غناء على وقع كرة القماش

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتدحرج كرة القماش المهترئ على وقع ركلات أقدام صغيرة في أزقة المخيم أمام ملايين العيون المتابعة بشغف لأغنية "يا حلالي يا مالي" للمطرب الفلسطيني الشاب محمد عساف، وتدحرجت معها حكايات اللجوء الطويل ومواويل الأقدمين وصور تشكلت في المنافي وفي مخيم صنع منه سكانه صغاراً وكباراً مرآة تريهم وطنهم على صفحتها الزجاجية الملساء.

مشهد لا يختزل محاولات الفرق الموسيقية التي أنشأتها مختلف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مجتمعة منذ عقود لإيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم فحسب، بل يتخطاها في اتساع رقعة انتشاره وتأثيره في تشكل رأي عام غابت ملامحه أو غيبت عمداً لصالح أوهام تسوية راحت تحرف القضية الفلسطينية عن مسار حقائق التاريخ والجغرافيا.

مشهد لا يحيلنا إلى طرح أشكال الكفاح الفلسطيني المرير على بساط البحث من جديد فحسب، بل يؤكد أيضاً ضرورة عدم الاستهانة في أي منها في ظل انحسار رقعة ممارستها وضيق اليد في اعتماد الأمثل منها في سبيل استعادة المغتصبات والحقوق ورفع المعاناة عن كاهل شعب دفع أطفاله إلى تحويل أزقة المخيم الضيقة إلى ملاعب وخرق القماش المهملة إلى كرات قدم.

مشهد يعيد للغناء رونقه وللموسيقى سحرها وللكلمة أصالتها على متن ألحان تنساب من مكونات طبيعية صرفة، ولأنها كذلك، تصل وتطرب وتسمع رسالتها في مهدها وكما هي بلا رتوش أو متممات، ولأنها كذلك، أدركت القوى الظلامية في كل أرجاء المعمورة أهمية منعها من الوصول إلى مسامع وقلوب الناس.

فعملت على إسكاتها بكل الطرق والوسائل حين عمد مرتزقة بونوشية في تشيلي، على سبيل المثال، إلى تحطيم أصابع فيكتور هارا كي لا تلامس أوتار قيثارته من جديد قبل أن يصوبوا فوهات بنادقهم الغادرة إلى كل بقعة في جسده خلف سور الملعب البلدي في سانتيغو دي تشيلي.

حسناً فعلت وكالة الأونروا حين قررت تعيين محمد عساف سفيراً لها، ما ينم عن إدراك عميق للحالة المستعصية التي تمر بها هذه المنظمة الأممية حين يتعلق الأمر بعجزها المتنامي عن تلبية حاجيات الأعداد المتزايدة من اللاجئين الفلسطينيين الموزعين في مخيمات البؤس في دول الطوق.

مثلما أدركت أن صوت الغناء، إن أحسن استخدامه، يعلو على صوت أصحاب الياقات البيضاء في وفودها الرسمية التي تطرق أبواب حكومات العالم ليل نهار بلا جدوى تذكر.

 لكن هذا الحسن في اتخاذ القرار لا يضاهي حسن قرار محمد عساف نفسه حين قرر البقاء وفياً لقضيته ولمخيمه وحين قرر مواصلة حمل الرسالة وإيصالها إلى أوسع رقعة من البشر في موطنه فلسطين وفي محيطه العربي وفي العالم أجمع، فما كان للأمم المتحدة أو حتى الشعب الفلسطيني نفسه أن يمتلك هذا المنبر الشاهق بعيداً عن حقيقة مرة عاشها محمد عساف في أزقة مخيم غزي.

Email