الديك الأبيض

الديك الأبيض

ت + ت - الحجم الطبيعي

قصة قديمة ألحت على الذاكرة تريد الخروج من قمقمها والبروز، حاولت عدة مرات كبح نفسي، ولكن ألحت عليّ متسائلة.. لِم أبقَ هي في الذاكرة وغيري يخرج لحيز الوجود؟ وأخيرا انتصرت الحكاية لتقول: ذات مرة ذهبت مع سعيد وفاطمة أبنائي إلى بائع الطيور، لم أكن أقصد شراء طير ما، ولكن لكي يتفرج الأطفال على أنواع الحيوانات المعروضة في المحل.

بعد أن أتممنا الجولة وهممت بالخروج من المحل وقع نظر الأطفال على مجموعة من الكتاكيت الصغيرة الملونة، أثارت ألوانها فضول الأطفال، فرغبوا بالشراء، قلت لهم هذه عرضة بان تموت في أي لحظة، وهذه الطيور تحتاج لعناية خاصة، وتحتاج للتغذية المستمرة، والنظافة اليومية لكي تكبر، هل أنتم مستعدون؟ فأجابوا: خذها يا أبي سنقوم برعايتها مع إخواننا.

اشتريت أربعة من الصيصان بألوان مختلفة، والذي شجعني على شرائها سعرها الذي لم يتعد العشرة دراهم للأربعة .

لكم أن تتصوروا مدى فرحة الأطفال بهذه الكتاكيت. انصب كل اهتمامهم عليها أحضروا لها صندوقا كبير الحجم من (البلاستيك) وفرشوه بورق الجرائد ووضعوها فيه ووضعوا بجوارها كوبا به ماء وفتاتا من الخبز وحبوبا صغيرة كنا اشتريناها من بائع الطيور .

مر أقل من أسبوع على شراء الصيصان ثم بدأت على احدها بوادر المرض فنفق .

توقعت أن يحزن الأطفال عليه، ولكن لم يكن ذلك في بالهم فقد كانوا في سن لا يدركون بعد معنى الموت بالإضافة أن المتبقين ثلاثة عوضوهم عن فقده.

كان سعيد قد تعدى العام الثاني من عمره فوجئت به مرة يحمل أحد الكتاكيت من جناحيه ويرفعه للأعلى ويقذفه في الهواء فيسقط المسكين على أرض الغرفة الصلبة جثة هامدة، حاولت تدارك الموقف، ولكنه كان أسرع وكان بعيدا عن متناول يدي، كان يتصور أن الكتكوت سيطير مثل بقية الطيور!!

بعد حادثة موت الكتكوت بيوم كنت عائدا من عمل يوم طويل ومرهق جلست لتناول الطعام مع الأولاد، وإذا بسعيد يحمل الطائر الكتكوت الثالث ويتجه نحو المكان الذي جلسنا فيه أشرت له بأن يتركه فقال: سوف ألعب به قليلا.

قلت: إياك أن تفعل به مثل ما فعلت بأخيه فهذا النوع لا يمكنه الطيران .

قال: لا لن أطيره عرفت لا يمكنه الطيران .

بدأنا بتناول الطعام، وبقربنا مخدة كبيرة توضع للزينة، في غفلة منا وضع سعيد الكتكوت على الأرض، فظننت أنه سيأتي لتناول الطعام ولم ألتفت إليه، وبعد فوات الأوان رأيت منظرا مؤلما ومفجعا، لقد وضعه على الأرض ورفع تلك (المخدة) الكبيرة للأعلى وهوى بها على ذلك الكتكوت المسكين، وعندما رفعها كان ذلك الطائر هو والأرض سواء !!

حاولت جاهدا إنعاشه لكنه كان قد اسلم الروح. نهرت ابني سعيد، وعنفته على فعلته تلك وأخبرته أن هذه مخلوقات لها روح وليست ألعابا كما كان يعتقد قال ببراءة: كنت العب معها.

بعد هذه الحادثة وضعت الصندوق في مكان عال لا يستطيع سعيد الوصول إليه، لكي أحافظ على الكتكوت المتبقي وقد كان من نصيب أخته فاطمة .

وكانت فاطمة هادئة محبة للحيوانات تحافظ على أي شيء تملكه، ولذلك استطاعت أن تحافظ على هذا الكتكوت وتوليه جل اهتمامها وتبعد عنه أخيها الصغير سعيد .

بدأ الكتكوت يكبر ويتحرك داخل البيت يأتي ويأكل بواقي الطعام بجوارنا، كان بعكس جميع أنواع الدجاج، لا يخاف، ينام في ذلك الصندوق البلاستيكي، ومنذ الصباح الباكر يخرج منه، ويتجول في صالة البيت، يخرج قليلاً للخارج ثم لا يلبث أن يعود مرة أخرى لداخل البيت .

استمر الحال فترة من الزمن كبر فيها، وكان لابد من إخراجه ووضعه في حظيرة خاصة فقد أصبح ديكا كبيرا أبيض اللون .

لكنه لم يستطع التأقلم مع الجو الخارجي، كان معظم وقته واقفا ينتظر عند باب الحظيرة، ومجرد فتح الباب ينطلق خارجا منه بكل قوة ومتجها لباب المنزل الداخلي محاولاً الدخول.

كنا نجبره على البقاء ليلاً في الحظيرة، وكنا نترك الباب مفتوحاً، كان يبقى فترة وجيزة ويغادر الحظيرة ليتمركز عند مدخل البيت محاولاً الدخول ويبقى كذلك طيلة الليل.

في الصباح الباكر يقوم بجولة كاملة على البيت من الخارج، يقف بجوار كل غرفة حوالي الخمس دقائق، يصيح فيها بصوت قوي عدة صيحات ثم ينتقل بجوار الغرفة الثانية وهكذا، يبدأ الصياح من أذان الفجر حتى شروق الشمس كل يوم، وكأنه يقول لأهل البيت قوموا لصلاة الفجر. لم يتخل عن هذه الجولة الصباحية أبداً .

تعود الديك على البيت، وتعود على البنت فاطمة فإذا دعته يأتي إليها مسرعاً، تحمله وتجري به وتلعب معه من دون أن يؤذيها، وكثيرا ما كانت تنهره إذا قام بعمل يخالف ما تريد، عندها يأتي إليها صاغراً ذليلاً وكانه يعتذر !!

لكنها دربته على الحراسة، وبدا أشجع من كلب الحراسة فقد كانت تلقي له بأي فردة نعال - أجلكم الله - فيجري خلفها ويقوم بقتالها بمنقاره الحاد ومخالبه القوية محاربة ضروس!

لم يجرؤ أي قط على دخول البيت فقد كان له بالمرصاد.

تطورت الأمور وبدأ يهاجم أي شخص غريب يدخل البيت، وقد قاسى منه المزارع الذي يعمل بالبيت، ويأتي ثلاثة أيام في الأسبوع، وبمجرد أن يراه الديك يقوم بالجري خلفه محاولا الهجوم عليه ولا ينقذه من هذا الهجوم إلا فاطمة، تزجره وأحياناً تضربه بخفة .

حتى أنا لم اسلم منه، كنت يوما ألبس البدلة الرياضية، وبمجرد خروجي من الباب شاهدني الديك ، الذي اعتاد أن يراني باللباس العربي، أما الآن فأنا غريب في نظره، حاولت التقدم لركوب سيارتي، لكنه حاصرني بين جدارين، كلما حاولت الإفلات منه تقدم نحوي طائراً، شاهرا مخالبه الحادة في وجهي، وأنا أتقهقر للخلف، وهو يتقدم نحوي، حاولت عبثاً الهرب من وجهه لكنه لي بالمرصاد. في تلك اللحظة تذكرت فاطمة ابنتي قلت يا ليتها الآن معي لتنقذني من هذا الموقف، لكنها لم تكن في البيت، بل لم يكن أي من أفراد الأسرة معي.

عندها هداني تفكيري ل(النعال) وبالفعل تناولت الأقرب إلي وقذفته بعيداً والديك يشاهدني، فانطلق خلف النعال كما كان يفعل مع فاطمة. فوجدتها الفرصة السانحة فركضت إلي سيارتي. حامدا الله على السلامة.

هذا الديك هاجم مرة المزارع وأصابه ببعض الجروح، لكن المزارع لم يتركه فركله ركلة قوية أثرت عليه، امتنع بعدها عن الطعام، وتثاقل في المشي، يأتي إلى مكانه المعهود أمام البيت، يجلس تحت الشجرة أمام المدخل، لا يتحرك كثيرا ولا يصيح كما عهدناه إطلاقاً.

وعصر ذات يوم بدأ كالنائم، وفاطمة تحوم حوله تكلمه ترمي له النعال تحثه على الحراك، لكن هيهات... أن يتحرك الريش الناصع البياض. تجري نحوي قائلة: أبي.. أبي ديكي الأبيض لا يتحرك مثل كل يوم. كانت الدموع تسيل من عينيها، حضنتها ومسحت على رأسها وقلت: نعم ابنتي سوف يرحل، فهذه حال الدنيا، كل شيء يغادر، كلنا مغادرون، تماما كما غادر الديك الأبيض.

(بو سعيد) محمد غانم المهيري - دبي

Email