مسحراتي دبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم أكن أتخيل وأنا في دبي أن يأتي اليوم الذي نشاهد فيه المسحراتي الذي عهدناه منذ عشرات السنين، وقد تبدلت مهامه من التجول فجراً بين الأزقة والحارات، ينادي على الناس لإيقاظهم لتناول وجبة السحور مستعيناً بطبلته التي ينقر عليها بإيقاعات منتظمة، إلى شخص يدخل البهجة والسرور على الجميع في أي وقت ومكان.

هذا ما شاهدته في أحد المراكز التجارية المشهورة في قلب دبي، عندما كنت أتجول بين محلاته ذات ليلة، وإذا بصوت نقرات طبلة المسحراتي تخترق أذنيَّ حاملة معها صدى يملأ المكان، وللوهلة الأولى لم أستطع تمييز ماهية الصوت الذي يدركه ويستوعبه عقلي جيداً.

لحظات استغرقتني لأبحث بعدها عن مصدر الصوت، حتى أفاجأ بالمسحراتي وهو أمامي، وقد التف حوله مجموعة كبيرة من المتسوقين الزائرين والمقيمين، وكثير منهم غربيون، فمنهم من انجذب للمشهد لغرابته وفلكلوريته، ومنهم من استدعى خلاله ذكريات الطفولة وحلاوتها.

ذهاباً وإياباً يتحرك المسحراتي بطبلته ينشد بصوت عذب جهور، تلك المفردات التراثية التي تحمل شجناً لا مثيل له، ومن خلفه كثيرون يحملون هواتفهم المحمولة تصويراً له ومعه.

انتهت الدقائق الحالمة، وما هي إلا خطوات قليلة، حتى تسللت إلى ذاكرتي تلك المشاهد المؤلمة من سبي للنساء، وبيعهن بأسواق النخاسة، في بلدان صنع فيها الفكر المتطرف ما صنع، وإذا بالمقارنات بين ما يحدث هنا وما يقام هناك، تخترق عقلي وخيالي، لأفكر في أنه كيف للقيادات الواعية أن تبرع باستدعاء ماضيها لتضيف عليه وتصنعه شكلاً مبهراً جديداً لتصدره إلى العالم ثقافة وفناً.

وما يحدث هناك حيث الجماعات الإرهابية تمارس أبشع ما تعرف باعتبارها تستدعي أسوأ ما في الماضي لتعيده للواجهة، بصورة أبشع، مدعيةً مثاليةً زائفةً لإقامة المدينة الفاضلة، وفي مقابلها تتألق دبي في استدعاء صور ومشاهد الماضي لتلبسها حُلة عصرية تبهر زائريها ومقيميها، وتقدم لهم رسالة مفادها أنها مدينة السلام والأحلام.. «عاصمة وصانعة المستحيل».

Email