ذاكرة الأمة وحصنها

ت + ت - الحجم الطبيعي

التراث هو الصبغة الثقافية التي تنشأ على خلفيتها هوية الكائن، وإذا كان الإنسان في أحد تعريفاته «كائناً ثقافياً»، فإن هويته الثقافية تعني ماهيته.

فثقافة الأمة، إنما هي ماهيتها، وعمقها الحضاري ثابت الجذر، وفرعها الإنساني المنفتح على أفق الثقافات الأخرى، وذلك أن الثقافات تنشأ وتنمو من عملية المثاقفة والتفاعل الواعي واللا واعي، مع بعضها البعض، ومن هنا، يتسع مفهوم الهوية الثقافية على أفق الحوار، لأن الهوية لا تعني الانغلاق، ولا تعني العزلة عن الفضاءات الثقافية الأخرى.

بل تعني التفاعل معها، لأن التفاعل هو أحد أهم عناصر الحفاظ على الهوية الثقافية، إلا أن هذا التفاعل لا بد أن ينطلق من رؤى عميقة في فهم الذات الثقافية، لأن فهم الذات هو حصن هويتها، وبالتالي، يعني الانخراط في حوار تفاعلي، حيث تجاوز المرء لحدود ذاته، والتفكير مع الآخر، ثم العودة إلى الذات، وكأنها عودة إلى ذات أخرى.

والمسافة بين ماضي الأمة وحاضرها، هي المسافة بين حاضر الأمة ومستقبلها، وبالتالي، حين نريد أن نستقرئ المستقبل في علاقتنا مع الآخر، لا بد أن نستقرئ الذات في علاقتها مع ذاتها، أي مع ماهيتها وثقافتها، فمن يبصر تراثه وثقافته، يبصر الوجود، ومن لا طاقة له على هذه البصيرة.

لا شك سوف يفقد وجوده، ولا طاقة لديه على أي شكل من أشكال الحوار، لأن الحوار يوسع الأفق الثقافي، والثقافة توسع أفق الحوار، والانتماء إلى الماضي، كاستناد للانطلاق إلى المستقبل، كما يقول برغسون، يفعّل الرؤى الثقافية، ويفعل حالة التلاقي والتحاور.

وبالتالي، يفعل لحظة الانتماء إلى الوجود في الانتماء إلى الزمن. فالبشر محكومون بالحوار كحاجة، تأسيساً على أخلاقية العناية والفضيلة لتحقيق الوجود، فإذا كانت الحضارة حاجة والثقافة تكوين، فلا بد لنا من تحقيق الحوار، كحالة وجودية قائمة على استمرار مفهوم العلاقة كحالة تشاركية، ومفهوم الحاجة كحالة غريزية، ومفهوم الحتمية كحالة وجودية، فنحن نندفع إلى محاورة حاجاتنا بثقافاتنا، وكذلك الآخر.

ومن هنا، تنهض أهمية قراءة ثقافة الأمة عبر ذاكرتها الجمعية، وتحصين وجودها، وذاتها، قبل الانفتاح على الآخر، ولا شك أن من أهم عناصر قراءة الذات، هو التمكين اللغوي، والحفاظ على اللغة العربية، كهوية تحصن الذات ووجودها، وكما يقول ابن خلدون، إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات، صورة لمنزلة دولتها بين الأمم.

وبالتالي، إن الهوية مفهوم ذو دلالة لغوية وفلسفية واجتماعية وثقافية، يتضمن الإحساس بالانتماء القومي والديني، ما يرسخ الوعي الثقافي في ذاكرة الجيل القادم، ويحصنه ويحصن ذاكرته من الانزياح عن ماهيتها ووجودها، وبالتالي، ننهض بالذات من إطارها الضيق إلى إطارها التفاعلي، ليكتسب الإبداع والثقافة حالة من التخطي، وحالة من الانفتاح الإيجابي، لتأسيس رؤى جديدة للعالم، تجعل من الذات أداة حفر حقيقة في البناء المعرفي الإنساني.

من هنا، كان تأكيد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، على «أهمية تنظيم وإقامة الفعاليات التي تحيي ذاكرة شعبنا، من خلال إحياء التراث والفن والثقافة التي تشكل عناصر هويتنا الوطنية والحفاظ عليها، والتشبث بها جيلاً بعد جيل، مع حرصنا على الانفتاح على الثقافات الأخرى والمعاصرة بكل مكوناتها ومفرداتها، حتى يواصل شعبنا مسيرته في كل الاتجاهات، وصولاً إلى العالمية في مختلف المجالات، خاصة الثقافية والسياحية منها».

هكذا، يأخذ الماضي في هذا المقام، شكل الحاضر والمستقبل، لأنه متصل بهما اتصال الكائن بجذره ووجوده الأول.

Email