اللحظة التي هددت بفناء العالم منذ 50 عاماً

ذكرى أزمة الصواريخ السوفييتية في كوبا عام 1962

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كان ذلك في ذروة درامية كانت قد بلغتها "معارك" الحرب الباردة.. وتاريخ لحظة الذروة هو بالتحديد شهر أكتوبر عام 1962، أي منذ نحو 50 عاما من عمر زماننا المعاصر.

كانت الحرب الباردة قد "اندلعت" كما هو معروف بين معسكري الشرق والغرب.. وجاء اندلاعها على صعيد الايديولوجيات السياسية- الاقتصادية بين الاتجاه - المذهب الشيوعي وعقيدته التي سبق أن نادى بها "كارل ماركس" ورفيقه "فردريك انغلز" في مقابل الاتجاه- المذهب الرأسمالي وعقيدته التي سبق إلى وضعها "آدم سميث".

ورغم ان كلا من ماركس وانغلز وسميث قد سبق إلى الرحيل منذ سنوات تنتمى إلى القرن التاسع عشر- إلا أن أفكار كل منهم ظلت حية، بل متقدة، بعد ان وجدت طريقها إلى التنفيذ على صعيد الواقع السياسى والاقتصادى.. وبمعنى ترجمة تعاليم كل منهم من سطور المطبعة إلى اجراءات ودساتير وقوانين باتت تحكم او تتحكم في حياة أمم بأكملها وشعوب.

البيان والكتاب

على صعيد "ماركس"، كانت اهم السطور مستقاة من "البيان الشيوعي" الذي أصدره مع انغلز في عام 1848.

وعلى صعيد سميث، كانت اهم السطور مستقاة من كتابه الصادر عام 1776 بعنوان "ثروة الأمم" في كل حال فقد جاء صراع الحرب الباردة في أبعاده المذهبية والسياسية والاقتصادية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 ومن ثم انقسام عالم ما بعد الحرب إلى معسكر شيوعي- ماركسي حمل أيامها وصف الاشتراكي، وتجسدت قيادته في الكرملين بزعامة جوزيف ستالين..

وكان قوام هذا المعسكر إلى جانب روسيا الستالينية هو دول شرق أوروبا، ولدرجة أن انقسمت ألمانيا ذاتها إلى ألمانيا الشرقية (حملت اسم الديموقراطية) وألمانيا الغربية (حملت اسم الاتحادية)، وكان ان شيدوا من - بعد السور الشهير الذي قسّم عاصمة الشطرين ما بين برلين الشرقية وبرلين الغربية.

وظل السور رمزا بليغا وتجسيدا حيا لصراع الشرق والغرب في خضم الحرب الباردة إلى ان سقط السور البرليني ذاته في عام 1989 وجاء سقوطه وتحطيمه إرهاصا بأن الحرب الباردة كانت توشك وقتها على ان تضع أوزارها.

العالم الحر

أما على جانب الغرب الرأسمالي، فقد كان أطراف ذلك المعسكر يفضلون ان يطلقوا على انفسهم وصف "العالم الحر" طبعا من باب النكاية السياسية، بالمنافس الشرقي.. وكان طبيعيا ان يسلم هذا العالم الحر زمام قيادته إلى أيدي الولايات المتحدة الأميركية التي خرجت من تجربة الحرب العالمية قوة لا يستهان بها، فلم تكد نيران الحرب تمس مؤسساتها أو مرافقها أو حتى تصل إلى سواحلها، على نحو ما تعرضت له دول الحلفاء الأخرى من دمار ومعاناة وخراب وخاصة انجلترا وفرنسا..

صحيح أن أميركا فقدت اهم قطع بحرية من أسطولها نتيجة الغارة اليابانية التي دمرت ذلك الاسطول الاميركى في ميناء بيرل هاربور الآسيوي الباسفيكي في شهر ديسمبر عام 1941.

لكن الأصح ان خرجت أميركا بعد الحرب وقد تمكنت من تطوير أسلحتها وترشيد منظومة البحث العلمى بين ظهرانيها لدرجة التوصل كما هو معروف- إلى صنع أول قنبلة ذرية في التاريخ.

وارسو والناتو

وعلى الصعيد العسكري لم يكّذب كلا المعسكرين خبرا، كما يقولون، بل بادر الشرق إلى إنشاء منظمة دفاعه المشترك تحت اسم "حلف وارسو" فيما كان الغرب قد بادر إلى إنشاء منظمته المضاهية، تحت اسم "حلف شمال الأطلسي" (الناتو).

كانت هذه هي صورة الأوضاع التي دخل بها العالم عقد الخمسينات من القرن العشرين، حيث لم يقصّر أي من معسكري الشرق والغرب في قطع أشواط مرموقة من حيث التنافس سواء في مجال البحث والتطوير أو في مجال الدعاية والإعلام أو في مجال محاولة اكتساب المزيد من تأييد شعوب ونظم وزعامات وقيادات ولا سيما على مستوى الشعوب والقارات خارج نطاق أوروبا وأميركا على وجه الخصوص.

إنجازات روسية

ولقد زاد من توتر المنافسة بين المعسكرين قدرة الطرف الروسي على التوصل بدوره إلى صنع وإنتاج القنبلة الذرية، مما أوصله بداهة إلى حالة من التكافؤ مع النظير- المنافس الأميركى وهو ما أشعل أوار المنافسة من جديد.

زاد من اسهم الطرف الروسي أيضا إضافة عنصر آسيوي مستجّد اقتحم مضمار السياسة العالمية طازجا وعفيا بعد نجاح الثورة الصينية التي قادها الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماوتسي تونغ وإعلانها الانحياز بالطبع إلى المعسكر الشرقي في عام 1949.

فما بالنا وقد رحل الرفيق "ستالين" بكل تشدده المذهبي وانغلاقه ضمن أسوار الدوغما النظرية الجامدة لتحل محله قيادة اكثر انفتاحا واشد رغبة في التعاطي مع قوى عدم الانحياز في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

وهى قيادة "نيكيتا خروشوف" الذي دفعته هذه النزعة من التفاعل والانفتاح والتواصل مع قوى التحرر الوطني إلى إنشاء صرح من الصداقة المتكافئة بعيدا عن أي وصاية مذهبية أو عقائدية مع حركة التحرر القومى العربي بقيادة جمال عبد الناصر في الخمسينات ومطالع الستينات فكان ان أثمر هذا التعاون مؤازرة الكرملين الروسي لمصر العربية في تشييد صرح إنمائي مشهود اسمه "سد أسوان العالى".

ثورة كوبا

وكانت تلك خطوة باهرة بحق أضيفت إلى رصيد الكرملين الروسي فيما سحبت من رصيد البيت الأبيض الأميركي عندما خططت عند منتصف الخمسينات إلى سحب عرضها لتمويل السد العالى.

زاد من أرصدة الكرملين كذلك أجواء الحدث الخطير الذي تسامع به عالم ذلك الزمان.. عندما اعلن الروس في عام 1957 انهم اطلقوا إلى الفضاء الخارجي أول قمر اصطناعي في التاريخ تحت اسم "سبوتنيك" وكانت تلك هزيمة مشهودة بالطبع لمنظومة البحث العلمي عند المنافس الأميركي.

بعدها اشتعلت جمرات الحرب الباردة عندما تسامع العالم مرة أخرى، وفي عام 1959 هذه المرة بانفجار فعل ثوري في كوبا - الجزيرة الكاريبية الواقعة على مسافة كيلو مترات من شواطئ فلوريدا فى جنوب الولايات المتحدة..

ويومها تسامع الناس بأسماء قادة تلك الثورة من شباب هذه الجزيرة الهسبانية، وكان على رأسهم فيديل كاسترو قائدها. وارنستو تشى ارا- الذى مازال اسمه وسيرته أيقونة لكل أجيال الشباب الباحثة عن التغيير في طول العالم وعرضه على السواء.

أزمة الكاريبي

ضربات كانت موجعة بحق تلقتها إدارة ايزنهاور مع أواخر عقد الخمسينات وظلت تكابدها ادارة ون كينيدى التي جاء بها الناخب الأميركي إلى البيت الرئاسي الأبيض مع فاتح الستينات من القرن العشرين.

ولم تنقض سوى بضعة اشهر أمضتها إدارة كينيدي إلا وقررت الاستخبارات المركزية ان تئد الثورة الكوبية في مهدها خوفا من انتشار عدواها إلى سائر النظم والدول الجزرية وغير الجزرية الموالية لأميركا في أصقاع البحر الكاريبي.. فما بالنا بالعدوى وهى مهددة بالتفشي إلى أرجاء قارة أميركا الجنوبية. دعك من احتمالات انتقالها يوما إلى ربوع الولايات المتحدة ذاتها.

ومن ثم فقد شكلت موقعة خليج الخنازير حرجا وانتقادا داخل أميركا وخارجها ولم تفلح سوى في تأجيج درجات التوتر بين معسكري الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي الذي عمد من خلال قيادة خروشوف إلى مدّ جسور من الدعم والمعونات والشراكة المذهبية والعقائدية بين روسيا في اقصى الشرق الأوروبي، وكوبا الثورية المشاغبة عند نصف الكرة الغربي من العالم.

صواريخ روسيا

وحين انقضى صيف عام 1962.. كان الجانب الأميركي يلعق جراحات الفشل في خليج الخنازير، لكن الفشل لم يكن ليعنى بالنسبة لدولة كبرى- مجرد الفرجة السلبية على ما يدور.. بل كانت طائرات الاستطلاع والتجسس الأميركية لا تكف عن تنفيذ عملياتها في سماوات هذه المنطقة لرصد أي تطورات تطرأ على شكل وإيقاع العلاقات المستجدة والخطيرة التي كانت قد نشأت كما ألمحنا- بين كوبا والاتحاد السوفييتى.

عند هذا المنعطف من أحداث تلك الفترة يقف المؤرخون عند أيام أكتوبر من عام 1962.. وبالتحديد عند التقرير الذي بعث به قائد طائرة التجسس الأميركية، وأفاد فيه بأنه "ضبط الجانب السوفييتى متلبسا بمحاولة تهريب صواريخ سوفييتية ذات رؤوس نووية إلى داخل كوبا وعلى بعد 90 ميلا ليس إلا من سواحل الولايات المتحدة.

حصار كوبا

ظل الرئيس الأميركي كينيدي في حال من التشاور المتواصل تحت جنح ستار السرية المطلقة مع كبار مستشاريه في البيت الأبيض. دامت مشاوراته السرية أسبوعا اعلن بعده كينيدي فرض حصار بحري على كوبا.

كانت تلك هي اللحظة الحاسمة والبالغة الخطورة التي وقف فيها كل من البيت الأبيض الأميركي والكرملين الروسى وجها لوجه.. كل منهما يحدق في عين الآخر.. ساعتها وصل العالم إلى شفا حافة الحرب.. حرب حقيقية.. ملتهبة الأوار.. ويمكن ان تشهد استخدام السلاح النووي الجاهز فى ترسانة كلا الجانبين.

كانت بحق لحظة فارقة في التاريخ الحديث. ولذلك فقد استحقت ان يتوقف عندها مؤخرا اكثر من مفكر أو محلل سياسي.. خاصة في ذكراها الخمسين التي تحل في هذه الأيام.

دراسة حديثة

يكتب البروفيسور "غراهام الليسون" أستاذ الشئون الدولية في جامعة هارفارد ليصف هذه اللحظة على الوجه التالي: هارمجدّون نووية ؛بمعنى المعركة الفاصلة والمنذرة بنهاية العالم وانتهاء الخليقة بين قوى الخير وقوى الشر، على نحو ما أشارت إليه أسفار التوراة.

وعندنا أنها كانت وقتها نذيرا بخطر دمار ماحق شامل يتهدد العالم كله.. خاصة على ضوء ما أصبحنا نعرفه الآن من معلومات كانت خافية في تلك الفترة. وهو ما يوضحه المفكر الأميركي السالف الذكر (في دراسته المنشورة في أحدث أعداد مجلة الشؤون الخارجية "فورين افيرز" عدد يوليو/أغسطس 2012) .

حين يضيف قائلا: "إلى جانب القذائف النووية السوفييتية كان الكرملين الروسي قد نشر 100 سلاح نووي تكتيكي في أراضي كوبا، وكان بوسع القائد الروسي المحلي هناك أن يأمر بإطلاق هذه الصواريخ الرهيبة على أراضي الولايات المتحدة دون انتظار أوامر تأتيه من العاصمة موسكو.

وكان بديهيا ان تتحرك بمنطق رد الفعل كل عناصر الترسانة الأميركية، خاصة في ضوء تعرّض الأراضي الأميركية لهجوم روسي مسلح، ولأول مرة في التاريخ.. وبديهي أيضا ان تستخدم في هذه المواجهة كل فعاليات الترسانة النووية الأميركية.

أبعاد الكارثة

هنا تلخص دراسة "الفورين افيرز" أبعاد الكارثة العالمية التي كانت على شفا الوقوع، حيث يقول كاتبها غراهام الليسون:

- النتائج التى كان يمكن أن تسفر عنها تلك الحرب الناجمة عن أزمة الصواريخ الكوبية، كما اصبحت تعرف سياسيا يمكن تلخيصها فيما يلى:

.. مصرع 100 مليون أميركى مصرع أكثر من 100 مليون روسي.

صحيح أن التاريخ لا يكرر نفسه كما تقول الأمثال المتواترة.. ولكن البروفيسور "الليسون" يحذر بدوره من أن التاريخ ربما يفعلها، ويكرر نفسه فى بعض الاحيان.. واخيرا يضيف قائلا:

- وقد جاء طوق الانقاذ (لمصير العالم) فى الدقيقة الاخيرة من ازمة الصواريخ الكوبية.. وفي تلك اللحظة وجدت الازمة حلها بغير اندلاع الحرب الرهيبة، وذلك عندما قَبِل الزعيم الروسي خروشوف عرضا تعهدت فيه أميركا بألا تغزو كوبا (بمعنى تتركها فى حالها) مقابل ان تقوم روسيا بسحب الصواريخ السوفييتية التى تهدد بالطبع سلامة الاراضى الأميركية..

وقد كان.." وهكذا فاتت فرصة على "مارس" رمز الحرب والقتال فى ميثولوجيا اليونان.. وكان ذلك منذ 50 عاما او نحوها من عمر هذا الزمان.

خليج الخنازير

 

واقعة "خليج الخنازير" استهدف مخططوها الاطاحة بنظام "كاسترو" المستجد فى هافانا، وربما كانوا يهدفون ايضا الى اعادة رجلهم السابق فى حكم كوبا وكان اسمه "باتستا".

وكان بديهيا ان تستخدم الاستخبارات المركزية عناصر من عملائها من اصحاب المصلحة فى اسقاط كاسترو ونظامه، وكانوا يعرفون بأنهم "الكوبيون المنفيون" الذين استطاع نحو 1500 منهم ان يهبطوا على ارض الجزيرة فى 17 ابريل عام 1961 وكان قد تم تدريبهم على "العملية" فى دولة غواتيمالا المجاورة لكى يشنوا غزوتهم التى بدأت فى منطقة "باهيادى كوتشينوس"- "خليج الخنازير" كما تسمى فى الاسبانية..

ولكنهم سرعان ما انكسرت شوكتهم وكان ان تعرضوا اما للقتل او الوقوع فى اسر القوات الشعبية الكوبية.

معركة هارمجدون «النووية»

 

لأن التاريخ يمثل مدرسة للعبر والدروس المستفادة، وخاصة لمن يستوعبون بحق دروس التاريخ: فقد توقفت دراسة نشرتها مجلة الشؤون الخارجية الأميركية "فورين افيرز" في أحدث أعدادها عند اللحظة الفارقة التي شهدها عام 1962 .

وعرفت باسم "أزمة الصواريخ السوفييتية" التي عمد الاتحاد السوييتى أيامها إلى نصبها على مسافة لا تزيد على 90 ميلا من سواحل فلوريدا، جنوبي الولايات المتحدة ما هدد بتحويل الحرب الباردة التي كانت "مشتعلة" وقتها فكريا وإعلاميا ومذهبيا بين المعسكرين الشرقي والغربي، إلى صراع دموي ملتهب ومدمر، أو كما تقول الدراسة التي وضعها أستاذ من جامعة هارفارد إلى "هارمجّدون" نووية، بمعنى معركة الفناء والإفناء التي ترمز إلى نهاية العالم، على نحو ما ألمحت إليه أسفار التوراة.

والحاصل أن على العالم أن يتأمل الدروس المستفادة من عبرة أحداث تلك الفترة في ذكراها الخمسين لكى يدرك كيف وصل العالم وقتها إلى حافة هاوية الاشتباك النووي، وكيف أدى وعي قيادات تلك الفترة إلى تجنب هذا الصدام في اللحظة الأخيرة.

حين تقبّل الزعيم الروسي خروشوف وقتها عرضا أميركيا مقدما من جانب الرئيس الأميركي ون كينيدى ومؤداه أن تتعهد أميركا بعدم غزو كوبا (وبمعنى عدم المساس بوضعها الثوري بقيادة فيديل كاسترو) مقابل قيام الكرملين الروسي بسحب صواريخه من كوبا. وقد كان.

Email