الراعي.. قصة حياة سفاح ـ الحلقة الرابعة

حرب يونيو تعزز نجومية شارون وتزيد من شعبيته

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتناول هذه الحلقة من عرض الكتاب الحال التي آل إليها شارون بعيد انتهاء العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، حيث كانت تجتاح صفوف قيادة الجيش الإسرائيلي موجة عارمة من الغضب على تصرف شارون الأرعن في ممر المتلا قبيل اندلاع حرب السويس.

ولهذا السبب، أرسله موشي دايان في دورة تدريبية إلى بريطانيا ليعود بعدها إلى «إسرائيل» ويتسلم وظيفة في شعبة التوجيه بسلاح المشاة، وبفضل دعم بن غويرون وتوصيته، يقوم اسحق رابين بترقية شارون إلى منصب رئيس هيئة أركان القيادة الشمالية في عام 1964.

ولكن التطور الأبرز الذي حدث لشارون على صعيد حياته الشخصية كان وفاة زوجته بحادث سير وتزوجه من شقيقتها التي كان لها تأثير كبير على مجريات حياته ومستقبله المهني، اما على صعيد حياته المهنية، فكان اندلاع حرب يونيو 1967، التي خرج منها بطلاً في عيون الاسرائيليين، الأمر الذي مهد له الطريق أمام وضع استراتيجية مرحلية لإحكام السيطرة الإسرائيلية على المناطق العربية التي احتلتها إسرائيل في تلك الحرب.

في سبتمبر 1957 سافر شارون برفقة زوجته مرغليت وابنه غور إلى بريطانيا لمدة سنة واحدة موفداً من قبل الجيش الاسرائيلي في دورة رفيعة المستوى ستعقد في مدرسة الضباط «كميبرلي».

كان من أرسله إلى هناك هو «موشي دايان» ومن الناحية الرسمية كان سبب ذلك مهنياً بحتاً إلا أنه لم يكن من الصعب التكهن بأن الأمر من ناحية عملية هو محاولة لإقصاء شارون عن قيادة الجيش لفترة محدودة حتى تهدأ ثورة الغضب الناجمة عن تصرفه في ممر المتلا، وعلى الرغم من أن هذه الرحلة أبعدت شارون عن مركز الأحداث في الجيش إلا أنها سمحت له بتحقيق رغبتين مستحيلتين حملهما أثناء طفولته، الأولى الحصول على دراسة عليا، والثانية التعرف على العالم.

خلال دراسته في بريطانيا تميز شارون باستخفافه بمدرسيه من الضباط البريطانيين واصفاً إياهم بالقول: «إنهم متحجرون بطريقة تفكيرهم، إني أعتقد بأنه ينبغي عليهم تعلم الشيء الكثير من الجيش الإسرائيلي». وفي إحدى المرات طُلب منه إلقاء محاضرة أمام المتدربين في أكاديمية الضباط حول كيفية تصرف المظليين الإسرائيليين إبان حملة سيناء 1956، فاستغل الفرصة لشرح كيفية تحقيق الجيش الإسرائيلي نصراً في المكان الذي فشل فيه البريطانيون والفرنسيون على حدٍ سواء.

لقد كان هذا العام الدراسي بالنسبة لشارون بمثابة رياح منعشة وضرورية هبت عليه، إذ أنها جاءت لتشكل نوعاً من التخفيف عن حياته المكثفة التي شغلته طيلة تلك الفترة وعلى مدار 24 ساعة منذ ترك مقعد الدراسة في الجامعة العبرية عام 1953 وتشكيله للوحدة 101، فللمرة الأولى منذ أربعة أعوام لا يعيش حياة تأهب عسكري.

عند عودته إلى إسرائيل في النصف الثاني من عام 1958 كان بانتظاره خيبة أمل جديدة، إذ تم دمجه في أحد أجنحة قسم التوجيه في هيئة الأركان العامة مما أفقده صوابه، فأسلوب العمل الوظيفي والبقاء داخل المكاتب أمر لطالما اشمأز منه.

صدر هذا القرار في أعقاب استلام «حاييم لاسكوف» رئاسة الأركان في نوفمبر 1958 بدلاً من موشيه دايان، ولأن لاسكوف لا يزال يتذكر تحقيقه مع شارون في أعقاب معركة المتلا فقد أوقف التقدم السريع لشارون ووضعه في وظيفة لا تنطوي على الكثير من التحديات.

وعلى الرغم من أن وظيفة شارون الجديدة «مسؤول شعبة التوجيه في سلاح المشاة» لا تنسجم مع مزاجه العاصف، إلا أنها كانت تنطوي على قدر من الأهمية، فبموجب موقعه الجديد، كان على شارون تطوير نظريات قتالية جديدة وبلورتها لكي تتحول إلى أساليب قتال مفصلة يشرف على تنفيذها في قواعد التدريب.

وهذا ما أراده رئيس الأركان الجديد، بمعنى أن لاسكوف رغب أن يغرس شارون خبرته القتالية في سلاح المشاة، لكن شارون استمر ينظر لوظيفته بعين الكراهية، معتبراً إياها نوعاً من التجميد لقدراته، لكن لا مفر من قبولها، لأنها ستؤهله للترقية لرتبة عقيد وهذا ما حصل فعلاً، فقبل أن يتجاوز شارون الثلاثين من عمره حاز على رتبة عقيد.

ومن خلف الكواليس يمكن القول إن رئيس الحكومة وزير الدفاع «بن غوريون» كان له دور في تعيين شارون في هذا المنصب، فمن المعروف أن بن غوريون ورغم تحفظاته على التقارير غير الدقيقة التي كان شارون يقدمها إلا أنه كان معجباً بشجاعته وطريقة تفكيره، ووفق المؤرخ «زوهار» كان شارون الضابط الثاني بعد اسحق رابين في الجيش يحوز على رعاية بن غوريون وإعجابه، لدرجة أن بن غوريون سأل موشيه دايان ذات يوم إن كان شارون سيتولى مستقبلاً رئاسة الأركان، علماً بأن شارون كان لا يزال برتبة مقدم.

لقد أحس شارون بشعور بن غوريون تجاهه، ووقوفه إلى جانبه في حالات كثيرة تعرضت فيها مكانته العسكرية للخطر حتى أن بن غوريون نفسه اتهمه مراراً بعدم تقديم تقارير صحيحة له ورغم ذلك كان يقف إلى جانبه، ففي نهاية عام 1958 وخلال الاحتفال بترقية شارون لرتبة عقيد، دعاه بن غوريون للقاء شخصي معه وسأله إن كان تخلص من صفة عدم قول الحقيقة.

فأجابه شارون بالإيجاب، وعندها وعلى الفور أبلغه بن غوريون أنه سيواصل تقديم الدعم له في مسيرته العسكرية. ولأنه كان على علم تام بحقيقة كراهية لاسكوف لشارون، أمره بقبول منصبه الجديد في شعبة التوجيه حالياً وعدم القلق إزاء المستقبل.

وفي موازاة ذلك توجه بن غوريون للاسكوف قائلاً له: «شارون لديه خصائص سلبية فعلاً، لكنه يتحلى بالعديد من المميزات الممتازة، إني أرغب في منحه فرصة العودة إلى الطريق السوي».

لقد واجه شارون في موقعه الجديد صعوبة في التأقلم، فعلى خلاف الوضع في كتيبة المظليين والوحدة 101 حيث كان القرار بيده مما يتلاءم مع طبيعته الفردية، كانت الأمور تسير بطريقة مختلفة في سلاح المشاة، إذ أنه خاضع وبصورة مباشرة للواء «يوسف غيفاع» مسؤول قسم التوجيه في هيئة الأركان العامة، واستمرت الأمور رتيبة في الوظيفة الجديدة عاماً كاملاً، إلى حين وقعت مشادة عنيفة بينه وبين قائده غيفاع، وفي أعقاب ذلك تغيب شارون عن إحدى المداولات مما جعل غيفاع يقصيه عن منصبه.

ولم يكن السبب الوحيد وراء قرار إقصاء شارون هو المجادلات الحادة مع اللواء غيفاع أو حتى تغيبه عن المناقشات، بل كان الأمر يعود إلى الفترة التي عمل فيها غيفاع قائداً للواء جفعاتي الذي انتقده شارون مراراً أيام قيادته لكتيبة المظليين.

ومن الجدير بالذكر هنا أن خلافات شارون مع غيفاع استمرت لاحقاً، فبعد خمسة وعشرين عاماً انسحب نجل يوسف غيفاع اللواء «إيلي» من قيادة فرقة المدرعات في ذروة الحرب اللبنانية احتجاجاً على قرار شارون والذي كان وزيراً للدفاع آنذاك باقتحام بيروت.

وعلى أي حال عمل شارون في وظيفته الجديدة بشكل مميز، حتى استطاع كسب إعجاب متدربي سلاح المشاة جميعاً الذين انكبوا على سماع قائدهم بطل الحروب وسماع حكاياته حول الوحدة 101 وكتيبة المظليين، واستغل شارون الهالة المحيطة به من أجل وضع معايير جديدة في سلاح المشاة أشد صلابة مما سبق، الأمر الذي حوله في نظر الكثيرين إلى قائد منغلق وغاضب يبث الخوف في نفس العاملين تحت إمرته.

وهنا ينبغي التوقف قليلاً، إذ إن شارون ومنذ كان شاباً استطاع معرفة وتحديد نقاط الضعف البشري في الأشخاص الذين يتعامل معهم، مما أكسبه ميزة هائلة أمام خصومه السياسيين، فأريك قادر على النظر إلى داخل النفس الإنسانية وتحديد المخاوف والعواطف والدوافع النفسية لدى محدثه ودفع هذا كله لصالحه، ولعل هذا الذي مكنه من الاحتفاظ بشعبيته خلال الفترات العصيبة أثناء الانتفاضة الثانية والتملص بنجاح من المشكلات الاقتصادية الحكومية والتحقيقات الجنائية معه ومع أنجاله أيضاً.

* حياة جديدة

استغل شارون الأعوام الثلاثة في سلاح المشاة من أجل التسجيل في جامعة تل أبيب بكلية الحقوق عام 1962 وخلال ذلك تم استبدال رئيس الأركان حيث أصبح تسفي تسور رئيساً جديداً للأركان بدلاً من لاسكوف مما كان أمراً سيئاً بالنسبة لشارون كون تسور عمل دائماً على منع تقدمه وترقيته، وحتى في منصبه الجديد كرئيس للأركان رفض تعيين شارون في وظيفة أكثر أهمية.

عندها لجأ شارون إلى موشي دايان والذي كان في منصب وزير الزراعة في حكومة بن غوريون، طالباً مساعدته إلا أن دايان رد عليه بأسلوب مباشر وخشن قائلاً له: «من الأفضل ألا تعيش في أوهام، أعتقد أنهم لن يستدعوك إلا في حال مواجهة إسرائيل لوضع أمني خطير».

ولعل موقف دايان هذا ينبع بالأساس من فهمه لشخصية وكفاءة شارون، أي أن شارون وضمن حياته كزعيم لا يقدم خصائصه الإيجابية نسبياً وبأقصى طاقته إلا خلال الأزمات سواء كانت سياسية أو عسكرية، إذ أنه أقل فاعلية ونشاطاً خلال فترات الهدوء.

في أعقاب هذا اللقاء عاد شارون صفر اليدين محبطاً مصاباً بخيبة أمل تضاعفت لاحقاً، وبتاريخ الثاني من مايو 1962 وبينما كان شارون يقضي وقته مع ولده «غور» تلقى نبأ مصرع زوجته مرغليت في حادث سير على طريق القدس.

لقد وجد شارون صعوبة في ملء الفراغ الذي خلفته وفاة مرغليت لا سيما في حياة الطفل غور الذي كان مرتبطاً بها في كل ذرة من جسده، ولم يملأ هذا الفراغ إلا أخت مرغليت الصغرى «ليلي» التي ساعدت غور أيضاً في التغلب على حزنه.

ليلي تسيمرمان من مواليد رومانيا تصغر أختها المتوفاة بأربعة أعوام هاجرت إلى إسرائيل وعمرها عشر سنوات برفقة مرغليت وأخوين آخرين، أما الوالدان، فقد بقيا في رومانيا عدة أعوام هاجرا بعدها إلى إسرائيل. تعرفت «ليلي» على أريك وهي في الثانية عشرة من عمرها، ومنذ اللحظة التي بدأت فيها علاقة أريك مع أختها مرغليت تعامل أريك مع ليلي كأخ كبير لها.

وعندما أصبحت ليلي في الثامنة عشرة من عمرها أرادت التجند في الجيش لكن والديها المتدينين رفضا ذلك طالبين منها الحصول على إعفاء، لكنها تحايلت عليهم وأبلغتهم أن الإعفاء مرفوض وأنها اضطرت إلى التجنيد، وبعد انتهاء التدريب دخلت إلى كتيبة المظليين حيث كان شارون قائداً للكتيبة وكان آنذاك زوجاً لأختها، وبالفعل ساعدها في الوصول إلى المظليين لكنه لم يوفر لها لاحقاً أي نوع من المعاملة الخاصة.

بعد وفاة مرغليت وجد شارون نفسه مع ليلي يقضي بصحبتها أوقاتاً طالما حلمت بها مرغليت دون جدوى، لقد أشركها معه في مشكلاته ومشاعره فاتحاً لها قلبه فنشأ بينهما حب كبير ومع الأعوام تحولت علاقتهما إلى إحدى القصص الغرامية الأكثر إثارة وتغطية إعلامية في إسرائيل، كما اهتمت ليلي بالطفل غور بطريقة بدت وكأنها أمه، وخلال العام الأول لوفاة مرغليت توجهت ليلي للعمل في الشرطة وتزوجت من شارون ضمن مراسيم زواج متواضعة، وبعد فترة قصيرة تركت العمل وتوجهت للدراسة في معهد للفنون.

لقد أملت شخصية ليلي المغايرة لشخصية أختها نمط زواج مختلفاً كلياً عن ذاك الذي اعتاده شارون مع زوجته الأولى، التي كانت انطوائية وحيدة إلى حد كبير، بينما ليلي تحولت إلى طرف مشارك في سيرة حياة زوجها ومستقبله السياسي والعسكري، لقد أصبحت شريكة في صنع قراراته، وكان لها تأثير حاسم عليه ابتداء من تحديد نوعية الملابس والطعام وحتى غربلة الأصدقاء وتصنيفهم.

وعندما سُئلت ذات يوم عن علاقتها بشارون أجابت: «لقد اخترت ذلك، أريد أن أكون إلى جانبه متى شاء طيلة الوقت، وإذا كان هناك مجال لأن أكون ظلاً ما لشيء فإنه ظل أريك، رغم أنني لا أعتبر نفسي ظلاً له، بل مكملاً له، هذه هي متعتي التي أحس بها، لطالما بحثت عن ذاتي، وأخيراً وجدتها إلى جانب أريك».

* سلاح المدرعات

بعد فترة انتقل أريك من سلاح المشاة إلى المدرعات وبدأ بتعلم النظريات القتالية للوحدات المدرعة والتي فتحت أمامه آفاقاً واسعة وجديدة، إذ أن قوة النار وقابليته للمناورة الدبابات بالمقارنة مع سلاح المشاة أتاحا له اكتساب خبرة جديدة. وفي أعقاب إنتهاء المرحلة التعليمية في المدرعات تم تعيين شارون قائد لفرقة مدرعات احتياطية، وحقيقة كونها احتياطية وغير نظامية فتح أمامه المجال لمواصلة فترة التدريب وتنفيذ عدد من التجارب بعيداً عن الأضواء.

في فبراير 1963 حدث تطور آخر في حياة شارون حيث استقال بن غوريون من رئاسة الحكومة وحل مكانه ليفي أشكول، والذي أصدر قراراً بتعيين اسحق رابين رئيساً للأركان، وذلك بناء على توصية بن غوريون والذي كان قد وعد رابين بهذا المنصب، وبالفعل في يونيو 1963 أصبح رابين رئيساً للأركان.

ووفاءً للصداقة التي جمعته مع بن غوريون توجه رابين لزيارته وتهنئته بيوم ميلاده وشكره على هذا التعيين، وخلال ذلك اللقاء، طلب بن غوريون من رابين الاهتمام بشارون بشكل شخصي.

وحول ذلك قال رابين في كتاب أصدره بعنوان «بطاقة خدمة» على الصعيد الشخصي كان هناك شبه إلزام إزاء طلب بن غوريون الذي قال لي: «أنت تعلم أن لي علاقة خاصة بشارون، إذ اعتبره أحد رجالات الجيش الأفضل، وأروع المقاتلين الذين وجدوا في إسرائيل، فقط لو أنه يقول الصدق والحقيقة لكان الأمر يساعده في التقدم، إني أطلب منك عدم التعامل معه كما تعاملوا معه في الماضي صحيح أن بن غوريون لم يفصل أقواله، ولكني فهمت قصده، أي أن رؤساء الأركان: دايان، لاسكوف، تسور جميعهم لم يعملوا على ترقية شارون منذ حملة سيناء، والآن يطلب مني بن غوريون بحث إمكانية ترقية شارون».

وبالفعل استجاب رابين لمطلب بن غوريون وخلال النصف الأول من عام 1964 تم ترقية شارون ليصبح رئيساً لهيئة أركان قيادة المنطقة الشمالية.

ومن الجدير بالذكر أن بن غوريون لم يكن الوحيد الذي آمن بقدرات شارون، وهذا ما أشار إليه رابين في كتابه، حيث يقول : لقد قررت ترقية شارون ليس تلبيةً لطلب بن غوريون فقط، بل إنني وخلال وظيفتي السابقة كرئيس لشعبة العمليات خرجت بانطباع غير عادي حول قدرة شارون على العمل كقائد فرقة احتياط قادر على إحياء الروح القتالية بنجاح استثنائي.

وخلال الأسبوع الأول في وظيفتي كرئيس للأركان دعوت شارون للقاء خاص، قلت له فيه «أنت رجل عبقري رائع، والكل يعرف ذلك، لكن المشكلة أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يقولون أنك لست إنساناً.

وأنا من جانبي لا أعرفك بما فيه الكفاية، وضمن التوجه العام أرغب بترقيتك، ولكني مضطر لأن أكون واثقاً من عدم صدق الإتهامات الموجهة لك، سوف أعينك رئيساً لهيئة أركان القيادة الشمالية لمدة عام كتجربة فإذا أبلغني قائدك المباشر أنك تصرفت كإنسان، سوف أعمل على ترقيتك لرتبة لواء، اختبارك هو مدى قدرتك على التعاون مع قائدك».

خبر آخر تزامن مع تعيين شارون في منصبه بالمنطقة الشمالية، ففي صيف عام 1964 ولد له الابن الثاني «عومري».

لقد تزامن تعيين شارون بمنصبه الجديد باعتباره الرجل الثاني في قيادة المنطقة الشمالية إلى جانب قائد المنطقة اللواء أفراهام ليفي مع الأحداث الأمنية الصعبة على الحدود السورية، وبالتالي كان رابين خلال تلك الفترة، بحاجة إلى رجل عدواني مثل شارون ليعمل في ذلك القطاع.

رجل يستطيع بلورة سياسة أمنية على امتداد الحدود مع سوريا ويستطيع الحفاظ على السيادة الإسرائيلية في الأراضي الزراعية المحاذية للحدود، وبالفعل منحه اللواء أفراهام ليفي حرية التصرف مطلقاً العنان ليد شارون للتصرف على المقطع الحدودي مع سوريا.

إلا أن هذا الوضع لم يستمر حيث عاد شارون للظل مرة أخرى في أعقاب تعيين اللواء دافيد أليعازر قائداً للجبهة الشمالية بدلاً من اللواء أفراهام ليفي الذي أصبح مسؤولاً عن سلطة حماية الطبيعة، واحتجاجاً على هذا الوضع، توجه شارون لرئيس الأركان رابين طالباً الانتقال لموقع آخر، إلا أن رابين أخبره بعدم وجود منصب شاغر، وأن عليه البقاء في قيادة المنطقة الشمالية.

وفي بداية يناير 1966 وصلت أخيراً المكالمة الهاتفية التي تبشر بالخلاص، حيث استدعى مكتب رئاسة الأركان شارون للقاء مع رابين، ورغم أجواء الحديث اللاذعة والانتقادات التي وجهها رابين تجاه أسلوب شارون في التعامل مع قائده أليعازر، والتي جعلت شارون يظن أن ترفيعه لن يتم على يد رابين، إلا أنه فاجأه بإعلانه عن تعيينه مسؤولاً لشعبة التوجيه في الجيش الاسرائيلي، وفي موازاة ذلك يعمل كقائد فرقة احتياط في حالات الطوارئ.

وفي العام نفسه وتحديداً في نوفمبر تلقى شارون خبراً آخر سعيداً حيث ولد ابنه الثالث جلعاد، ولكن وظيفة شارون الجديدة ألقت عليه المزيد من التحديات، فهو ومنذ الآن المسؤول عن بلورة النظرية القتالية في الجيش، عدا أن منصبه مخصص بالأصل لضابط برتبة لواء مما شكل إشارة إيجابية للمستقبل الواعد الذي ينتظره، وبالفعل وبعد عام من توليه منصبه الجديد.

وقبل بلوغه عامه الأربعين، حصل على رتبة لواء وهي أعلى رتبة في الجيش الإسرائيلي آنذاك، وخلال مراسم الإحتفال بترقيته ألقى كلمة وجّه خلالها سهام انتقاداته لبعض قادة الألوية الذين تم تعيينهم في مناصب عليا رغم أنهم لم يفعلوا الشيء الكثير، في حين أنه وصل لمنصبه في الجيش يتصبب عرقاً بعد جهد كبير بذله للوصول إلى ما هو فيه.

* صعود النجم

بعد انتهاء حرب يونيو 1967 كان أول ما قام به شارون في أعقاب عودته إلى منزله، هو اصطحاب زوجته ليلي وابنه غور البالغ من العمر عشر سنوات ونصف في جولة داخل مدينة القدس ومناطق الضفة الغربية.

ولأن تلك الحرب أكسبته صيتاً واسعاً فقد طلب منه وزير المالية بنحاس سبير القيام بحملة تبرعات في الخارج، إذ أن شارون أصبح مصدر إعجاب لدى كل يهود العالم، وبالفعل توجه إلى استراليا ومن هناك إلى طهران حيث التقى الملحق العسكري الإسرائيلي هناك «يعقوب نمرودي».

وبعد جولته الناجحة عاد إلى شعبة التوجيه في هيئة الأركان كبطل حرب مستقبله أمامه، اسمه على جميع الألسن، لقد تحول إلى شخصية تثير إعجاب الجميع، وخلال التدقيق في الأرشيف الصحافي لدى شارون، يتضح أنه منذ تشكيل الوحدة 101 وقيادة فرقة المظليين لم يتم ذكر اسمه كثيراً فصدى أفعاله محصور في أروقة الجيش.

لكن ابتداء من صيف 1967 تغيرت الأوضاع، وأصبح اسم شارون متداولاً جداً في وسائل الإعلام، وهكذا تحولت قاطرة شارون الحربية إلى نقطة جذب للصحافيين، مما جعل خصومه في الجيش الإسرائيلي يدعون بأنه كان يفعل كل ما بوسعه خلال الحرب لجعل نفسه محط إعجاب خالطاً الإعتبارات العسكرية التنفيذية مع طموحاته الشخصية.

لكن يبقى أكثر ما ميز سيرة حياة شارون بعد حرب 1967 هي جولاته التفقدية المستمرة في المناطق التي سقطت في الحرب «هضبة الجولان، قطاع غزة، سيناء، الضفة الغربية». بحيث يمكن القول إن زياراته اليومية تقريباً، جعلته يبلور خطة استراتيجية من مرحلتين هدفها تعزيز التمسك الإسرائيلي بتلك المناطق.

تضمنت المرحلة الأولى نقل أكبر قدر ممكن من القواعد العسكرية الإسرائيلية إلى داخل مناطق الضفة الغربية في حين تعلقت المرحلة الثانية ببناء المستوطنات، وبما أن موقعه كقائد لواء في الجيش لا يخوله إنشاء مستوطنات يهودية في المناطق بهدف التمسك بالأرض وفرض الأمر الواقع، فقد سخّر طاقته بأكملها لتحقيق هذا المشروع، حيث فكر بنقل قواعد التوجيه الخاضعة لمسؤوليته إلى مناطق الضفة الغربية، الأمر الذي عرّضه لإنتقادات عدة جهات عسكرية رفضت هذا الإجراء.

لكنه استمر في مشروعه واستكمل بلورة خطة ثانية خاصة بنقل عائلات الضباط والعاملين في الخدمة الدائمة في الجيش إلى مناطق الضفة الغربية غير أن خطته الجديدة لم تنجح بسبب معارضة وزير الدفاع موشي دايان، لكن شارون لم يشعر باليأس، واستغل هذا الرفض لإقناع وزراء وشخصيات سياسية بدعم إنشاء مستوطنات مدنية إسرائيلية في الضفة الغربية إذا لم يريدوا إنشاء مستوطنات عسكرية.

إلا أن محاولاته باءت بالفشل خلال تلك المرحلة، لكنه ظل يتحدث عن وجوب العمل لإنشاء أمر واقع يمكن إسرائيل من التحرك خلال مراحل الضعف، مدعماً وجهة نظره بالقول: س حينما تتعرض إسرائيل لضغوط دولية لإعادة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، لن نقول لأنفسنا لا يوجد لنا أي شيء هناك، وبالإمكان مغادرة المكان، فهناك المستوطناتز.

من جهة أخرى، انشغل شارون في مواجهة حرب الإستنزاف التي أعلنها الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد عدة أسابيع من إنتهاء حرب 1967 واستمرت على فترات متقطعة طيلة ثلاث سنوات على طول الحدود الإسرائيلية مع مصر والأردن وبدرجة أقل مع سوريا ولبنان، إلى أن انتهت في اغسطس 1970.

وبصفته مسؤول شعبة التوجيه انشغل شارون بالتخطيط لنظام التدريبات والتوجيه بهدف إعداد وحدات الجيش لشن عمليات عسكرية في العمق ضد الجيش المصري وقواعد الفدائيين في الأردن.

* انتكاسة حقيقية

كل المجد الذي حظي به شارون في أعقاب حرب 1967 تعرض لإنتكاسة حقيقية حالت دون السعادة الغامرة التي كان من المفترض أن يحياها شارون. ففي الرابع من نوفمبر 1967 وفي الساعة التاسعة صباحاً وبينما كان شارون في منزله غارقاً بإجراء مكالمة هاتفية من غرفة النوم، توجهت ليلي لشراء بعض الحاجيات تاركةً الأولاد الثلاثة في المنزل، توجه غور لأبيه مخبراً إياه بخروجه إلى الساحة للعب مع أحد أصدقائه.

ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى اخترقت رصاصة واحدة حاجز الصمت، ثم سمع شارون صوت ارتطام قوي وصراخ، فهرع إلى الخارج، حيث شاهد منظراً فظيعاً، ابنه المحبوب ملقى على الأرض ينزف دماً وثقب في وجهه بالقرب من عينه أحدثته تلك الرصاصة.

وليس بعيداً عن الطفل كان هناك بندقية قديمة علقتها العائلة على أحد جدران المنزل كذكرى، أما صديق غور فكان يقف على مقربة من المكان مذهولاً لما جرى، وفي الساحة يقف «عومري» البالغ من العمر ثلاثة أعوام ونصف وجلعاد الذي لم يتجاوز عاماً واحداً.

أدرك شارون أن ابنه في حالة خطرة، فرفعه بين يديه وهرع نحو السيارة لكنه تذكر أن ليلى خرجت بالسيارة لشراء بعض الحاجيات، فاتجه إلى منزل جاره قائد سلاح الجو لكنه هو الآخر لم يكن موجوداً في المنزل، فاتجه نحو الشارع وابنه ينزف دماً بين يديه، موقفاً إحدى السيارات طالباً من السائق التوجه إلى أقرب عيادة طبية.

وفي غضون أقل من دقيقتين تم نقل الطفل إلى أحد المستشفيات القريبة، يقول شارون في كتابه «مقاتل» «شاهدت في حياتي الكثير من الجرحى والقتلى، مما أكد لي أن إصابة غور لا أمل في النجاة منها. لقد علمت ذلك منذ رأيت غور ملقى على العشب في الساحة. ولكن مثل أي أب آخر أردت التمسك بحبال الأمل، فربما تحدث معجزة».

ورداً على سؤال إن كان غور قُتل بسلاح شارون قالت ليلي «لا لم يقتل بسلاح أريك، لقد كانت البندقية من ضمن ثلاث بنادق حصل عليها أريك من أحد المقاتلين، وعمرها 150 عاماً، طلب غور أن نعلقها على الحائط، وفي اليوم نفسه، جاء ابن الجيران المعروف بشقاوته وانزل البنادق المعلقة على الحائط، واحضر معه مواد متفجرة».

ومن الجدير بالذكر هنا أن صحيفة «يديعوت أحرونوت» التي أوردت الخبر في عددها الصادر في الثامن من نوفمبر 1967 تحت عنوان (وفاة شبل الأسود) لم تشر إلى وجود طفل آخر في مكان الحادث، وجاء الخبر على أساس أن الطفل غور كان يلعب وحده بالبندقية التي انطلق منها عيار ناري بالخطأ فقتله. لكن أريك لم يرضَ أن تحوم بعض الشكوك حول ظروف وفاة ابنه فطلب إجراء تحقيق شرطي مفصل، وقام بتوكيل المحامي شموئيل تمير لمتابعة الموضوع.

وقد أظهرت التحقيقات بأن الأولاد أدخلوا قطعاً معدنية وبارود إلى داخل البندقية وبينما كان غور يعبث بها انطلقت تلك الرصاصة القاتلة، وجاء في شهادة عائلة الطفل الآخر بأن ابنها هو أول من أمسك بالبندقية إلا أنه وقبل أن تنطلق الرصاصة بثوانٍ، تناول غور البندقية من يد ابنهم، ونظر داخل فوهتها لفحص سبب عدم خروج الطلقة، فضغط بنفسه وعن طريق الخطأ على الزناد وكان ما كان.

أما شيوخ ضاحية تسهلا التي كان يقطنها شارون، فقد تحدثوا عن طبيعة العلاقات المشحونة والمتعكرة التي سادت بين العائلتين بعد الحادثة، إذ لم يسامح أريك صديق ابنه، بل حدثت عدة مواجهات مع عائلة الطفل، وخلال إحدى المراحل بعثت عائلة الطفل برسالة إلى رئيس الأركان قدموا خلالها شكوى ضد تصرفات شارون ازاءهم.

عرض ومناقشة: مركز جنين للدراسات الاستراتيجية

Email