منفى الكاتب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحدث أن يهاجر كاتب لأنه يجلس خلف نافذة تطل على جدار إسمنتي كئيب، اذ هو غير قادر على تغيير هذه النافذة إلا بنافذة في أقصى الأرض كان قد اختارها لإطلالتها على مسافة بلا مدى، وإذ أبعد ما تراه العين يمنحه التنفس في النص.. هذا النص الذي خرج من وعي نتج من تغيير المكان، حيث أصبح الجدار الصلب ربوة أو هضبة، أو فراغا.. بعيدا لا الجغرافيا الضيقة التي تحاصره.

ولا غرابة. إذ منذ العصور الوسطى إلى القرن الفائت مازال الأدباء يهاجرون إلى المنافي البعيدة كلٌّ حسب ظرفه ومتغيرات محيطه، ورغم ذلك لم يستطع أحدٌ أن يتهم هذا الأديب المهاجر أو ذاك بالخيانة لمجرد مغادرته وطنه، فلا مقاييس جامدة لمفهوم الوطن، فهو ذاكرة عزيزة لدى البعض، هذه الذاكرة قد تتحول إلى ذاكرة غامضة أو متناقضة بمجرد ابتعاده عن بلاده، ومن الممكن كما يظن البعض أن يفقد ثقة القارئ به، بدعوى أن كتاباته فقدت حرارة صدقيتها.

لقد هاجر دانتي الليجيري وجوزيف كونراد وغونتر غراس وماريو فارغاس يوسا وأمين معلوف.. إلى بلدان ومدن مختلفة، لكنهم لم يُتهموا بخيانة أوطانهم بل انهم أكدوا ولاءهم من خلال ما كتبوا من نصوص في أماكن إقامتهم ومنافيهم، نصوص وأعمال عظيمة لا تتكرر.. لأنه لم يعد للمكان أهمية بقدر طبيعة العمل الإبداعي وقيمة العمل.. فالكاتب الحقيقي لا يقيم في واقعه البصري، وطنه في داخله حيث يتشكل النص المقيم في خياله، وبدوره يحوله إلى واقع الحدث إبداعًا.. لذا من الظلم أن ننتقد الأديب المهاجر لتركه وطنه ونتهمه بالخيانة، خصوصا أن مفهوم الوطن بالنسبة للأديب مطلق ذو أبعاد سامية وراقية.

وهنا لا أعني المنفى الذي تكون أسبابه سياسية ربما أو قمعية أو اقتصادية كما في بلدان معينة، بل ما أعنيه هنا هو المنفى الاختياري للأديب منحازًا لفكره المختلف في أن يتخفف من كل الارتباطات الاجتماعية التي ترهقه، وإزاحة الرسميات المؤسساتية من على كاهله، تلك الرسميات التي تُختَصر غالبا بما يلاقيه من احترام القائمين على المنابر الثقافية له..

لكن ولأنه كاتب حقيقي فإن ما يشغله هو البحث عن العزلة والمكان المناسب للكتابة، فكل تلك التفاعلات تقتل إبداعه، يريد أن يتحرر ويتخلص من استقراره الذي يبدو كقيد قاس في مسميات رقيقة، يريد الجري بقلمه نحو مصادر الإبداع حيثما يودي به خياله لا مكانه، فلا يقيم الكاتب إلا فيما يكتبه.. وإلا لما كتب غابرييل غارثيا ماركيز روايته الخالدة «مائة عام من العزلة» في المنفى.. ما يضعنا أمام سؤال ملخصه: أين الخيانة الآن ووطنه يرد له الجميل في طبع صوره على العملة الوطنية للبلاد، ويفخر به إلى الحد الذي لا يعرف كيف يحتفي به.

 

Email