العلاج بالكي .. موروث قديم وتحذيرات حديثة

العلاج بالكي .. موروث قديم وتحذيرات حديثة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

قالت العرب قديما آخر العلاج الكي، لكن الوالدة أم محمد شيخة الصريدي لا تتفق مع هذه المقولة وهي التي تعالج بالكي «الوسم» منذ أكثر من ثلاثين عاما، حيث استقبلتنا في بيتها في منطقة أذن إحدى مناطق رأس الخيمة لتحدثنا عن العلاج بالكي وكيف يشفي كثيرا من الأمراض حسب اعتقادها، وما هي تقنياته التي يستخدمها المعالج.

وصلنا منزل أم محمد لتستقبلنا امرأة تجاوزت الستين من عمرها موفورة الصحة تعيش في بيتها بعيدا عن التقنيات المنزلية الحديثة وهي تخدم نفسها في كل شي فلم تستعن بخادمة ولا ترغب بالاستعانة بها، لذا كانت طريقة حياتها وهي تجلس في باحة البيت المفتوحة لتوقد نار الميسم في عز حر الظهيرة محط اهتمامنا، فبينما كنا نلوذ بالظلال من قسوة الشمس كانت تتنقل بخفة ونشاط لتكمل عملها وتقدم لنا الضيافة المحلية من القهوة والرطب و«الهمبة» مرحبة بالقول وبالابتسامة، فكيف تقضي تلك المرأة الطيبة يومها؟ وكيف استغنت عن كل ما نبحث عنه في بيوتنا الحديثة لتعيش حياة ملؤها الصحة والسلامة؟

حين شاهدت أم محمد مصور الصحيفة ابتعدت عن عيون الكاميرا لكي لا توضع صورتها في الجريدة ويراها الناس، لكنها لم تمانع أن تتحدث معنا لتخبرنا أنها أم لولد وبنت متزوجين ويعيشان غير بعيد عنها، وهي سعيدة في بيتها ترعى معزاتها وتطبخ لنفسها.

حيث تقول: «أنا لا أداني البشكارة ولا أرغب بوجودها في بيتي لأني أستطيع الاعتماد على نفسي وتوفير ما أحتاجه، فأنا أطبخ أحيانا على الغاز وأحيانا على الحطب مع أني أفضل الحطب، وأغسل ملابسي وأنظف بيتي بنفسي، وأفضل الجلوس في العريش فالمكيفات تأتي بالأمراض وعندي حجرة فيها مكيف لا أشغله إلا وقت النوم لكن الحجرة الشمالية مكسورة ولم أعد أستطيع الدخول إليها، ووقتي في البيت أقضيه في العريش حيث يأتي الهواء الطبيعي من كل مكان».

وهل يزورك أبناؤك؟

نعم، كل يوم وأنا أذهب إليهم دائما لكني تعودت العيش في بيتي، ولا أستطيع تركه، وعندي مسؤوليات أقضيها كل يوم ولي حلال أرعاه فقد كان عندي بقر لكني بعته وبقي الماعز فقط لذا علي أن أرعاه وأشتري له الطعام، إضافة إلى علاج الناس بالوسم.

وهل هناك أشياء تقومين بها خارج البيت؟

نعم، أنا أذهب إلى دورة تحفيظ القرآن الكريم حيث تقوم بعض الجارات بتوصيلي إلى مكان الدورة واستفدت منها كثيرا، إضافة إلى زيارة الأهل والأقرباء.

بعيداً قليلاً عن يوميات الوالدة أم محمد دخلنا إلى عالم المهنة التي تزاولها منذ زمن طويل وهي مهنة الوسم بالنار أو ما يعرف بالكي؛ تلك المهنة التي تعتبر من العلاجات القديمة وترى فيها أم محمد أنها تعالج الأوجاع وتقضي عليها وتعتمد على تسخين حديدة بالنار ووضعها على مكان الألم، حيث كان الناس في الماضي لا يعرفون الأطباء وإنما يتعالجون بالأعشاب وبالوسم.

وبين يديها نجد الميسم أو أداة الوسم وهي عبارة عن حديدة توضع على النار حتى تصبح حمراء اللون من الحرارة ثم توضع على المكان المصاب في جسم المريض وهي عدة أنواع منها المطرق، وترى الصريدي أن هذا العلاج ينفع في كثير من الأمراض منها (أبو صفار) و (أبوجنيب)، و(عرق النسا) وورم الطحال وآلام الكبد وأوجاع الفقرات والرأس، وبعض أمراض الأطفال.

منذ متى بدأت العلاج بالوسم؟

أعالج بالوسم منذ أكثر من ثلاثين عاما وقد ورثت تلك المهنة من والدتي التي كانت تعالج الناس بالوسم كذلك، وهو علاج قديم معروف يعالج الأوجاع ويقضي عليها ويعتمد على تسخين حديدة بالنار ووضعها على مكان الألم، وكان الناس في الماضي لا يعرفون الاطباء وإنما يتعالجون بالأعشاب وبالوسم.

كيف تتم عملية الوسم؟

لا بد في البداية من تحديد مكان الألم ونوع المرض الذي يعاني منه المرض فقد لا يكون بحاجة للكي، وإذا كان مرضه يستدعي الكي أقوم بإشعال «الضو» النار وأبدأ بوضع الميسم عليه.

ما هو الميسم؟

حديدة توضع على النار حتى تصبح حمراء اللون من الحرارة ثم توضع على المكان المصاب في جسم المريض وهي عدة أنواع منها المطرق وهو حديدة طويلة محنية الرأس، والركزة وهي كذلك قضيب من الحديد شكله على شكل مسمار والحلقة التي تكون حديدة دائرية تستخدم في بعض الحالات والابراء وهو الابرة أو الدبوس في حالات الوسم الدقيقة التي لا تحتاج ميسم كبير.

هل توجد طرق مختلفة للوسم؟

نعم هناك المخباط الذي يوضع فيه الميسم بشكل سريع على مكان الوجع ويأخذ الكي فيها شكلا طوليا، وبكرة وقعود وهو الوسم الذي يستخدم المخباط مرتين على مكان الألم فيكون على شكل (+)، والنوع الثالث هو اللكزة أو الرزة وهو الذي تستخدم به حديدة مستقيمة مرة واحدة على مكان الألم وتكون على شكل نقطة على الجسم.

ما هي الأمراض التي تعالج بالوسم؟

كثير من الأمراض منها (أبو صفار) و(أبوجنيب) الذي يسبب ألما في الصدر وكحة، و(عرق النسا) وورم الطحال وآلام الكبد ( العرق الكبود) وأوجاع الفقرات والرأس، وبعض أمراض الأطفال.

هل تتعالجين بالوسم؟

نعم وأنا أعالج نفسي بالأعشاب وبالكي، فإذا صار عندي ألم برجلي أضع الميسم على النار وأكوي مكان الألم فهذا علاج ولابد أن نتحمله.

لكنه علاج مؤلم؟

انه علاج قديم عرفه أهلنا ومن سبقوهم وفيه شفاء بإذن الله لذا يتحمل الانسان الألم قليلا لكي يتخلص من الألم الدائم.

شيء من التاريخ

بالعودة إلى كتب الأطباء القدماء نجد أنهم قد تعرضوا للعلاج بالكي ودونوا الكثير من الأمراض التي قد يفلح فيها هذا النوع من العلاج ومن هذه الأمراض عرق النسا حيث يذكر الرازي في الحاوي في الطب أن صاحب وجع النسا الذي يعرض من أجل كثرة الرطوبة البلغمية في الورك وتنخلع فخذه ثم تعود إلى موضعها فتضمر وتنتقص فخذه إن لم يبادر إلى تجفيف تلك الرطوبة بالكي.

ويجب أن يكوي مفصل الورك كيما تنفذ تلك الرطوبات البلغمية وتشتد بالكي رخاوة الجلد في الموضع الذي يقبل منه المفصل تلك الرطوبة وتمنعه النقلة عن موضعه فإن مفصل الورك إذا لبث مدة منخلعا من كثرة الرطوبة ودام ذلك حدثت من قبل ذلك عرجة لا محالة ويتبع ذلك ضرورة إلا تغتدي الرجل على ما يجب فتضمر لذلك وتنقص كما يعرض لسائر الأشياء التي تعدم حركاتها الطبيعية.

وفي موضع آخر يقول وجع الورك يكون من «فساد» الصفراء ويكون من كثرة القيام في الشمس فتجف لذلك رطوبة الورك. وينفع من وجع الورك قطع العرقين اللذين عند خنصرالقدم والحقن والحمام والأضمدة الملينة أولا ثم المحللة ، قال: فإن لم ينفع ذلك كوي على العصب الذي في الظهر إلى جانب الكلية وعلى الفخذين أربع كيات وعلى الركبتين أربع كيات وعلى كل ساق بالطول موضعين وأربع كيات عند الكعب وأربع على أصابع الرجلين.

ومن العلاجات علاج أمراض الطحال: حيث يذكر كتاب الحاوي في الطب للرازي أن أجود أدوية الطحال الكي على العرق الذي في باطن الذراع الأيسر. ومنها علاج المفاصل: حيث يقول الرازي من كان وجعه باردا فليكوي مفاصله فإن الكي أعمل في يبس المفاصل. والمفصل الذي يكون كل ساعة ينخلع ويرتد بأدنى سعي ثم ينخلع ثم يرتد كمفصل الورك والكتف يكون علاجه بالكي لا غير.

علاج القولنج :إن عرض قولنج بعد تناول وهو أن ينعقد الطعام في بعض الأمعاء فلا ينزل ويصعد بسببه البخار إلى الدماغ فيؤدي إلى الهلاك ويقال فيه قولون وينفعه أمور منها التين والزبيب ويستعمل أيضاً الكي أسفل السرة.

حكم الدين

د. أحمد الحداد: العلاج بالكي ارتكاب لأخف الضررين

رغبة في استكمال جميع جوانب الموضوع كان لا بد من الاستماع إلى الحكم الشرعي في العلاج بالكي وما هو رأي الإسلام في اللجوء إلى العلاج بالكي وما مدى شرعية مثل هذه الممارسات حيث إنه بلا شك فإن للتشريع الإسلامي موقف واضح من العلاج بالكي، وهو ما بينه الشيخ الدكتور أحمد عبد العزيز الحداد مدير إدارة بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي قائلا : «لا يمنع الدين من العلاج بالكي إذا كان فيه شفاء للمريض فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشفاء في ثلاثة : شربة عسل، وشرطة محجم ، وكية نار ، وما أحب أن أكتوي) وفي لفظ آخر : (وأنهى أمتي عن الكي).

والكي يكون آخر الحلول في العلاج فلا يلجأ إليه الانسان إلا بعد أتعييه الطرق، وإذا تعين العلاج به فهو يدخل في باب ارتكاب أخف الضررين لإزالة أكبرهما، فالكي ألم ومرض يجوز الاستعانه به للتخلص من مرض أكبر وأخطر، والانسان طبيب نفسه، فإذا أيقن أن الكي يسهم في شفائه يجوز له الاستعانة بالرجل الكبير الذي يمتلك الخبرة وأصبح ماهرا في وضع الكية، فما تقدم الطب إلا بفعل التجارب، وعلى الجهات المعنية أن تطور الطب القديم وتجعله نافعا أكثر.

رأي الطب

الدكتور ضياء مهدي: الكي عقوبة وليس علاجاً

وعلى الضفة الأخرى من أطراف الموضوع كان للأطباء رأي مخالف تماماً حيث إنهم يرون أن علاج قديم لا يقوم على أي أسس علمية إضافة إلى كونه قد يسبب صدمة دماغية أو حروقاً موضعية يصعب الشفاء منها بسهولة.

هذا هو ما لخصه لنا الدكتور ضياء مهدي اختصاصي الأمراض الجلدية والتناسلية الذي قال: «إن الكي عقوبة وليس علاجا فقد يسبب عاهة عند المريض بدلا من شفائه خاصة أن مثل هذا النوع من العلاج لا يقوم على أسس علمية ولا يستخدم فيه التخدير لذا قد يسبب صدمة للدماغ تؤدي إلى أمراض أخرى ومشاكل خاصة عند الأطفال، والحروق الناتجة عن الكي تسبب تشوهات دائمة بالجلد وقد تلتهب وتتقيح في حال عدم علاجها وتركها بدون تعقيم».

وأكد الدكتور مهدي أنه ربما كان العلاج بالكي موجود قديما لعدم وجود بدائل له، لكن الطب الحديث المتطور أصبح متاحا للجميع ويعتمد على تشخيص الأمراض بالوسائل الحديثة فحتى الكي الطبي يستخدم وفق ضوابط خاصة ومن دون أن يترك أثرا.

ويوجه الدكتور مهدي نصيحة إلى كل من يقتنع بمثل هذا العلاج بالحذر منه ويقول: أنصح بعدم اللجوء إلى العلاج بالكي والابتعاد عنه وتجنب مخاطره التي قد تزيد حالة المريض سوءا

دلال جويد

Email