فن الخطابة وملكة الكتابة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما وقف موجها خطابه للشعب البريطاني قائلا: «لا أستطيع أن أعدكم إلا بالدموع والبكاء والألم»، كان يعلم حينها وفي ذلك الوقت الحرج من الحرب العالمية الثانية، أنه لا يملك معجزة عصا موسى، وأن موقفا للإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، يتطلب الكثير من التضحيات والخسائر المادية والبشرية، وأن للنصر طريقا طويلا وصعبا، يتطلب الكثير من الواقعية والصدق مع الشعب، والقليل من السياسة والكذب. الشعوب دائما تحتاج إلى الحقيقة والمواجهة (حتى لو كانت قاسية) في ظل الأزمات، وتحتاج أيضا إلى خطاب صريح غير مشوه، وقادة ملهمين يحسنون التعامل مع الأحداث والمستجدات الطارئة، ويستطيعون الوصول بالسفينة إلى مرفأ الأمان. أن تكون خطيبا مفوها مثل ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني (‬1874-‬1965)، فتلك ملكة يتميز بها القليل من السياسين، ويعي لعبتها أيضا الكثير من المؤسسات والأحزاب السياسية. لكن الغريب أن يقف السياسي المخضرم تشرشل في صف الأدب والكتابة، ويتسلم جائزة نوبل للآداب (وهي أهم جائزة عالمية) عن إنتاجه الأدبي المميز خلال فترة حياته، وكتاباته في التاريخ العالمي، وأهمها مجلده الضخم «الحرب العالمية الثانية» في ستة أجزاء، الذي وثق فيه أحداث الحرب العالمية وأبدع في سردها بحس أدبي.

يبرز القادة الموهوبون ويتميزون خلال الأزمات، وليس في أيام الرخاء، وللأسف أن حسن التعامل مع الأزمات يتقنه القليل من القادة في أيامنا، ولنا في التاريخ عبرة.

أن تجمع بين موهبة الكتابة والخطابة، فتلك ميزة صعبة يتقنها القليل جدا من كتابنا العرب. فعندما تقرأ بشغف لكاتب معين، وتعجب بطريقة كتابته وأسلوبه الملهم وانتقاءاته الفريدة للمفردات اللغوية، وتتمنى في قرارة نفسك أن تتحدث مع هذا الشخص أو تسمعه يلقي خطابا أو كلمة سريعة، أو حتى يتحدث عن كتابه الذي كتبه بيده، أمام جمهوره من الحاضرين، فقد تتفاجأ عزيزي القارئ بأنك تستمع إلى شخص مختلف جدا، شخص مهنته الكتابة! وأنت تطلب منه أكثر من ذلك.

الأمر ليس عيبا، وليس انتقاصا من شخصية أي كاتب، بل مفارقة غريبة ولطيفة بالنسبة لي! فعندما لا تقدر أن ترتقي إلى مستوى كلماتك وتعبر عن نص كتبته وتعبت عليه، بالشكل المطلوب أمام حشد من جمهورك وقرائك، فهذا التناقض مثير للعجب لدي. هنالك الكثير من الأسباب التي تقف حاجزا بين الكاتب وقدرته على الانطلاق والتحدث باحترافية وأريحية، ومن هذه الأسباب وأهمها الخوف وعدم الجاهزية، وأيضا صعوبة التعامل مع الجمهور، وتجد هذا الأمر واضحا حتى في الدول المتقدمة.

 ففي الولايات المتحدة، وبحسب عدة إحصائيات حديثة، منها إحصائية للصنداي تايمز، جاء الخوف من التحدث أمام الناس في مقدمة الأسباب التي تخيف الأميركيين. والعكس صحيح، فالكثير من الخطباء والمتحدثين المميزين من السياسين أو خبراء الإدارة وغيرهم، يعجزون عن الكتابة الاحترافية التي تعتبر موهبة نادرة والتزاما صعبا يتقنه القليل من الناس، فتجدهم متحدثين بارعين، ونوعا ما كتابا غير مميزين، رغم وجود من يكتب لهم! في الدورة الثانية لمهرجان الإمارات للآداب، الذي يقام في مدينة دبي، كنت أتحرق لسماعه يتحدث للجمهور عن تجربته وكتاباته المنتشرة في مكتباتنا.

كنت قد كبرت مع كتبه وقرأت أغلب إصداراته الأدبية، وهاهو اليوم بيننا. حجزت مقعدي في الصف الأمامي وكان معي أصدقاء القلم، وما أن بدأ يتحدث حتى انطفأ ذلك الوهج الذي رسمته في خيالي عن أفضل كُتابي، ووددت أنني لم أسمعه! هناك فرق بين الكلمات التي تستلقي على السطور، وبين الكلمات الثقيلة التي لا تريد أن تخرج! عندما رجعت إلى نفسي بعدها، عرفت أني توقعت الكثير، فالكتابة ملكة، والخطابة ملكة، والمواهب ملكات.

 

Email