لحظات «صفاء»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما زال يعيشُ  على ألسنة الرواة ربيعاً أخضر، طري العشب بيت المتنبي "أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنَى سَرجُ سابِحٍ وخَيرُ جَليسٍ  في الزَمانِ كتابُ"، يبعث تراتيل الألق من حواف الورق، فيثب من القافية جموح المعنى.

تذكرتُ هذ البيت، أمس، وسط غمرة احتفالات مكتبة الرأس العامة في دبي، بيوبيلها الذهبي، ومضي 50 سنة حافلة بالإنجازات وخدمة القارئ، كشجرة وارفة ممتدة الفروع، حيث قامت على مر عقود بدور ريادي في نشر المعرفة، وخدمة «خير أنيس».

المتنبي نبوءة الشعر وعبقريته، حمل البيت من السحر المصفى، إيجازاً في اللغة ورشاقة لخصت عذوبة الكلام، وأنا بعد ألف عام، أحاول أن يفي وصفي جمال الكتاب، هذا السرجُ السابحُ، المجيد في ملحمته الأزلية، الطود الشامخ؛ الذي تصوغ عرائسه في خيال القارئ أبجديات الحروف، وتحلق بالمتلقي في سماء اللغة الممهورة بالسحر والدهشة.

منذ جئت إلى دبي، قبل سنوات، لي عادتان، أثيرتان، محببتان، الأولى منهما؛ رياضة مسائية، بعد الدوام، كلما سمح الوقت بذلك، حول حديقة «الصفا» بالجميرا، أو حدائق أخرى في طريق عودتي المسائية إلى البيت، أجدها تسحبني من ضغوط النهار، وتغسل ذهني وتجدد طاقتي، وتبعثني إلى عوالم أخرى. والثانية قراءة هادئة تمنحني لحظات «صفاء» أخرى، فيها من التجدد والمتعة والشغف ما لا تصفه الكلمات.

أحب الكتاب في المقهى، عادة، فيخيل لي أحياناً، أنني أحتسي الحروف بدل البن، وأشرب حبر الورق الدافئ بدل الكلمات، كما أعشق الحروف تحت ضوء الشمس، دائماً، في الحديقة أو على البحر، في المقهى أو المكتبة، صباحاً أو ظهراً، وشلال من الضوء يخترق زجاج إحدى الشرفات، ويبسط وهجه على الورق.

إنها عادات من ضمن أخرى، تعزز شغف اللحظة وتؤثث بهجة الاحتفاء، فللكتاب سطوة وحضور، تنفي مقولات غياب القارئ وموت المتلقي، لأن الكتاب، بكافة صيغه وأشكاله، سيظل متن المعرفة وحاضنها، وإن تعددت صيغها وأشكالها هي الأخرى.

Email