مُدن الماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

للمدائن التي تتخللها القنوات المائية، حكاياتٌ وقصصٌ بازغة أزهرت من بين ضفافها أشعار تشبه الفجر، كما صاغت سطورًا خالدة وهي تشق بحروفها بين القوارب والأزقة في تلك الإطلالات المائية الساحرة، ورغم أن مدن القنوات في أغلبها قد شُقت لتصمم لأهداف تجارية وصناعية كبرى لا رومانسية أو جمالية كما يعتقد البعض، لكنها ورغم ذلك انبثقت ساحرة في طلوعها لتخدم حتى الأهداف الثقافية والفنية.

وهنا قرب مبنى مؤسسة البيان للصحافة والنشر، كان من حظنا أن يسيل الماء أمامنا بعد أن شُقت قناة دبي المائية لتمر بجوار نوافذنا جارية بأبعادها والتواءاتها في قلب المدينة لنكتشف معالم جديدة لم نتصورها، وكأننا لم نكن هنا يومًا، لتتسع تلك الحكايات بخفاء ضمن تعرجات القناة من الساحل وتمضي بماء خلجاننا إلى الصحراء تجوالاً... وبلا شك إنه عمل ضخم وسيرد على الإمارة المردود المستحق، لكن يقينًا إن الماء سيأخذ طريقه لأهداف ثقافية ملهمة.

كل المدن التي تعبرها القنوات المائية هي لؤلؤة الجغرافيات وعاطفة تتوالد مع الزمن لأغلب سكانها الذين يمتهنون التجارة، لنلاحظ أنها تأخذ مع الوقت حسًا ثقافيًا، وإلا فكيف ازدهرت مدينة الماء دبي إن عدنا إلى الوراء وبالتحديد في عشرينيات القرن العشرين حين كان الخور ميناءً ثانويًا غير قادر على دعم النقل للمراكب الشراعية القادمة من شرق أفريقيا والهند، ليظل حلم توسعته مستمرًا حتى عام 1955 حين قررت حكومة دبي إنشاء رصيف مناسب لتحميل وتفريغ البضائع على الخور.

فكان لها ذلك النصر حين عبرت عام 1961 سبع سفن دفعة واحدة وفي جميع الأوقات وبمئات الأطنان، فما أن توفرت مراسي الشحن أخذت تزداد مع الوقت لتهيمن دبي على التجارة في المنطقة، ويصبح الخور هو صانع دبي وفيما بعد صانعاً لمحمية طبيعية وحياة برية وثقافية.. ليستمر الجرف إلى يومنا هذا، ويتمدد الخور وتشق القنوات ومسارات الماء، وتكتمل مسيرة المساحات العاشقة لجذب الأقلام الملهمة.

فلننظر إلى مدن القنوات المائية، كم هي قليلة في هذا العالم ولكنها باقية رغم مرور قرون طوال عليها، لتُضم بعضها إلى مواقع التراث العالمي «اليونسكو»، كتلك المدينة الجميلة «آنسي» الفرنسية والتي تعود إلى العصور الوسطى بقنواتها المائية التي خلقت من أجواءها شعراء كبار، وكذلك مدينة الماء الإيطالية «فينيسيا» البندقية الجميلة والتجارية بطرقاتها المائية، والنتيجة أنها بمرور الزمن امتلأت بالمتاحف والمكتبات، وغير ذلك من مدن الماء كأمستردام وسان بطرسبرج وستوكهولم وسوتشو، وبرمنجهام... خرج منها مؤلفون كبار بسبب إحاطتهم بتلك القنوات المائية الخلاقة.

قطعًا تزدهر المدن بازدهار مياهها، فتعامل الإنسان مع الماء تعامل معيشي، كما كان مع خور دبي الذي شق في خمسينيات القرن الفائت، ليبتكر معه تعاملاً ثقافياً مختلفاً وميراثاً فكرياً جديداً أمام هذا اللسان المائي الطبيعي والرابط الأجمل بين أهل ديرة وبر دبي، وخلق تفاصيل شخصية بهيئة المياه المتموجة في جَزرها ومَدها، والتي اخترقته بشجاعة إما إبحارًا أو أدبًا.

Email