الراعي ـ قصة حياة سفاح -الحلقة -3

معركة ممر متلا لعنة ظلت تلاحق شارون

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمضي المؤلفان في هذه الحلقة في الحديث عن شارون وقصة ارتقائه سلم الشهرة بعد المجازر التي ارتكبتها الوحدة 101، حيث استطاعت ان تنفذ عملية انتقامية في مدينة الخليل رداً على مقتل جنديين إسرائيليين أسفرت عن مقتل أربعة فلسطينيين وعودة المنفذين بسلام.

ونجاح مهمة القتل هذه أدى إلى إحداث تغيير في نظرة دايان إلى الوحدة وتفكيرها بدمجها مع لواء المظليين، وكان له ما أراد بالفعل بعد أن تم تعيينه رئيساً للأركان في الجيش الإسرائيلي. وقد شعر شارون بالارتياح من هذا القرار الذي يمنحه سيطرة أكبر على الوحدتين اللتين اندمجتا في كتيبة واحدة.

وتتحدث الحلقة أيضاً عن الأجواء التي مهدت لحرب السويس 1956 والتي شاركت فيها كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ضد مصر، وكذلك عن اختيار القيادة الإسرائيلية لكتيبة شارون من أجل القيام بمهمة في ممر متلا. ولكن شارون ارتكب خطأ في تلك المهمة حولها إلى كابوس ظل يطارده طوال مسيرته المهنية.

بعد عملية قبية مباشرة تحول أريك شارون وبشكل واضح للمرة الأولى ضمن مسيرته العسكرية، مع أنها ليست الأخيرة، إلى شخصية موضع خلاف، إذ وصفه المنتقدون كقائد يقف على رأس مجموعة من القتلة، أما مؤيدوه فقد اعتبروه قائداً شجاعاً لامعاً وقوي الشخصية.

لقد بدأت تظهر مشاعر مختلطة حيال الوحدة 101 والشخص الذي يتولى قيادتها، فمن جهة تم اعتبار مقاتلي الوحدة أشجع وأمهر المقاتلين في الجيش الإسرائيلي، ومن جهة أخرى هناك من اعتبرهم كمن يقومون بعملية تفريغ للطاقة واصفين إياهم بحملة المسدسات الذين يعملون على طريقة الغرب الجامح معززين هذا الرأي بحادثة طبريا حيث قام أفراد الشرطة العسكرية باعتقال أحد مقاتلي الوحدة 101 أثناء تنقله بسيارة تابعة للجيش في يوم الجمع.

ولأن تعليمات الجيش تحظر القيام بذلك أوقفته الشرطة العسكرية مستفسرةً عن الأمر، لكن المقاتل رفض إبلاغ الشرطة بالوحدة التي ينتمي إليها حفاظاً على سرية الوحدة 101، وخاض جدلاً مع الشرطة تحول لاحقاً إلى مواجهة بالضرب، فتم اعتقاله وزجه في السجن.

وفي ليلة السبت عاد أفراد الوحدة 101 إلى قاعدتهم وسمعوا القصة وعلى أثر ذلك اتخذوا قراراً بشن عملية انتقامية ضد الشرطة.

ويقول أحد الضباط في الوحدة «لم يكن أريك متواجداً في حينه، قمنا بإعداد هراوات خاصة صنعناها من إطارات السيارات حتى لا نقتل أحداً، ودخل ثلاثة مقاتلين من الوحدة إلى مركز الشرطة العسكرية في طبريا بحجة القيام بمناورة عسكرية واعتدينا على كل من تواجد هناك.

وقمنا بضرب الرقيب الذي اعتقل أحد أفراد الوحدة بل وكسرنا عظامه، وأخبرناهم بأنه في حال التقوا بأي فرد منا عليهم التعامل معنا باحترام بل ودعوتنا لشرب فنجان من القهوة».

وفي أعقاب هذا الحادث ضجت القيادات العسكرية العليا في إسرائيل وتم إجراء تحقيقات واسعة بشأن الجهة المسؤولة عن هذه العملية الخطيرة، وطلبت القيادة العسكرية من أريك شارون معاقبة جنوده الذين انتهكوا القانون، فكان أقصى ما فعله أن أرسلهم لمدة أسبوعين إلى منازلهم، وبعد هذه الإجازة أبلغهم شارون أن عقوبتهم انتهت وبإمكانهم العمل من جديد في الوحدة.

أمام فضيحة حادثة طبريا ومجزرة قبية أجمع مقاتلو الوحدة 101 على واحدة من أهم مزايا شارون وهي الاعتراف بالمسؤولية، إذ أنه كقائد لم يلقِ في يوم من الأيام التهمة على أحد الخاضعين لإمرته، كما أنه خلال جميع المراحل كان يحرص على دعم جنوده أمام كافة المستويات السياسية والعسكرية، غير متنصل من المسؤولية.

مما منح مقاتلي الوحدة 101 شعوراً بالثقة والأمان بأن قائدهم سيقف إلى جانبهم في كل الحالات وجميع الظروف، وبالتالي كانوا مستعدين للتضحية بحياتهم من أجله في ميدان القتال، ومسامحته حيال ما يصدره من كلمات غاضبة في ميدان التدريبات.

من جهة أخرى شكلت كل تلك الأحداث «عملية قبية ومشكلة طبريا» عوامل رئيسية في تغيير رأي موشي دايان.

فبعد أن عارض قبل ثلاثة أشهر فقط إنشاء الوحدة 101 غير رأيه باتجاه أكثر إيجابية، ففي أعقاب عملية قبية ومعرفة الجميع بسر وجود الوحدة 101 وبصفته رئيساً لشعبة العمليات في هيئة الأركان أعرب عن اعتقاده بأن العملية الانتقامية في قبية كانت العملية الوحيدة التي نفذتها إسرائيل بنجاح منذ عامين.

ومنذ تلك اللحظة تخلى دايان عن اعتباراته السابقة الرافضة لإنشاء وحدة مختارة تأخذ على عاتقها تنفيذ مهمات معقدة وكان رفضه بحجة أن وجود مثل هذه الوحدة سيحول دون تطوير سائر فرق الجيش التي يجب أن تكون في الأصل وحدات مختارة ومميزة.

وبعد أن نجحت عملية قبية وأثبتت الوحدة 101 مدى قوتها في حادثة طبريا قرر دايان تبني فكرة جديدة وهي بث بعض ما تتحلى به الوحدة 101 من روح قتالية في نفوس أفراد الوحدات الأخرى.

وضمن الخطوات الأولى في هذا الاتجاه فكر دايان بمزج الوحدة 101 في لواء المظليين ليشكلا جسماً واحداً يطلق عليه اسم الكتيبة 890، وأراد دايان مزج المقاتلين بلواء المظليين لأنهم الأقرب لهم في روح القتال، وإلى أن يحين الموعد المناسب لتنفيذ هذه الفكرة قرر دايان تقديم الدعم المطلوب لمواصلة الوحدة 101 نشاطاتها.

* تغييرات

جاءت الفرصة المناسبة بشكل تدريجي في السادس من ديسمبر 1953 حينما استقال رئيس الأركان مردخاي مكليف في أعقاب نقاش حول الصلاحيات بينه وبين القائم بأعمال وزير الدفاع «بنحاس لافون» والقائم بأعمال مدير عام وزارة الدفاع «شمعون بيريز»، وفي اليوم نفسه قرر بن غوريون تعيين موشي دايان في منصب رئيس الأركان،.

وفي صبيحة اليوم التالي فاجأ بن غوريون الجميع حينما استقال من منصبه كوزير للدفاع ورئيس للحكومة واعتزل في منزله وجاء خلفاً له وزير الخارجية موشي شاريت رئيساً للحكومة وتم تعيين بنحاس لافون وزيراً للدفاع.

بالنسبة لأريك شارون لم تكن هذه التغييرات السياسية مشجعة إذ أن موشي شاريت معروف بتوجهه التصالحي مع الدول العربية، وهذا التوجه يقضي بالضرورة رفض شن عمليات انتقامية.

مما سيهدد مستقبل الوحدة 101 التي يقف على رأسها، لكن حظه الجيد أنه وفي الوقت ذاته الذي يقف فيه شاريت على رأس الهرم السياسي، يوجد هناك موشيه دايان رئيس الأركان .

والذي بدا أن تغيره أصبح واضحاً لصالح الإبقاء على نهج الوحدة 101، هذا الأمر أضفى بعض الطمأنينة على نفس شارون الذي استراح تماماً بعد زيارة دايان لقاعدة الوحدة داعماً إياها مشيداً بعملياتها، وعلى الفور دبت روح الحماسة من جديد في شارون الذي انقض على رجاله ضمن خطة تدريب أكثر قساوة وأشد مما سبقها استعداداً للعملية القادمة.

وفي نهاية ديسمبر 1953 توجهت الوحدة 101 نحو ما اتضح لاحقاً أنها آخر عملية لها قبل الإندماج بلواء المظليين، كان الهدف هذه المرة القيام بعملية داخل العمق في مدينة الخليل رداً على مقتل جنديين إسرائيليين في منطقة بيت جبرين، ولم يكن الهدف سهلاً، إذ ينبغي تفجير أحد المنازل في المدينة التي تبعد 22 كيلو متراً على خط الحدود والعودة بعدها إلى الأراضي الإسرائيلية بسلام.

لقد رافق أريك في هذه العملية خلية مكونة من أربعة أشخاص انطلقوا في ليلة مثلجة سيراً على الأقدام، انفصل أريك عنهم عند الحدود، أما قائد الخلية «مئير هارتسيون» واستمر معهم في التقدم.

وبعد معركة قصيرة في قلب المدينة أدت إلى مقتل أربعة من العرب عادت الخلية قبل حلول الفجر إلى نقطة اللقاء عند الحدود، وبعدما قطعوا مسافة 44 كيلو متراً في الثلج ذهاباً وإياباً كان أريك بانتظارهم.

نجاح هذه العملية انتشر بسرعة كبيرة جعلت أريك لا يبدي أي تواضع، ومن المعروف أنه للقيام بعملية ناجحة في تلك الفترة فإن الأمر يتطلب قوة مكونة من عدة سرايا إضافة إلى دعم وتغطية واعتبارات لوجستية عديدة .

ولكن مع نجاح الوحدة 101 تأكد الآن أن أربعة مقاتلين متفوقين من ذوي اللياقة البدنية العالية بإمكانهم القيام بنفس العمل وبنجاعة تامة، بعبارة أخرى نجاح عملية الخليل رفع من أسهم الوحدة 101 كما ارتفعت بالضرورة مكانة شارون وهيبته.

وبعد أقل من شهر على تعيين دايان رئيساً للأركان وتحديداً في السادس من يناير 1954 بدت الفرصة سانحة تماماً، حيث تم دمج الوحدة 101 بكتيبة المظليين وتم تعيين شارون قائداً لهذه الوحدة الجديدة والمسماة «كتيبة المظليين 890».

لقد اتبع دايان أسلوباً مراوغاً في تنفيذ عملية الدمج، فمن جهة أخبر شارون مسبقاً بهذا السر ووعده بأنه سيتولى قيادة هذه الوحدة، وفي الوقت ذاته كان قد أوهم رئيس شعبة التوجيه في هيئة الأركان اللواء مئير زودياع بأن القيادة ستكون لصالح مرشحه قائد كتيبة المظليين المقدم يهودا هراري.

وحينما لاحت لحظة الحقيقة استدعى دايان المقدم هراري إلى مكتبه، والذي كان مقتنعاً بدوره بأن دايان سيزف إليه بشرى قيادة الوحدة الجديدة المندمجة، لكنه فوجئ تماماً حينما أبلغه بأن الرائد أريك شارون سيتولى هذا المنصب.

والسؤال هنا لماذا أخفى دايان هوية المرشح لقيادة الوحدة حتى آخر لحظة؟ إن الجواب يكمن في حقيقة معارضة جنود كلا الوحدتين، المظليين و101 لقرار الإندماج، إذ لا يرغب المظليون في الحط من قدرهم عبر دمجهم إلى مستوى أفراد العصابات، في حين لم يرغب مقاتلو الوحدة 101 التحول لإنسان آلي عسكري يلتزم بقواعد منضبطة.

ودايان بهذا الأسلوب أراد العمل على تقليص الاحتكاك المسبق إلى أدنى حد، فهو يريد أن يقود شارون هذه الوحدة المندمجة لأنه يستطيع السيطرة على مقاتليه الذين لم يعتادوا الإنضباط العسكري، ولهذا السبب كان لا بد من تنفيذ عملية المزج عبر المفاجأة والخديعة.

وبالفعل قوبل قرار الدمج بين الوحدتين بحزن وغضب، إذ لم يكن دخول شارون كتيبة المظليين أمراً سهلاً، إذ أن المظليين أيضاً كانوا يكنون الحب والولاء لقائدهم السابق «يهودا هراري» الذي تمكن خلال ثلاثة أعوام قضاها قائداً لكتيبة المظليين من تحويل أفرادها من وحدة جامحة إلى وحدة منظمة .

وبالتالي لم يكن من السهل قيادة أشخاص مفعمين بروح الاعتزاز والولاء لقائدهم السابق، ولم يكن أمام شارون للتغلب على هذا الوضع إلا استلام منصبه الجديد من خلال عاصفة.

ففي أعقاب تعيينه قائداً للوحدة الجديدة فضل عدد من الضباط في الوحدة 101 ووحدة المظليين التستقالة كنوع من التهديد، إلا أن شارون لم يجعل ذلك يعوق مشاريعه حيث قبل استقالة من يريد، وأقال أيضاً عدداً من ضباط كتيبة المظليين الموالين لهراري ونصب مكانهم ضباطاً موالين له من الوحدة 101.

لقد أثبت شارون قدرته على القيادة، فقيادة كتيبة كبيرة كما هو الحال في كتيبة المظليين المندمجة مع الوحدة 101 لم يكن موازياً لقيادة حوالي ثلاثين شخصاً، ولكنه أثبت قدرته على القيادة عبر جعله الكتيبة 890 من أكثر الوحدات كفاءةً في الجيش من خلال التدريبات القاسية التي فرضها على أعضاء الكتيبة.

ومن ضمنها رحلات طويلة راجلة، والرماية من مسافات مختلفة ومهارات الجودو والتدريب على الملاحة النهارية والليلية، وإلى جانب نجاح شارون العسكري في الكتيبة، استمر نجاحه في علاقاته الشخصية مع جميع الخاضعين لإمرته.

* كمين في متلا

اعتمدت النظرية الأمنية الإسرائيلية خمسة أوضاع لا يمكن تجاوزها، واعتبرت تجاوز أي واحد منها خطاً أحمر من شأنه دفع إسرائيل بإتجاه شن حرب استباقية وقائية، وهذه الأوضاع هي:

1 ـ زعزعة الحياة الطبيعية في دولة إسرائيل جراء العمليات الفدائية الفلسطينية.

2 ـ إغلاق المعابر البحرية.

3 ـ خرق ميزان التسلح بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية.

4 ـ دخول قوات سورية وعراقية إلى الأردن.

5 ـ عقد تحالفات عسكرية ثلاثية بين مصر وسوريا والأردن.

وخلال عامي 1955 ـ 1956 تحققت جميع هذه الظروف الواحد تلو الآخر، إذ بدأت مصر ومنذ أغسطس 1955 بتفعيل وحدات من الفدائيين للقيام بتنفيذ سلسلة من الهجمات بحيث اتسعت دائرتها ووصلت إلى تنفيذ هجمات انطلاقاً من الأراضي الأردنية، وبلغت ذروتها في ابريل 1956.

وفي سبتمبر 1955 فرض المصريون حصاراً بحرياً وجوياً على ميناء إيلات، وفي الشهر نفسه عقدت مصر صفقة عسكرية مع تشيكوسلوفاكيا، وفي أبريل 1956 وقعت سوريا صفقة أسلحة مع الاتحاد السوفييتي،.

وإلى جانب كل ذلك وقعت مصر وسوريا اتفاقية حلف استراتيجي مشترك في عام 1955 وبتاريخ الخامس والعشرين من أكتوبر 1956 انضم الأردن لهذا الحلف، وفي غضون ذلك تم وضع فرقة عراقية على الحدود مع الأردن، بما جعل الأمور كلها تجتمع دفعة واحدة كحبل يلتف حول عنق الدولة اليهودية الشابة وبدأت الأمور تتجه نحو الحرب.

وفي مقابل هذه التحركات العربية حاولت إسرائيل الحصول على أسلحة حديثة تقلص الفارق والفجوة الكمية والنوعية مع الجانب العربي، غير أن كبار منتجي السلاح أغلقوا أبوابهم في وجه إسرائيل، إذ اعتبرت بريطانيا نفسها وصية على الدول العربية فرفضت بيع أسلحة ودبابات لحكومة تل أبيب.

في حين اتخذت واشنطن موقفاً مشابهاً للندن ولكن بحجة رغبتها بالظهور كطرف محايد، أما الدولة الوحيدة التي وافقت على بيع السلاح لإسرائيل فكانت فرنسا، وفي ابريل 1956 فتحت فرنسا أبواب مستودعات السلاح لديها أمام إسرائيل.

وفي أقل من نصف عام تمكنت تل أبيب من نقل 60 طائرة ومئات الدبابات والمدافع المتحركة من عيار 105 ملم والسيارات المجنزرة وقذائف الهاون ومدافع مضادة للطائرات وكميات هائلة من الذخيرة.

وبعد فترة بسيطة ظهرت إمكانية العمل المشترك بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا ضد مصر، وذلك بعدما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر في السادس والعشرين من يوليو 1956 تأميم قناة السويس، الأمر الذي ألحق ضرراً بالمصالح التجارية والدولية للدولتين الأوروبيتين، وبشكل خاص بريطانيا التي استمرت هيمنتها على قناة السويس حتى عام 1954.

حيث توصل الجانبان المصري والبريطاني في ذلك العام إلى اتفاق يتم بموجبه إخلاء القواعد العسكرية البريطانية في قناة السويس، إلا أن المعاهدة أعطت بريطانيا الحق في التدخل حال نشوب حرب في المنطقة لتحافظ على مصالحها في منطقة القناة.

والآن وبعد قرار التأميم أرادت بريطانيا أن تشن القوات الإسرائيلية هجوماً على مصر. وبعدها تتدخل هي لصالح الطرف الإسرائيلي.

إلا أن بن غوريون تحفظ على هذا الاقتراح الذي يُظهر إسرائيل كمعتد وبريطانيا وفرنسا كدولة صديقة تتدخل لحل النزاع من أجل السلام، عدا عن عدم ثقة بن غوريون في بريطانيا التي نظر إليها باعتبارها صديقةً للعرب وخشيته من تخليها عن إسرائيل عند لحظة الحقيقة واندلاع الحرب.

وفي نهاية هذا الخلاف تم التوصل إلى حل وسط بين الدول الثلاث، وبدلاً من أن تبدأ إسرائيل في حرب شاملة ضد مصر سيقوم الجيش الإسرائيلي بعمليات انتقامية واسعة النطاق.

وعمليةً من هذا النوع ستكون مبررة تماماً في أوساط الجمهور الإسرائيلي والرأي العام العالمي حيث سينظر لها الجميع باعتبارها رداً على الهجمات المتكررة المنطلقة من الحدود المصرية.

وحتى يتسنى تدخل بريطانيا وفرنسا بالاستناد إلى بنود معاهدة 1954 اقترح موشيه دايان تنفيذ عملية إنزال لكتيبة المظليين في ممر متلا، حتى يظهر الأمر كخطوة عسكرية واسعة تهدد مرور السفن البريطانية والفرنسية في المضائق مما يتيح للدولتين التدخل، وبتاريخ الخامس والعشرين من أكتوبر وقع بن غوريون في إحدى ضواحي باريس على صيغة هذه التسوية التي عرفت «باتفاق سوار».

في صبيحة اليوم التالي لهبوط بن غوريون عائداً من فرنسا أي في السادس والعشرين من أكتوبر تلقى أريك شارون أوامر بجعل قواته في حالة تأهب قصوى، وترك جميع مشاغله والتوجه نحو قيادة المنطقة الوسطى من أجل تلقي التعليمات المفصلة حيث اتضح أن الوحدة 202 في كتيبة المظليين ستعلب دوراً مهمامً في الحرب الوشيكة.

*عملية كاديش

واستكمالاً لتحضيرات العدوان الثلاثي المسمى بعملية «كاديش»، تم استدعاء شارون للقاء شخصي مع بن غوريون حيث تلقى التعليمات من رئيس الحكومة ووزير الدفاع إزاء ما يتعلق بالعملية وأهدافها، وشرح له الطرفان الأمر بالقول «في الوقت الذي يستعيد فيه الفرنسيون والبريطانيون السيطرة على بورسعيد وقناة السويس، سيكون دور إسرائيل فتح مضائق تيران لضمان حرية الملاحة إلى ميناء إيلات وإبعاد خطر الفدائيين عن الحدود الإسرائيلية».

كما أكد له بن غوريون أن الأمر لا يتعلق بحرب في جميع القطاعات لأن الحكومة تنوي الحفاظ على كافة الخيارات، فالمقصود هو عملية واسعة ومن ثم التراجع للوراء.

لقد كانت المهمة الأساسية الملقاة على عاتق الوحدة 202 هي إطلاق الرصاصة الأولى إيذاناً بالشروع بعملية كاديش، من خلال إنزال كتيبة مظليين في ممر متلا بعمق سيناء بعيداً عن قناة السويس بحوالي ثلاثين كيلو متراً.

وفي موازاة ذلك، من المفترض أن تجتاز باقي قوات الفرقة الخطوط الحدودية البرية مع مصر متقدمةً حوالي 18 كيلو متراً في صحراء سيناء ومن خلال المحور الجنوبي تستمر القوات بالتقدم إلى أن يتم الارتباط بالكتيبة الأمامية التي تم إنزالها في متلا.

وبناءً على ذلك قام شارون بإعداد خطة قتالية بالتعاون مع العقيد أسان سمحوني قائد المنطقة الجنوبية، وكانت المشكلة الرئيسية التي واجهت القائدين هي عملية إنزال الكتيبة الأمامية بسلام دون إصابتها من القوات المصرية عند المدخل الجنوبي لمضيق متلا بالقرب من موقع باركر.

وإصدار الأوامر للكتيبة للتمسك بالمكان والصمود فيه مدة 48 ساعة إلى أن تتمكن كتائب الفرقة من اجتياز الصحراء براً والارتباط بها. أما مهمة الإنزال فقد ألقيت على كاهل كتيبة المظليين 890 بقيادة «رفائيل إيتان».

صبيحة يوم الأربعاء 31 أكتوبر طلب أريك شارون من هيئة الأركان السماح له بتقدم قواته داخل ممر متلا خشية أن تكون المنطقة الأمامية المحيطة بنصب باركر مكشوفة لهجوم مصري مدرع، لكنه تلقى جواباً سلبياً من موشي دايان، الأمر الذي أثار غضب شارون.

والذي كان يجهل أن رفض دايان يعود في الأساس لرغبته تأخير الوحدة 202 عند المخرج الشرقي لمتلا ليمنع تقدمها باتجاه شرم الشيخ ومضائق تيران بناءً على اعتبارات سياسية وليست عسكرية، إذ أجلت بريطانيا وفرنسا عملية بدء الهجوم على مصر حوالي خمس وعشرين ساعة.

وبالتالي أراد دايان إعادة الفرقة 202 إلى الوراء للاحتفاظ للجيش بحرية التحرك والمناورة والادعاء بأن الأمر يتعلق بعملية رد فعل واسعة وليست حرباً.

وأمام جهل أريك للأسباب التي جعلت موشي دايان يرفض تقدم القوات في متلا، وعدم إدراكه لفحوى هذا الإجراء الذي بدا له غير منطقي من الناحية التكتيكية العسكرية، أراد شارون حسم المعركة وجني ثمار المجد له وللمظليين.

وفي غضون ذلك لاحظ أريك وجود قوة مدرعة مصرية متمركزة على بعد خمسين كيلومتراً شمال غرب نصب باركر، توجه مرة أخرى لهيئة الأركان طالباً دخول ممر متلا بهدف تحسين موقع كتيبته إلا أن طلبه جوبه بالرفض مرة أخرى،.

ولتهدئة شارون الثائر أرسل إليه رئيس الأركان موشي دايان وعلى وجه السرعة رئيس هيئة قيادة المنطقة الجنوبية المقدم «رحبعام زئيفي» حاملاً معه رسالة واضحة بعدم دخول المضيق والتورط في القتال، فجن جنون أريك وطلب من زئيفي السماح له القيام بعملية دورية داخل متلا ، فوافق على طلبه شريطة أن يرسل أريك قوة دورية فقط ولا يسعى إلى الالتحام مع قوات العدو.

غادر زئيفي متلا وقبل إقلاع طائرته تمكن من رؤية أريك يقوم بإعداد طاقم قتالي بقيادة «موطي غور» يفوق حجمه ما تحتاجه الدورية، وعند الظهر انطلق «غور» على رأس سريتين من المجنزرات وفصيل دبابات وبطارية هاون ومركبة تموين باتجاه المضيق باعتبارهم دورية فقط، لكن أريك أمر «غور» بالتقدم بحذر داخل المضيق، وانضم إلى طاقم «غور» نائب قائد الفرقة «يتسحاق حوفي» وخلفهم تحركت قوة احتياط صغيرة بقيادة «أهرون دفيدي».

لم يكن أريك يعلم بأنه يرسلهم إلى داخل كمين مصري قاتل، فعند دخول قوة رأس الحربة بقيادة «غور» تفاجأ بمئات الجنود المصريين المختبئين داخل الثغور.

وأصبحت القوة عالقة حيث أخذ المصريون يطلقون وابلاً من الرصاص من الخلف والأمام، وعلقت القوة بالوسط، والمجنزرات بما فيها من جنود تعرضت للإصابة فسارع «غور» لإنقاذ الجنود العالقين، لكنه علق معهم، وتمكن قسم من الكتيبة ومن ضمنهم «يتسحاق حوفي» من اختراق شبكة النار الكثيفة باتجاه الغرب أي باتجاه العمق المصري .

والتمركز عند المخرج الغربي لمتلا محاولاً إنقاذ قوة رأس الحربة التي كانت لا تزال عالقة في قلب المضيق ولكن دون جدوى، خاصة أن الطائرات المصرية كانت تهاجم المركبات التابعة للقوة العالقة، وخلال تلك المرحلة لم يكن أمام أريك سوى خيار إدخال جميع أفراد الوحدة 202 على مسافة ثماني كيلومترات عند المخرج الشرقي للمد إلى قلب المعركة.

كما أن السبيل الوحيد لإخراج القوات العالقة في متلا هو إسكات المصريين عبر معارك مباشرة وجهاً لوجه عند السفوح والمنحدرات وفي الثغور الجبلية الضيقة. ولتنفيذ ذلك أرسل أريك الكتيبة 890 بقيادة رفائيل إيتان والوحدة الخاصة التابعة للفرقة من أجل الارتباط بقوة «أهرون دافيدي» التي لم تدخل المضيق بعد لإنقاذ العالقين هناك.

لكن إيتان ودفيدي فشلا في تحديد مكان اختباء الجنود المصريين، لذا بحثا عن متطوع يوافق على التقدم بسيارة جيب إلى داخل المضيق ويلفت أنظار النيران المصرية إليه، وبذلك يتمكنوا من تحديد مصادر النيران ومواقع الجنود المصريين.

لقد استمرت المعركة سبع ساعات، أرسل شارون خلالها سريتين تسلقتا قمم الجبال من أجل تطهيرها من القوات المصرية تمهيداً لمساعدة جنوده العالقين في متلا، لكن المصريين قاتلوا بضراوة حتى آخر قطرة من دمهم وقد سقط خلال هذه المعركة حوالي 260 مصرياً في حين أن خسائر المظليين الإسرائيليين وصلت إلى 38 قتيلاً و120 جريحاً.

في أعقاب هذه المعركة ثار جدل حاد بين رئيس الأركان «موشي دايان» وقائد المظليين «شارون»، حيث اتهمه دايان بخرق الأوامر، أو بعبارة أخرى، حصل على إذن للقيام بأعمال دورية وليس تنفيذ هجوم، متهماً شارون بدخول معركة غير ضرورية أدت لقتل عشرات الجنود دون جدوى قائلاً له:

«لقد استخدمت مصطلحاً ضبابياً «دورية» كذريعة من أجل القيام بهجوم واسع، فمنذ البداية أعددت قوة كبيرة يشير حجمها إلى حجم قوة هجومية وليس قوة دورية أو مراقبة».

وفي كتابه «يوميات سيناء» وجه موشي دايان انتقاداً شديداً لشارون حول هذه القضية دون أن يحدد اسم شارون بشكل واضح، حيث جاء في الكتاب «لقد لفت انتباهي عدد من ضباط هيئة الأركان باستياء شديد بأنني أتساهل جداً مع المظليين. أنني أعلم بأنهم هاجموا ممر متلا خلافاً لأوامري فكان لعمليتهم نتائج قاتلة، لا حاجة للقول إلى أي مدى نحن آسفون على الخسائر الفادحة في معركة متلا لكن الغضب كبير في قلبي على قيادة المظليين الذين خدعوا هيئة الأركان في قولهم بأنهم خارجون في دورية».

وبصفته رئيساً للأركان عيّن موشي دايان الضابط «حاييم لاسكوف» للتحقيق فيما حدث في معركة متلا ، وعرض شارون موقفه القائل أن الموقع الذي نزلت فيه الكتيبة 890 وتواجدت فيه لاحقاً الوحدة 202 لم يوفر الحماية الكافية في وجه المدرعات المصرية المتمركزة على بعد خمسين كيلو متراً شمال غرب الممر.

وأخذ يبرر موقفه، بأنه تلقى الإذن من رحبعام زئيفي بشأن إرسال دورية إلى ممر متلا وأنه التزم بأوامر زئيفي بعدم التورط في القتال، وبناءً على ذلك، كان كل ما فعله هو تنظيم قوة دورية حذر قادتها من التورط في القتال والدخول بحذر .

ولكن منذ اللحظة التي دخلت فيها الدورية تعرضت لإطلاق النار، وتصرف كل من «غور وحوفي» بشكل صحيح وتوجها لإنقاذ جنود القوة الأولى العالقين، وأضاف شارون «عندما رأيت عشرات المقاتلين في الكمين يصرخون طالبين النجدة لم يكن أمامي سوى الزج بالقوة الرئيسية لفرقة المظليين إلى داخل متلا».

ولم يستطع «لاسكوف» وضع نتائج واضحة للتحقيق، لذا انتقل الخلاف بين شارون ودايان إلى ديوان رئيس الوزراء. وبعدما قرأ بن غوريون تقرير لاسكوف، قام باستدعاء قائد فرقة المظليين «شارون» ورئيس الأركان «دايان» لعقد اجتماع ثلاثي وسماع وجهة نظر الطرفين، إلا أن الإجتماع لم يتمخض عن شيء، حيث لخص بن غوريون رأيه بالقول «لا أرى نفسي مخولاً بما فيه الكفاية من الناحية العسكرية المهنية لكي أحكم في الخلاف بينكما».

من هنا أخرج بن غوريون قائد المظليين أريك شارون من عملية التحكيم تلك دون أية عقوبة، إلا أن ذلك لم ينهِ الجدل العام حول معركة متلا التي ظلت كلعنة تطارد شارون لسنوات طويلة خاصة مع تصاعد اتهامات قائد دورية متلا «موطي غور» والتي جاء فيها أن «شارون امتنع وبشكل غريب عن الإقتراب بشكل شخصي من خط النار في المعبر، متنصلاً من القيم التي طالما دعا إليها، بأن القائد ينبغي أن يشكل قدوة لجنوده».

يمكن القول إن عملية «كاديش» انتهت، إلا أنها بالنسبة لشارون لم تنتهِ بعد، ففي أعقاب أحداث معارك متلا ونظام العلاقات المتعكر مع رئيس هيئة الأركان موشيه دايان وعملية التحكيم من جانب حاييم لاسكوف والإتهامات التي أطلقها موطي غور والإنتقادات التي غدت تلاحق شارون في صفوف الوحدة 202 كان واضحاً لدى الجميع أن إنتهاء فصل المظليين في حياة أريك شارون غدا وشيكاً.

Email