جزيرة قيس بن عميرة أم كيش؟ 3-3

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعلّ قائلاً يقول: ماذا يفيد أن نذكر أصول أسماء بلدان ومواضعَ خرجت من ملك العرب وأصبحت في يد غيرهم؟، وأقول له: إنّ علم التاريخ ليس مناطاً بما صارت إليه الأحوال في وقت تسجيله بل هو ذكر للحقائق التي حدثت في زمنٍ ما يختاره كاتب التاريخ إما لأسباب تعليمية أو سياسية أو لأجل تصحيح خطأ وفهم الأحداث وربطها مع بعضها ليستفاد منها في شتى مناحي الحياة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الحقائق إلا عن طريق الرواية الصحيحة أو الكُتُب المصدّق كُتّابها وتاريخ نسخها أو الوثائق التي لم تُزوَّر وتُخلق من العدم - وما أكثرها هذه الأيام - أو الخرائط الجغرافية التي ثبُت صحتها عند العلماء وغير ذلك من الأدلة المعينة على البحث والتحقيق.

ومن هذا الباب قد يسأل سائل: هل وجدت يا جمال دليلاً أكبر من الأدلة التي سقتها لإثبات عروبة جزيرة «قيس بن عميرة» وأن اسم «كيش» لم يكن إلا تعجيماً لقيس؟ قلتُ: نعم هناك دليل وجدته بفضل الله وهو قديم جداً وأقرب للصحة وتطمئن إليه قلوب أهل العلم بالجغرافيا، وقبل أن أذكره لكم أريد أن أنقل لكم من كلام علماء الإسلام ما يثبت أن اسم «كيش» كان شائعاً في فترة من الزمان عند العامة، حتى وقع صاحب القاموس الفيروزبادي في الخطأ وهو من أهل شيراز ومن أجلّ علماء اللغة وصاحب أهم كتاب معجمي ولكن الخطأ يقع فيه كلّ أحدٍ وجلّ من لا يخطئ، حيث قال: «قيس معرّبة كيش»، وقد ذكرت وهمه هذا، وممن أشار إلى تغيير الاسم من قيس إلى كيش العلامة الحافظ عبدالكريم السمعاني (562-506) في كتابه الأنساب فيقول عند ذكره للنسبة إلى «كيش»: «هذه النسبة إلى كيش، وهي جزيرة قيس، في وسط البحر، جعلوا قيساً كيشاً» وفي قوله جعلوا قيساً كيشاً دليل واضح على أصلها العربي والسمعاني من أهالي مدينة «مرو» التي تقع اليوم في «تركمانستان».

أما الإمام أحمد بن خلكان «680-608هـ» فيقول في كتابه «وفيات الأعيان»: وهذه النواحي كلها بلاد العرب، وهي وراء البصرة تتصل بأطراف الحجاز وهي على ساحل البحر المتصل باليمن والهند، بالقرب من جزيرة «قيس بن عميرة» وهي التي تسميها العامة «كيش»، وهي في وسط البحر بين عمان وبلاد فارس، قلتُ: رحم الله ابن خلكان لقد أثبت أمرين: الأول أنّ ما وراء البصرة كلها من بلاد العرب، والثاني أنه أثبت بما لا يدع للشك بأنّ الاسم الأصيل لهذه الجزيرة العريقة هو «قيس» وإنما حصل التغيير بسبب العامة.

ومن هذا كله نصل إلى أهم دليل وصلت إليه عن طريق خارطة قديمة تعود لعام 150 ميلادية موجودة في كتاب «الجغرافيا» للعالم اليوناني بطلميوس «90ق.م-168م» الذي أعاد طباعتها ليونهارت هول عام 1482م ومكتوب على جزيرة «قيس» باليونانية وبأحرف لاتينية: omil, tus, sabana, sinful.

وإذا أردنا تعريب هذه الأسماء اليونانية فإن أقرب اسم لـ omil هو عميرة، وقيس لـ tus، أما sabana فهي واضحة وتدل على شبانة ولهذا الاسم قصة سأذكرها في مقال آخر، وقد احترت في فهم الاسم sinful واحتار مثلي مكتشف هذه المعلومة قبلي الأستاذ أحمد القبندي وأظن أن اليونانيين سموا جزيرة «قيس» بالجزيرة المذنبة لأن أهلها خارجون عن القانون بسبب كثرة غزواتهم في البحار وقد ذكر ذلك عنهم جمعٌ من المؤرخين، وهو المعنى الأقرب للصحة والله أعلم.

Email