مادة بلغة التلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستقبل مدارسنا بعد أيام أطفالنا، بلغتهم العربية الضعيفة، ليطول أسباب وشرح انحدار لغتهم الأم من على ألسنتهم وفي أوطانهم العربية، ولا شك أن الحكومات تكرس حضور اللغة وتنميتها بكل جهودها، لأجد أنني أتذكر اللغوي «ابن مالك» المنسي، هذا الذي هيأ لنا ولأطفالنا ومنذ قرون بعيدة، طريقة سهلة نتعلم فيها اللغة من خلال ألفيته، وهي أرجوزة لطيفة طويلة بلغت قرابة الألف بيت شعري، يلخص فيها قواعد النحو والصرف ويبسطها.


كانت ألفية ابن مالك منهجًا رئيسيًا في كل المدارس العربية القديمة، في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق ومصر والمدن الحاضرة في شمال أفريقيا منذ القرن الثاني عشر الميلادي إلى الاحتلال الفرنسي والإنجليزي في القرن العشرين، الذين قاموا بإلغاء الألفية من التعليم، لعلمهم أن قوة اللغة هي سبب ارتباط الإنسان بوجدانه، وأنها هوية وطنية، وثقافة، وإدراك وشغف...

كان التلاميذ يرتلونها كأنشودة ذهابًا وإيابًا من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت، بلحن فاتن سهل عزفه. يبدؤون بحفظها عن ظهر قلب. يحرصون عليها وهم صغار، وينهونها في عمر مبكر وهم بين العاشرة والرابعة عشرة، لتصبح اللغة على ألسنتهم بلا شائبة وهم يتحدثون بها طوال حياتهم، وفي أغلب بقاعنا العربية منذ زمن الدولة العباسية إلى نهايات الدولة العثمانية.


من خلال تتبعي لسيرة هذا النابغة محمد بن عبد الله ابن مالك الطائي الجياني، وأسباب عشقه اللغوي المتوارث، وجدته ملهمًا حتى في انتقاله، فقد وُلد قبل حوالي ثمانمائة عام في بلدته الفاتنة «جيان» المطلة على تلٍ جبليٍ أخضر مترف، استنشق هناك رحيق لغته العربية، في هذه المدينة الأندلسية الإسبانية التي تدعى الآن «خاين».

وما زال أهلها الإسبان ينطقون اسمها بحب وهم يخففون الخاء ليبدو وكأنه هاء، وهؤلاء معظمهم طائيو الأصل والنسب، أي من مدينة حائل الواقعة بين تلال من جبال تنبض بقصص العشق واللغة، قد اعتنقوا الإسلام وهاجروا مع التوسع الديني من حائل وتلالها إلى جيان الأندلسية وتلها، أي في بقعة تشبه بقعتهم.

ليستمروا في إنجاب اللغويين وعشاق اللغة هناك، ويأتي العبقري ابن مالك واحداً من أحفادهم، الذي شهد حضور القلق السياسي، مُبصرًا حينها نهايات التاريخ الأندلسي وهو في أول شبابه، فما لبث أن رحل ليهجر الأندلس بعد أن تشرّبَ اللغة من علمائها اللغويين، ويستقر في الشام وبالتحديد بين تلال حلب الشهيرة، ويكتب ألفيته هناك لتبدو لي أنه ربما للتلال جاذبية لغوية أدبية.


وأخيرًا أعود من حيث بدأت، ومقابل نداء كل المؤسسات الحكومية في فرض قوانين تحافظ على اللغة. يكفينا إدخال مادة الألفية الآتية من التلال العاشقة، نتهجى بها لغتنا، ينشدها أبناؤنا من جديد لتبديد كل الجهود التي نسرفها من أجل المحافظة على لغتنا وبلا فائدة تُذكر، فاللغات الأخرى أخذت تسيطر على ألسنة جيل جديد قادم.
 

Email