أيام في طوكيو 3-3

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمر الأيام سريعاً وتنتهي زيارتي لعاصمة الشرق الأقصى »طوكيو« التي تسحر قلوب الناظرين وكأنّها درّة من دراري الأرض أو أرض العجائب بكل أنواعها الإيجابية، وماذا يمكن أن أصف من جمالها أو حسن تنسيقها ومن تقدير شعبها بعضهم بعضاً أم من دقة صناعتهم، حيث لا يدعون للخطأ مساراً يمكن أن يدخل فيه وجلّ من لا يخطئ سبحانه ـ ولكنّهم بقوةٍ وذكاءٍ وإصرارٍ نجحوا في حياتهم حتى جعلوا الجدران تتكلم في كل مكان تمشي فيه إما للتنبيه أو للإعلان أو لأي غرضٍ آخر مما أثار دهشتي وأنا أمشي في طُرُقاتها، فهم شعب باختصار لا يؤمن بالصُدف أو بالأحرى لا تتلاعب به العواطف والأهواء كما تلعبُ بالشعوب الأخرى.

دخلت (اليابان) في ركود اقتصادي منذ سنوات عديدة ولكنّ ركودهم الاقتصادي هذا لم يعق تقدّمهم العلمي وتطويرهم الحثيث للبنى التحتية وتقوية استثماراتهم الخارجية والداخلية والبحث الجاد عن الأساليب الحديثة لرفع مستوى التعليم، وهم يقومون الآن بتغيير مناهجهم الدراسية القوية التي عُرف بها اليابانيون لينتقلوا إلى عصرٍ جديدٍ من التعليم العالمي الذي يضمن للشعب تقدّمه المستمر، كما قال لي أحد الأكاديميين في (اليابان): إنّهم يخافون من المستقبل الضعيف لهذا هم ينفقون الميزانيات الكبيرة لتطوير أنظمة التعليم للحفاظ على مكتسباتهم التي انتزعوها من فم الأسود الشرسة بكلّ جدارة.

أهل »طوكيو« ليسوا عنصريين ومع هذا لا تجد إلا عدداً قليلاً جداً من الأجانب الذين يعيشون هناك وقد سألت سائقي وهو من الفلبين ويعيش منذ فترةٍ طويلة هناك كم عدد جماعتك في (طوكيو) فقال: قد لا يتجاوزون أربعين ألفاً فقلت له: عدد جماعتك في (دبي) أكثر بكثير من هذا العدد فضحك وقال: المعيشة هنا تحتاج إلى همّةٍ كبيرةٍ فهذا الشعب غير شعوبكم وشعوب أوروبا لأنّه لا يكلّ ولا يملّ من العمل، ويطلب جودةً عاليةً جداً ولديه شعبٌ يعمل في صغير الأعمال وكبيرها فلا يحتاج للعمالة.

هايكو

أثناء زيارتي للمتحف العلمي في العاصمة صحبتنا مترجمة شبهرةٌ عجوزٌ تتقن الإنجليزية اتقانها للغتها الأم وقد عجبتُ من حرصها على التعلم، حيث إنّها ما زالت تسافر لبلدة تبعد ساعتين عن »طوكيو« لتتعلم الشعر الياباني العريق الذي يسمى (هايكو) وكانت تشرحه لي وتذكر كبار شعرائه وتقرأ لي من أشعاره وتميّز بينه وبين فنون الشعر الأخرى اليابانية، وقد صُدمتْ عندما شاركتها معلوماتها عن هذا الفن الياباني الذي أصبحت له رابطة عالمية بل إنّ السويدي الشاعر (توماس ترانسترومر) فاز مؤخراً بجائزة نوبل في الآداب بسبب انتهاجه في شعره (الهايكو).

ماذا تريد منّي؟

من كثرة أعمال اليابانيين وحرصهم على أوقاتهم لا يحبّون تضييع أوقاتهم في أي أمرٍ لا فائدة فيه مع تقديرٍ بالغٍ لمن يجلس معهم ويحدّثهم أو يرافقهم، وقد حصل لي أثناء حضوري أحد اللقاءات أن قال لي أحد المديرين بعد دقائق من الاجتماع به: ماذا تريد منّي؟ هكذا سأل بكل صراحةٍ ومباشرةٍ ولم يسألني عن الهواء والأجواء وهل استمتعت في الرحلة أم لا أو كيف حال الأهل والأصحاب؟ كما نفعل نحن خلال أوّل نصف ساعة من كل اجتماع بل وجّه سؤاله مباشرةً فما كان منّي إلا أن أجبته مباشرةً كما فعل، وهكذا هم اليابانيون لا يضيّعون أوقاتهم كما تفعل كثير الشعوب الضائعة.

الشعب الأمين

أكثر ما يميّز هذا الشعب الأمانة فأنت لا تخاف هناك على نفسك ولا مالك ولا تجارتك وكلمتهم تعني توقيع اتفاقية، وإذا أحبوك قالوا لك ذلك في وجهك لا يخفونه عنك، وإن لم تنل رضاهم فلن تحظى عندهم ولكن لا يضرونك، وقد أخبرني قريبي الذي يعيش هناك منذ سنواتٍ بعجائب عن أمانتهم حيث قال لي عندما وصل إلى »طوكيو« أنّه فقد في أول أيامه آلةً للتصوير وقد نسيها لساعات ثم تذكرها فذهب للشرطة فقالوا له: صف لنا آخر صورة التقطتها؟ فأخبرهم فقالوا له: هذه هي آلتك وهذا رقم الذي أحضرها لنا اتصل به واشكره لأنّه قال: في هذه الآلة صور ذكريات أحد المسافرين عن بلدنا »طوكيو« وأنا لا أريده أن يعود إلى بلده دونها.

Email