى دعماً كاملاً منه، خاصة فيما يتعلق بخطته بالقضاء على العمليات المنطلقة من قطاع غزة ووادي عربة، فكانت البداية خلال النصف الأول من عام 1970 وتحديداً في منطقة وادي عربة التي يسكنها عدد قليل من الأشخاص على الجانبين الأردني والإسرائيلي مما أتاح لخلايا الفدائيين التسلل إلى الأراضي الإسرائيلية وتنفيذ عدد من الهجمات.

لقد حول شارون منطقة وادي عربة إلى أرض للمطاردات، حيث قام بتفعيل الطائرات ووحدات دوريات وقوات تدخل سريع، وهكذا تقلصت حرية الحركة للفدائيين في المناطق الصحراوية مما ساهم في تقليل عدد العمليات ضد الجيش الإسرائيلي الأمر الذي أحدث أصداء واسعة في هيئة الأركان والحكومة بل وحتى داخل الرأي العام الإسرائيلي.

رد الفعل الإيجابي هذا دفع شارون لتقديم طلب آخر لكل من رئيس الأركان «بارليف» ووزير الدفاع موشي دايان للسماح له بالعمل في المنطقة الأكثر تعقيداً وحساسية وهي قطاع غزة، والتي تحولت خلال الأعوام الثلاثة التي تلت حرب يونيو 1967 إلى بؤرة للنشاط الفدائي الفلسطيني.

وخلال عام 1970 وصلت هذه النشاطات ذروتها حيث سيطرت مجموعة من الفدائيين المنتمين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على مخيمي اللاجئين جباليا والشاطئ، وفي عام 1970 تم تنفيذ 445 اعتداء أدى إلى مقتل 16 إسرائيلياً وإصابة 114 آخرين.

وفي ديسمبر 1971 حصل شارون على ضوء أخضر إزاء شن عملية في قطاع غزة وذلك في أعقاب وقوع هجوم فدائي في اليوم الثاني من ذات الشهر، أدى إلى مقتل طفلين إسرائيليين وإصابة أمهما بجروح أثناء تنقلهما بسيارة على طريق القطاع.

هذا الحدث دفع وزير الدفاع «دايان» إلى زيارة موقع الحادث وتجول فيه برفقة «شارون» قائد المنطقة الجنوبية ، حيث استطاع شارون إقناعه بضرورة تنفيذ خطته لتطهير القطاع، طالباً منه.

وضع حد لسياسة ضبط النفس الإسرائيلية والتي يعتبرها الفدائيون ضعفاً، ولشدة دهشة شارون كان جواب دايان فورياً أن بإمكانه التقدم في خطته، ويعلق شارون على ذلك في كتابه «مقاتل» بالقول : «هذا هو أسلوب دايان، المصادقة الشفوية على ما أطلبه، حتى يتسنى له مستقبلاً التنصل من القضية في حال إخفاقها».

بعد حصوله على موافقة دايان، عكف شارون على تخطيط العملية بدءاً من جمع المعلومات الإستخبارية وتحديد أهداف معينة، وخلال المرحلة الأولى التي استغرقت خمسة أشهر تم إحاطة منطقة الخط الأخضر المحاذية لقطاع غزة بأسلاك شائكة مما أعاق حركة الفدائيين إلى القطاع ومنه.

وأدى هذا السياج إلى عزل قاطع العمل المستهدف، وفي موازاة ذلك تم تعبيد بعض الشوارع لأغراض أمنية حتى تتمكن قوات الجيش من الوصول إلى المناطق البعيدة في القطاع الذي تدفقت إليه أيضاً قوات نظامية تمركزت بشكل دائم في غزة ومحيطها، كما قامت هذه الوحدات بتشغيل وحدات دورية تضم كل منها خمسة جنود تتحرك في المنطقة ليل نهار وتقوم بأعمال التمشيط.

* المرحلة الثانية

شهر يونيو 1971 أدرك شارون أن الأرضية أصبحت مهيأة لتنفيذ المرحلة الثانية والأخيرة في خطته والتي تقضي بتنفيذ مئات المطاردات وعمليات التمشيط لمخيمات اللاجئين والتي أرغمت الفدائيين على الإنشغال بإيجاد مأوى لهم. وفي نهاية يوليو 1971 تم الشروع في تخفيف عدد السكان في مخيمي اللاجئين «جباليا والشاطئ».

ولأجل تنفيذ هذه العملية بنجاح قسّم شارون قطاع غزة إلى خلايا مناطقية صغيرة وكل خلية تحمل رمزاً خاصاً بها، تتكفل وحدة خاصة بتطهيرها وتنظيفها من الفدائيين ووسائلهم القتالية، وكل خلية مناطقية يتم تمشيطها وتصبح آمنة يتم وضع علامة خاصة عليها تحمل الحرف )ًّ( باللغة الإنجليزية.

وفي ظل هذه العملية التي تمت بقيادة شارون لم يأل أعضاء الوحدة الخاصة جهداً في استخدام كافة الوسائل، إذ عملوا على إقتحام المنازل وإجبار الناس على الوقوف في الشوارع لساعات طويلة رجالاً وأطفالاً ونساء، وقاموا بعمليات تفتيش سافرة على أجساد الأشخاص المشتبه بهم.

ولكي يوفر شارون ظروف عمل ميدانية مريحة لمقاتليه لجأ إلى سلسلة من الخطوات التي لم تكن متبعة في الجيش آنذاك، حيث قام بتقطيع البيارات والأحراش بالجملة ليمنع اختباء الفدائيين فيها، كما سد فتحات الكهوف التي استخدمها الفدائيون ملاجئ لهم، وسد آباراً تم تخبئة السلاح فيها، ولم يتردد في هدم المنازل بهدف توسيع الشوارع لتسهيل حركة الجيش.

هذه الإجراءات أثبتت نجاحها فحتى نهاية عام 1971 تم قتل 104 من الفدائيين وأُلقي القبض على أكثر من سبعين شخصاً، كما انخفضت نسبة العمليات الفدائية من 445 عام 1970 إلى 60 عملية في عام 1972، إلا أن عملية تطهير غزة واجهت إنتقادات شديدة بسبب العنف المفرط الذي اتبعه شارون.

وأخذت وسائل الإعلام العربية والدولية تتحدث عن قيام رجال شارون بقتل الفدائيين بعد القبض عليهم أحياء وذلك خلافاً للمعاهدات الدولية والقانون الدولي، وتحدثت الأنباء عن أن شارون وفي حالات كثيرة وقف عند جثث الفدائيين وتعرف على أسمائهم، حتى قيل ان شارون كان يردد «الفدائي الجيد هو الفدائي الميت».

وضمن عملية تناسخ، يمكن القول انه ومنذ استلام أرييل شارون رئاسة الحكومة في عام 2001 أمر بتنفيذ عدد من عمليات الإغتيال لقادة الإنتفاضة ومسؤولي التنظيمات الفلسطينية بناءً على تجربته السابقة في التعامل مع الفدائيين في قطاع غزة.

لقد كان شارون يؤمن بأولوية القضاء على العمل الفدائي الفلسطيني بالقوة ومن ثم إجراء مفاوضات مع القيادة الفلسطينية المحلية التي تعاونت مع الفدائيين، وسياسة «القبضة الحديدية» هذه واللجوء إلى الخيار العسكري.

وتجاهل الزعامات الفلسطينية المحلية جلبت انتقادات لاذعة لشارون حتى داخل الأوساط الإسرائيلية. وفي ضوء الإنتقادات الحادة لقسوته في التعامل مع غزة، كان لا بد أن يدرك شارون أن دوره قارب على الإنتهاء.

وبالفعل وذات مساء في بداية فبراير 1972 وعندما كان شارون يشاهد الأخبار سمع وزير الدفاع «دايان» يقول «عملية القضاء على الإرهاب في غزة انتهت بنجاح كبير في ظل قيادة اللواء شارون» عندها اشتعل الضوء الأحمر لدى شارون، لأنه يعلم أن دايان ليس من طبيعته أن يثني على أحد عبر التلفاز، وبالفعل كانت توقعات شارون صحيحة.

وفي صباح اليوم التالي قرر دايان أن سياسة اليد القاسية لشارون استنفدت نفسها وأنه آن الأوان لإنتهاج سياسة معتدلة، وفي الصباح عندما وصل شارون إلى مكتبه تم إبلاغه بأن مسؤولية قطاع غزة تم نقلها من قيادة المنطقة الجنوبية إلى قيادة المنطقة الوسطى.

*التحول نحو السياسة

أراد شارون استثمار شهرته العسكرية في الميدان السياسي خاصة أن انتخابات الكنيست الثامنة كانت قريبة جداً، ولأنه كان مقتنعاً إلى حد كبير بأنه لن يواجه أي مشكلة في الانضمام لحزب من الأحزاب سواء في اليسار أو اليمين وأن ما عليه إلا الإختيار فقط، ولأنه في قرارة نفسه لم يكن راضياً عن سلطة حزب ماباي التي حكمت الدولة منذ استقلالها.

وهذا الرأي شاركه فيه أبرز المؤثرين على قراراته، وهم زوجته ليلي وصديقيه اليهوديين الأميركيين مشولام ريليكس وصموئيل زاكس، ولأنه كان يعلم أيضاً خيبة أمل الجمهور الإسرائيلي من ماباي قرر القيام بخطوة تعيد تشكيل الخارطة الحزبية في إسرائيل. لقد شعر شارون أنه يملك الفرصة التاريخية التي تمكنه من تقديم بديل جدي لسلطة ماباي.

ولأن المعارضة في حينه برئاسة زعيم حيروت «مناحيم بيغن» لم تكن قادرة على تشكيل بديل حقيقي وقوي، توصل شارون إلى استنتاج مفاده بأن توحيد كافة الأحزاب اليمينية المعارضة هو الأمر الوحيد الذي سيشكل خطراً على استمرار سيطرة حزب العمل.

وأن البديل الوحيد هو تشكيل جناح قومي صهيوني يقوم على إنشاء تكتل يجمع حزب المركز الحر الذي انقسم عن حيروت في أعقاب تشكيل غاحال، وحزب القائمة الرسمية الذي انشق عن رافي، وحزب قائمة الأحرار المستقلين، فكانت خطته بالاشتراك مع ريليكس وزاكس توحيد جميع أحزاب اليمين في قوة واحدة متكتلة في وجه التجمع «العمل».

واتخذ شارون أولى الخطوات بهذا الاتجاه، وسعى إلى إزالة العداوة الشخصية والتوفيق بين زعيم المعارضة مناحيم بيغن وبين شموئيل تمير زعيم المركز الحر، وفي نهاية يوليو 1973 اتخذ شارون مبادرة شخصية حينما قام ببيع 2 طن من محصوله الزراعي من أجل استئجار قاعة سوكولوف لعقد مؤتمر صحافي يجمع بين التيارات اليمينية. واستغل شارون هذا المؤتمر لعرض رؤيته الخاصة بالقضية الفلسطينية أمام الصحافيين.

وفي صبيحة اليوم التالي التقى شارون اللواء احتياط عيزر وايزمان قائد سلاح الجو السابق ورئيس غرفة العمليات في هيئة الأركان والذي كان قد انضم إلى حزب «حيروت» طالباً منه الضغط معاً لتشكيل كتلة أحزاب يمينية مركزية.

وفي خضم ذلك توجه شارون للقاء بيغن لأنه المفتاح الرئيسي لتوحيد تيار اليمين وناقش الرجلان مسألة توحيد أحزاب اليمين، ولأول مرة يتم طرح اسم هذا الهيكل السياسي الجديد، حيث تمت تسميته بالليكود أي التكتل.

أما لماذا قبل بيغن مبادرة شارون؟ فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى عدم رغبته بالظهور كشخص رافض لتوحيد التيار اليميني لاعتبارات شخصية تتعلق بخلافه مع شموئيل تمير، لذلك وافق على فكرة شارون بشرط أن يتعهد مسبقاً بالانضمام لغاحال.

وهو الأمر الذي عارضه شارون في البداية، ولكن ما لبث أن تراجع حينما تذكر أنه بدون بيغن فإن خطته لن يكون لها أي وجود، لذلك بادر إلى عقد لقاء آخر معه في مقر الكنيست، وهذه المرة بدا شارون أكثر هدوءاً ولم يتحدث بأسلوب هجومي على خلاف اللقاء الأول.

ومع حلول اغسطس 1973 كان شارون يغوص في مفاوضات مضنية شبه يومية مع مختلف الأحزاب اليمينية تمخضت عن نتيجة إيجابية جداً حيث وافق «تمير» على طرح فكرة التفاوض للدخول في التكتل اليميني على حزبه.

وفي أعقاب فجوات في الموقف بين مختلف الأحزاب، وافق «تمير» أخيراً على صيغة حل وسط وضعها شارون تمنح حزب الوسط الحر الأماكن «36 29, ,8» في القائمة الإنتخابية ووافق بيغن على ذلك.

وفي العاشر من سبتمبر 1973 أصبحت أحزاب «حيروت،الليبراليين، الوسط الحر، القائمة الرسمية، حركة العمل من أجل أرض إسرائيل الكاملة» موحدة في قائمة مشتركة هي قائمة الليكود.

وفي الرابع عشر من سبتمبر 1973 تمت المهمة وحقق شارون نصراً كبيراً على المستوى الشخصي والقومي أيضاً حينما أظهرت استطلاعات الرأي أن غالبية الجمهور الإسرائيلي تنظر بإيجابية إلى قضية تشكيل الليكود، ولأن مهندس الفكرة كان شارون تم تعينه في منصب مدير حملة انتخابات الليكود في انتخابات الكنيست التي كانت مقررة في الثالث والعشرين من أكتوبر 1973.

وبدا طريق شارون في السياسة الإسرائيلية ممهداً ولامعاً إلا أن المنعطف الذي لم يكن على البال له وللإسرائيليين هو تخطيط سادات مصر وأسد سوريا لمفاجأة غير لطيفة أبداً، فكان السادس من أكتوبر 1973 بالانتظار معلناً عن بدء حرب رمضان في القاموس العربي، وحرب الغفران في المفهوم العبري.

Email