الذاكرة المبتورة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من لا يدرك أهمية الذاكرة البشرية، يعرف على الأقل، ما تعنيه الذاكرة بالنسبة للحواسيب والهواتف «الذكية» التي أصبحت شغل الناس، بل حياتهم الفعلية التي لا يمكنهم الاستغناء عنها، وإن أغنت بعضهم عن غيرهم. لكن ذاكرة الإنسانية المتمثلة في التاريخ، بمراحله القريبة والبعيدة، هي المفتاح والشرط الذي لا غنى عنه لفهم الوقائع والأحداث المعاصرة فهماً صحيحاً أو أقرب للصحة، فمن لم يقرأ الماضي لن يمكنه فهم الحاضر.

إذا لم نعرف تاريخ العلاقات بين الأمم والشعوب، وتحولات الإمبراطوريات و«الدول - الأمم»، ودور القوى المهيمنة أو الأكثر نفوذاً وتأثيراً في مصائر الشعوب، خاصة منذ معاهدة وستفاليا سنة 1648، ثم كيف نشأت الدول القائمة اليوم، ومن أنشأها ومتى، وكيف تطورت العلاقات بينها بعد ذلك، فلن نفهم حقيقة وأبعاد ما نشهده اليوم من حروب واضطرابات في مختلف مناطق العالم، وليس فقط في منطقتنا العربية المنكوبة بأهلها أولاً، رغم كثرة نكباتها من الغير.

بتر الذاكرة التاريخية، أو تغييبها، يجعلنا نحكم على الأحداث السياسية وكأن التاريخ لم يبدأ إلا من لحظة إدراكنا الشخصي، وذلك ظلم منا لأنفسنا قبل أن يكون ظلماً للأحداث ولغيرنا. بل إن البعض يذهب أسوأ من ذلك، فلا ينظر للتاريخ من منطلق إدراكه العام فحسب، وإنما من بدء اهتمامه بالحدث! فبعضنا، مثلاً، لم يكن يهتم بالسياسة ومجالاتها قبل هبوب العاصفة الهوجاء التي اجتاحت المنطقة العربية وهزّت أركانها في السنوات الخمس الأخيرة، وبالتالي يتعامل مع التاريخ السياسي وكأنه لم يبدأ إلا مع بداية اهتمام حضرته بالسياسة، وعلى هذا الأساس يقيّم الأحداث و«يحللها»!

التعبير عن الرأي حق لكل فرد، بغض النظر عن آراء الآخرين وتصوراتهم، لكن الفهم الصائب له شروط، وما لم تتحقق شروط الفهم الصحيح، فلن تكون النتائج والاستنتاجات إلا حصيلة لمنطلقاتها غير الصحيحة.

Email