كيف تشكلت إبداعاتنا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يذكر في أدب السجون عن آثار كلمات كتبت على أوراق المحارم ونُحتت على الجدران بصرير أظفار الأسرى والمعتقلين الذين تم حرمانهم من القلم والورق كعقوبة لهم، ومازالت بعض الكهوف تحمل رسومات لإنسان العصور القديمة التي منها تشكل الفن البدائي، آثار الإنسان التي كتبت بخط يديه تلك بقيت لتظل شاهداً على أن الحاجة للتعبير هي أقوى علاج متنفس لاختناق الأفكار والكلمات في عقولنا وصدورنا، فأي راحة وسكينة تبعثها لتجعل الإنسان مستعداً لتحمل آلام كشط أظافره على الجدران والنحت على الصخور من أجل أفكار رغبَ أن تظل خالدة؟

تشبعنا الحياة شغفاً ودهشة حين تظل الصور والأماكن والمشاعر واللقاءات وتفاصيل الصدف التي نمر عليها ترهق عقولنا فتجبرنا على إيجاد طريقة للتعبير عنها، لندرك بعد زمن بأنها لم تكن عبثاً، لتجعلنا أساليبنا حينها نرى الحياة بمنظور مختلف، حتى يصبح لتجاعيد جذع شجرة اللوز ولتباين درجات ألوان تربتها جمال مختلف في كل مرة.

إن كان تأمل الحياة يكشف لنا خبايا نفوسنا ويحث على إعمال عقولنا ويثير تساؤلاتها، فإن إيجاد وسيلة للتعبير عنها يجيب عنها، ويعد مكملاً لهذا الدور حين يحفر معنا وصولاً إلى عمق مكامن ذواتنا فيشكل مبادئنا وقناعاتنا وفلسفاتنا ليصنع منا الشخص الذي يجب أن نكون عليه، الذي نحب أن نكون عليه.

كان الكاتب أيمن العتوم يصنف الكتابة على أنها من أسمى درجات المتع الحسية، كان يراها شفاء لداء خفي يمزق جوارح الإنسان حين تنتابه الرغبة الملحة لها، كيف لا وقد تجشم الكاتب خطر المجازفة في إخراج الرسائل والقصائد والقصص القصيرة التي كان يهرب إلى كتابتها أثناء وجوده في المعتقل.

لم يكن أيمن العتوم وحده من عاش هذه المتعة وتجشم الخطر من أجلها، متعة إيجاد الوسيلة المثلى للتعبير التي لا تكون أقصى غاياتها إرضاء الناس ونيل استحسانهم بقدر ما هي خدمة للذات، فلم تحد الإعاقة الذهنية والجسدية والاتهام بالجنون الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو من التمرد في التعبير بالألوان الذي كان دواءها وأقصى متعها، كذلك هو عازف الناي في الشارع الذي إن تأملته ستجد تلك المتعة جلية في ملامح عينيه المغمضتين غير آبهٍ بالمارين وضوضاء المدينة، ولا يبعد عنه المصور الذي لا يخفى عليه ساعة اكتمال البدر واللحظة التي تشهد أبهى حلله ليبقى منتظراً لها، متعطشاً لالتقاطها.

تظل حاجة الإنسان إلى التعبير عند اختناق الأفكار والمشاعر أمراً يجمعنا، ولربما كان لكل منا حينها طريقته التي منها تشكلت إبداعاتنا، وخلدت لتظل هي الذكرى التي لا تغيب، الذكرى التي تمنح إدراكنا للتغيير الذي يحدث في أنفسنا بمجرد العودة إلى قديمها، لتعود لنا مشاعرنا التي عايشناها يوماً أياً كانت، فلا تحرم نفسك دفء السلام الذي تمنحه.

وإن كنت تعتقد بأنك لا تملك من المهارة والقدرة ما يجعلك أهلاً لما ترغب في الهروب إليه، لا تحرم نفسك متعة الخطوة الأولى، وعبّر، فلطالما دفنت إبداعات في بداية مخاضها قبل أن تكتب شهادة ميلادها الأولى رغم أنها كانت تستحق الحياة.

 

Email