القرن الذهبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تأملتُ فكرة القرن الذهبي حين زرت مملكة هولندا قبل سنوات، بعد أن شاهدت معظم أعمال فناني تلك الأراضي المنخفضة وعلمائها وملاحيها الذين ينتمون إلى قرن ذهبي كما كانوا يقولون، يُعبرون عن فخر إبداعهم وانتاجهم من لوحات خالدة وخرائط عالية الدقة وآلات متقدمة، مقابل توسعهم التجاري العالمي بعد إخفاق البرتغال في كشوفاتها الجغرافية.

لاحظت كيف يحتفي الهولنديون من كل قلبهم، ويتذكرون على الدوام ذلك القرن وهو السابع عشر الميلادي الذي أخرج لهم رامبرانت وفيرمير وهانز وميتسو والكثير مِن مَمن تزخر متاحف امستردام بأسمائهم وأعمالهم، حتى بقيت هولندا كبيرة بهم رغم صغر مساحتها منذ ذلك القرن الذهبي. ولكل دولة زمن تفخر به.

فإن عدنا بتاريخ فرنسا إلى الوراء نجد أن لها نصيبا من قرن ذهبي قد مضى عليها وهو القرن السابع عشر الميلادي، ولا أعني في توسعها الاستعماري، بل في مساهمة مفكريها ومبدعيها في إنتاجها الثقافي والفلسفي والأدبي والذي لم يغب، لتصبح في أوج تنويرها.

فقد بدأت في ذلك القرن بنشر جريدتها الرسمية «كازيت دو فرانس» انتشارها كان حافزًا لولادات صحف فرنسية عظيمة فيما بعد. كما ولد في هذا القرن الكسندر دوما الأب برواياته الخالدة، ولافونتين بأعماله الخرافية العميقة، وموليير الذي أسس لفرنسا والعالم مسرحًا بكوميديا راقية، وديكارت الفيلسوف الذي جعل العالم يشك بكل شيء، ليصبح لفرنسا قرن ذهبي.

لكل دولة قرنٌ ذهبي تتباهى به، لتفوقها في حصيلة نافعة من علوم وآداب وجمال أكثر من أي قرن مضى أو أتى.والشاهد أن تلك القرون الذهبية في أي مكان لا تخلو من حروب المنافسة بنتائجها المنتكسة والتي لا تنتهي.

فنحن على يقين أن لا وجود لزمن خال من الشجن والأسى، لكننا وبلا شك ندرك أن البقاء لرونق ما يقدمه الإنسان للإنسان، فالاشتغال على التنوير والازدهار والابتكار لا ينتظر الظروف المناسبة.

تمضي السنين مهرولة حتى يكتمل قرنها، نراقب خلال هذا الزمن الأنفاس التي انطلقت جرياً، وكأنها لم تكن، مقابل بعض الأرواح المتأنية لتضع بصمتها، أليست القلة المتأملة هي من تترك أثرًا إنسانيًا فريدًا، للتأثير على من يأتي بعدهم، هؤلاء هم المؤسسون للحب وخير الإنسانية، تماماً كالحضارات القديمة.

والتي لم يكن لها قرن ذهبي واحد بفضل مبدعيها بل قرون من ذهب.وأخيراً ماذا عن قرننا الواحد والعشرين الذي نعيشه وما زلنا في بدايته، لم يمض رُبعه بعد، فليكن عطاءً مبتكراً، فاتناً، ساحراً وجارياً، في أعمالٍ تتجلى للإنسان من خلال نصوصٍ ومقاماتٍ وتشييدٍ وألوان؟!.

Email