الشعر المطرب ومع رائعة فزّاع ثانياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشعر المطرب هو الشعر الذي يهزُّ مشاعرك من مكامنها، فتخرج على الرغم من صاحبها فتراه في فترة خروجها كالنائم المغرق في نومه، فهو في حُلُمٍ جميلٍ لا يريد أن يخرج منه، أو كالهائم الذي ذكر الأحبة والديار فهاجت أشواقه وخرج عن عالمنا إلى عالمٍ آخر عالمِ روحه الذي اتخذه، أو قلْ صنعه ليهرب إليه كلما عادت إليه ذكراه وكما قلت في قصيدةٍ قديمةٍ لي :

وكنُتُ إذا رابني حادثٌ

                  منَ الدهرِ أو غالني غائلُ

هربتُ إليكِ بلا حاجةٍ

                 سوى أنني العائلُ السائلُ

 

هذا العالم المحبوب لصاحبه الشاعر العاشق لا يعدو أن يكون مكاناً وهمياً إذا أردت أن تنعته بذلك، ولكنه أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً من الخمر بصاحبها ومن الدواء لمحتاجه، فسحر الكلمات لا يعادلها سحر، وسحر الشعر المطرب وهو أعلاه يصل إلى سرِّ الروح الإنسانية فيجبرها على إخراج انفعالاتها وأحاسيسها، ولهذا جزم أهل النقد أنّ الشعر الذي لا يطربك عند سماعه ولا يتجاوز الشفاه إلى القلوب فهو شعر مكتوب عليه الضياع، ولو كان مكتوبا بماء الذهب. وقد قيل :

إذا الشعرُ لم يطربكَ عندَ سماعهِ

                     فليسَ حـــــــريّاً أنْ يقالَ لهُ شعْــــــرُ

 

قصيدة فزاع التي وهبها عنواناً موفّقاً وهو " إيمان الشعوب" فجعل لها بعداً عالمياً لا يختص بدولةٍ ولا بإقليمٍِ ولا بشعبٍ بعينه وإنما هو اعتقاد ٌتؤمن به الشعوب وتحارب من أجله فلا بدّ أنْ يكون أمراً عظيماً وموضوعاً يستحيل أنْ تقلَّ أهميته عن قلب الحقيقة وصميمها التي لا تنفكُّ عنها، مما يجعل للقصيدة جاذبية لكلِّ من تقع عينيه عليه، فكلٌّ منّا سيحدّث نفسه فيقول: وما إيمان الشعوب هذا الذي عناه الشاعر؟ فيحفظ القارئ اسم القصيدة ويدفعه أيضا فضوله للاطلاع في آن واحد.

ومن المعلوم أنّ الشعراء الأولين لم يضعوا لقصائدهم عناوين كما تراه اليوم، ولكنّهم كانوا يكتفون بمطالع الأبيات، ثم لما فُتحت أبواب الترجمة بيننا وبين اللغات المتقدمة أهلها كالفرنسية والإنجليزية ووجد شعراء العرب أنفسهم أمام دواوينَ شعريةٍ غربيةٍ لكلّ قصيدةٍ منها عنوانٌ يختصُّ بها فقلّدهم كثير من شعرائنا، ولكن قليلاً منهم منْ يحسن اختيار العنوان المناسب لإنتاجه، والأولى بهم العناية بعنوان إبداعاتهم كما يعتنون بتثقيف أشعارهم وتهذيبها، ولكي لا أطيل عليكم سأفرد مقالة أخرى تتبّع مواطن الضعف والقوة في هذا الموضوع وحسبي بعنوان"إيمان الشعوب" شاهداً على ما قدّمت.

 من قوة الشاعر وتمكّنه أن يختار أساس بناء القصيدة وهي أول بيت فيها بل أول شطر منه فيشدُّ قلب سامعها إليه، ويوقف عين قارئها عليها فتختلط مشاعرهما معا فيشعر بها كما شعر بها صاحبها أول وهلةٍ ، لا كما يفعل بعض الشعراء حيث يتساهل في المطالع فيصرف عنه محبو الشعر وإن كانت قصيدته بعد ذلك قمةً في جمالها وحسنِ سبكها، وانظر على سبيل المثال إلى مطلع القاضي في فائيته العجيبة :

إلى ابصرت في الدنيا تكدّر لي الصافي

                               تعذّر زماني ما حصلْ صــاحبٍ صـــــافي

 

فمن مطلعها بل من أول شطرٍ منها تعلم أنّ وراء هذه القصيدة الشعر البليغ الجزل، ومن هذا المبدأ الإبداعي ابتدع "فزّاع" مطلع قصيدته فقال :

سرى الليل وسرى صوت المشاعر يا نسيم النّودْ

                                      وعلى الله ما سريت إلا وســــاق الشـعر قيفـــــــانهْ

 

وللحديث بقية.

 twitter:@jamalbnhuwaireb

Email