ومن العشق ما قتل

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال شيطان الشعر، وإمام اللغة أبو سعيد الأصمعي، إنه كان يسير يوماً في البادية ومرّ بصخرة نُقش عليها:

يا معشر العشاق بالله خبروا / إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنع

فكتب تحت ذلك: يُداري هواه ثم يكتم سره / ويخشع في كل الأمور ويخضع

ثم عاد في اليوم التالي فوجد تحت البيت الذي نقشه:

وكيف يداري والهوى قاتل الفتى / وفي كل يوم قلبه يتَقطّع

فكتب الأصمعي تحت ذلك: إذا لم يجد صبراً لكتمان سره / فليس له شيء سوى الموت ينفعُ

وعاد في اليوم الثالث إلى الصخرة فوجد شاباً تحتها قد فارق الحياة وكتب:

سمعنا وأطعنا ثم متنا فبلغوا / سلامي إلى من كان للوصل يمنع

ومن صرعى العشق ومجانينه عند العرب من خلدتهم أشعارهم، واعتصروا بآهاتهم دمع المآقي والفؤاد، ومنهم كثيّر صاحب عزة، الذي أنشد عند قبرها لما فرّق الموت بينهما:

أمنقطع يا عز ما كان بيننا / وشاجرني يا عز فيك الشواجر

إذا قيل هذا بيت عزة قادني / إليه الهوى واستعجلتني البوادر

أصُدّ وبي مثل الجنون لكي يرى / رواة الخنا أني لبيتك هاجر

وأشهر المجانين قيس بن الملوّح، عاشق ليلى العامرية، وصاحب «يقولون ليلى بالعراق مريضة..»، و«تذكرت ليلى والسنين الخواليا..»، وقد تمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه، وبلغ من ابن الملوّح كل مبلغ، فذهب عقله وهام في الصحارى، وأوصى إن مات أن يبلغوا شبيهة ضوء الشمس (ليلى) بسلامه، لكنها ماتت قبله، فلما علم مات من توه ألماً لفراق محبوبته، ووجدوا جثته بعد أيام.

أما عنترة، بطل داحس والغبراء.. فأحب عبلة ابنة عمه، وأشهر ما أنشده في حبها:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل / مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها / لمعت كبارق ثغرك المتبسّم

ويُروى أن عبلة صدته بعد طول عشق، فأنشأ من الجفاء روائع الشعر والمعلقات.

أما جميل فهو أحد عشاق العرب المشهورين. أحب ابنة عمه بثينة، وعُرف بها فدعي «جميل بثينة»، وأنشد عن عفتها:

لا والذي تسجد الجباه له / مالي بما دون ثوبها خبر

لا بفيها ولا هممت بها / ما كان إلا الحديث والنظر

ولما تزوجت بغيره استعطفها: ارحميني فقد بليت فحسبي / بعض ذا الداء يا بثينة حسبي

أما أعنف قصص الحب فكانت بين توبة وليلى الأخيلية، ولهما كانت «فما الحب إلا للحبيب الأول». وكان توبة كثير الغارات، فقتل في إحداها.. وسجل التاريخ أروع رثاء قالته محبة في حبيب، وأنشدت: فأقسمت لا أنفك أبكيك ما دعت / على فنن ورقاء أو طار طائر

وكانت ليلى بعد طول سنين قد مرت بقبر توبة، فقالت: السلام عليك يا توبة! أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وكان إلى جانب القبر طائر، فلما رأى الهودج فزع، وطار في وجه الناقة، فهاجت ورمت بليلى فسقطت على رأسها وماتت، ودفنت إلى جواره.

ولأننا في عصر الجنون لا «عصر العلم»، في عصر الجهل والطائفية والمذهبية و..، فأهلا إذاً بجنون العشاق، وطوبى لموتاهم.

Email