بريطانيا وأوروبا

علاقة فريدة تربط بريطانيا بقارتها الأم

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتناول هذا الكتاب علاقة بريطانيا مع القارة الأوروبية من منظور جدلي، حيث يوضح أن العلاقة المذكورة ظلت تجمع بين الصراع، العنيف بل العسكري في بعض الأحيان، وبين التعاون والتآزر في أحيان أخرى من منظور المصالح المشتركة بين بريطانيا وقارتها- الأم. وقد استمد الكتاب أهميته من واقع توقيت صدوره متزامناً مع ما انتهى إليه الاستفتاء البريطاني من خروج بريطانيا فيما عرف بـ«البريكست» من عضوية الاتحاد الأوروبي.

ويذهب الكتاب إلى أن ساسة بريطانيا وقادتها كانت أفكارهم تتراوح بين ما آمن به إدموند بيرك في أواخر القرن الثامن عشر من أهمية انتماء بريطانيا إلى أوروبا، وبين ما كانت تؤكد عليه مارغريت تاتشر في الثلث الأخير من القرن العشرين من عزوف عن ارتباط بريطانيا بمنظومة الوحدة الأوروبية ومؤسساتها.

وإن كان الكتاب يتميز أيضاً بإبراز دعوة ونستون تشرشل قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية (1944) بالتوصل إلى كيان فيدرالي (اتحادي) يضم بريطانيا مع الأقطار الأوروبية اقتداءً -كما تصور تشرشل- بالنموذج الفيدرالي– الاتحادي، العملي والناجح الذي ما برحت تجسده الولايات المتحدة.

وحدها، دون سواها من أقطار أوروبا، في شرقها وفي غربها، هي التي تنفرد في اسمها بوصف العظمى. ولقد عمدت بريطانيا إلى تكريس هذا التوصيف حتى في اللقب الذي أودعته لدى منظمة الأمم المتحدة، ولدرجة أن القائمة المعتمدة رسمياً في الأمم المتحدة تطلق عليها اسم المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية.

ولا شك أن حكاية العظمى ما زالت تستدعي إلى الذهنية المعاصرة ذكريات عصور مضت من التاريخ الحديث، وشهدت لندن في موقع عاصمة الإمبراطورية التي امتدت شبكات نفوذها من شرق الكرة الأرضية في أقاصي آسيا إلى غرب الكرة المعمورة في أصقاع البحر الكاريبي الفاصل بين قارتي أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية- اللاتينية، ولدرجة أن راجت التسمية الذائعة بشأن الإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها.

وهكذا ذاعت أيضاً عبر هذه المساحات التي شغلتها الإمبراطورية البريطانية – تلك الصيحة التي سبق إلى إطلاقها الشاعر رديارد كبلنغ (1865- 1936) قائلاً: «ألا فاحكمي يا بريطانيا، وسودي على الآفاق».

ثم حانت مواقيت الغروب التي كان لا بد وأن تشهد انحسار نفوذ الإمبراطورية البريطانية، وخاصة بعد اشتداد ساعد حركات التحرر الوطني في قارة آسيا منذ أربعينات القرن العشرين ثم في قارة أفريقيا مع سنوات عقد الخمسينات، إلى أن جاء انكسار بريطانيا المشهود بعد فشل وإجهاض الحملة العسكرية التي تصدرتها بريطانيا العظمى بقيادة رئيس وزرائها أنطوني إيدن، وعرفت باسم العدوان الثلاثي على بورسعيد المصرية في مثل أيامنا هذه منذ ستين عاماً.

بعدها أضيفت إلى قاموس العلاقات الدولية منذ منتصف الخمسينات شعارات مستجدة، كان في صدارتها الشعار الدال الذي يقول بما يلي: سياسة بريطانيا فيما بعد السويس، وكان مؤداه تصفية ما تبقى من نفوذ وسطوة لبريطانيا في مناطق شرقي السويس.

فرنسا وجهودها الأوروبية

لكن تشاء مقادير السياسة أن تتوازى في تلك الفترة جهود كانت دائبة وحثيثة بدأت مع أولى سنوات الخمسينات وشهدت أولى الخطوات المؤدية إلى تحقيق حلم الوحدة الأوروبية.

وقد حملت البداية شعاراً كان بالغ التواضع في تلك الأيام، وهو خطة شومان، وهي المشروع المنسوب إلى روبرت شومان (1886- 1963) وقد عمد فيه السياسي الفرنسي المذكور إلى وضع أولى لبنات منظومة الوحدة الأوروبية ممَّثلة بأول دعوة إلى إنشاء مجمع أوروبي للفحم والحديد ليضم 6 دول من غرب أوروبا، وما لبث أن أفضى مع عقد الستينات إلى قيام السوق الأوروبية المشتركة، ومن ثم إلى الجماعة الأوروبية.

وقد تصدرت هذه المسيرة الوحدوية الأوروبية كل من ألمانيا وفرنسا، وكان الأمر بعيداً بكل معنى عن أي مشاركة من جانب بريطانيا التي كانت – كما ألمحنا – عظمى في سالف الأيام.

تاتشر تهاجم ميجور

وكما أعلن كبار الساسة في بريطانيا عزوفهم عن الانضمام إلى مسيرة ومؤسسات تلك الوحدة الأوروبية، وكان في مقدمتهم رئيسة الوزراء مارغرت تاتشر ومؤيدوها من حزب المحافظين في بريطانيا.

ولم يكن صدفة أن شنت تاتشر ومؤيدوها حملة شعواء بكل معنى عندما أقدم رئيس وزراء بريطانيا جون ميجور على توقيع معاهدة ماستريخت في شتاء عام 1991 وتقضي بانضمام بريطانيا إلى منظومة ومؤسسات الوحدة الأوروبية: يومها أطلقت تاتشر شعاراً مدوياً ولاذعاً قالت فيه: إن ميجور وضع رأسه في أتون النيران.

وبديهي أن كانت نيران التسعينات هي انضمام بريطانيا إلى عضوية منظومة الوحدة الأوروبية.

والحاصل أيضاً أن ظلت هذه الجذوة متقدة مع توالي السنوات الاستهلالية من الألفية الجديدة، فيما ظلت علاقة بريطانيا بأوروبا الموحدة تتسم بنمط من التشابك والتشكك والتعقيد، بل والتناقض في بعض الأحيان.

هذه النتيجة هي التي توصّل إليها الباحث الانجليزي الشاب براندن سيمس في أحدث كتاب قام بإصداره حول موضوع علاقة بريطانيا بقارتها الأم، ما بين الشّد والجذب، وما بين السلب والإيجاب.

اختار مؤلفنا لكتابه الذي نعايشه في هذه السطور العنوان الذي يمكن ترجمته على النحو التالي: «أوروبا من منظور بريطانيا».

ثم بادر إلى مزيد من التفسير من خلال إضافة العنوان الفرعي لهذا الكتاب وهو: «ألف سنة من الصراع والتعاون تحت شعار بريكست». ولقد كان طبيعياً أن يكتسب هذا الكتاب مزيداً من الأهمية في ضوء الملابسات التي أحاطت بهذه العلاقة بين بريطانيا وأوروبا، على نحو ما شهدته الأشهر القليلة الماضية.

ومنذ الفصول الأولى من هذا الكتاب يكاد القارئ يشعر بمدى تركيز المؤلف على العلاقة الوطيدة المستمرة عبر عصور خلت من التاريخ البشري بين إنجلترا وأوروبا، لدرجة أن يؤكد المؤلف على ما يصفه بأنه البعد القارّي للتاريخ الانجليزي، فيما يعمد - بحكم تحصيله وخبرته الأكاديمية - إلى ارتياد مراحل تاريخ الجزر البريطانية وأبعاد علاقتها بقارتها الأوروبية ابتداء من عصور الفايكنغ، وهم بحّارة الشمال الأوروبي الذين عايشوا فجر المراحل المسيحية من تاريخ القارة، وقد تلتها حقبة بالغة الصعوبة والتعقيد وعرفت باسم حرب المئة سنة، التي شهدت حوليات الصراعات الدموية بين إنجلترا وفرنسا ودارت رحاها على مدار الفترة 1337- 1453 للميلاد.

وبعدها اندلعت دعوة الإصلاح الديني التي قادها في الأساس مارتن لوثر (1483- 1546) وتصدّت موضوعياً لسيطرة وهيمنة باباوات الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان وصولاً إلى أواخر القرن 18 وبواكير القرن 19 وهي الفترة التي شهدت بدورها حرب إنجلترا ضد الغازي الفرنسي نابليون بونابرت، وبعدها جاءت مراحل الترابط أو التآزر الانجليزي الفرنسي خلال الحربين العالميتين الأولى (1914) والثانية (1939).

عن الأزمات المستجدة

يعمد المؤلف إلى تلخيص المستجدات في أوائل القرن الجاري على النحو التالي: عودة روسيا إلى سياسات سابقة لكنها استرجعتها (مع قيادة فلاديمير بوتين)، حيث قامت هذه السياسات على آليات التوسع الإقليمي (في أوكرانيا مثلاً) وعلى اتخاذ مواقف عدائية إزاء العديد من القضايا العالمية المطروحة، فضلاً عما أصبح متمثلاً في ظاهرة – آفة الإرهاب المنظم والمسلح على مستوى العالم على نحو ما تمارسه مثلاً العصابات والكيانات التي تحمل اسم «داعش».

أما على مستوى الداخل في مجتمعات أوروبا وبريطانيا فإن المستجدات السلبية الفادحة أصبحت تتمثل في واقع الأزمات التي باتت تعانيها أحوال الاقتصاد في كل من تلك البلدان وتلك مشكلات لا يرى لها مؤلف هذا الكتاب حلاً ناجعاً على الأقل في المستقبل القريب.

نحو اتحاد فيدرالي

وفيما يعترف المؤلف بأن الصيغة التي تخلت عنها بريطانيا من خلال استفتائها الأخير كانت تشوبها سلبيات عديدة، فهو يقترح على كل الأطراف العمل على إيجاد فرصة فريدة وغير مسبوقة كما يسميها وتقضي بالتالي:

العمل على إنشاء اتحاد فيدرالي، ربما على غرار الصيغة الاتحادية (الفيدرالية) التي قامت عليها الولايات المتحدة الأميركية.

وهنا يمكن أن تجمع بين أوروبا الاتحادية التي يتصورها المؤلف وبين بريطانيا حتى بعد قرار خروجها أخيراً، علاقات يراها البروفيسور سيمس أكثر اتساماً بالصحة والفعالية والروح العملية.

على أن مؤلف هذا الكتاب يتناول علاقة بريطانيا مع القارة من منظور يمكن وصفه بأنه منظور جدلي، وبمعنى أنها كانت ومازالت علاقة تجمع بين السلب والإيجاب، أو فلنقل من واقع عنوان الكتاب ذاته أنها علاقة صراع وتعاون، وبمعنى أنها شهدت نزاعات سياسية واقتصادية بل ودموية في بعض الأحيان، بقدر ما شهدت على الجانب المقابل من هذه المعادلة الجدلية وقائع وحالات من التآزر والتفاعل الإيجابي، وخاصة عندما كان الأمر يستدعي تجميع الطاقات وحشد الإمكانات وتعبئة القدرات لمواجهة عدو مشترك.

على نحو ما حدث في محاربة ألمانيا الإمبراطورية سنة 1914 أو ألمانيا النازية عام 1939، وبعدها عاودت أواصر التعاون تفاعلها عندما توحدت مسيرة بريطانيا مع أقطار الشطر الغربي من قارتها الأوروبية في إطار حلف ناتو الأطلسي من أجل مجابهة روسيا السوفييتية وعقيدتها الماركسية ومذهبها ونظامها الشيوعي، وكان ذلك في حقبة سيطرة ستالين بالذات على مقاليد الرئاسة الروسية في الكرملين وعلى مدار الفترة 1945- 1953.

هكذا تكلم ونستون تشرشل

في كل مفردات الاستعراض الذي قدمه المؤلف عبر فصول عديدة من هذا الكتاب، يلحظ القارئ تأكيداً على أهمية العلاقة التي يراها مؤلفنا أمراً جوهرياً بين بريطانيا وأوروبا الموحدة، فيما يرى أن العلاقة الاندماجية بين الطرفين، وعلى عكس التوجه الشعبي الذي مال إلى فصم هذه العلاقة، أمر بالغ الفائدة لصالح الطرف البريطاني.

ويدلل المؤلف على أهمية تلك الرابطة الحيوية بين الطرفين - أوروبا وجزيرتها (البريطانية) من خلال الإحالة إلى ما سبق إلى إعلانه السياسي البريطاني الشهير ونستون تشرشل (1874- 1965) حين طالب بإنشاء ما وصفه تشرشل بأنه الولايات المتحدة في أوروبا.

صحيح أن تشرشل أطلق هذه الصيحة على خلفية ما شهدته سنوات الحرب العالمية الثانية الست (1939- 1945) من مصاعب بل وكوارث وويلات، خاصة وأن نداءه المذكور جاء تاريخه في عام 1944 وكان ذروة الدمار من وقائع الصراع العالمي المذكور، إلا أن مؤلف كتابنا لا يتورع عن استعادة العبرة المستفادة من تلك الأزمات، مؤكداً على أن انجلترا وأوروبا أصبحتا تشهدان أوضاعاً لا تقل في قسوتها وفداحة أخطارها المتوقعة عما شهدته الأجيال التي سبقت من حيث فداحة نتائج الصراع العالمي السالف الذكر.

وهنا يذهب المؤلف عبر مقولات عديدة في فصول الكتاب إلى ما يلي: لقد حان الوقت للعودة إلى أوروبا الموحدة، خاصة بعد أن أصبحنا نواجه أزمة قاسية وخانقة منذ عام 1945 وقد زاد من قسوة هذه الأزمة، كما يضيف المؤلف أيضاً، ما استجد خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من هذا القرن الجديد.

عنصر الأمن القومي

يتحدث المؤلف عن عنصر الأمن القومي في بريطانيا، وهنا يؤكد على أهمية ارتباط المملكة المتحدة بالكيان القارّي الأوروبي، موضحاً أن أمن بريطانيا لا يتحقق بحدود الجزر البريطانية، بل إنه يكمن - كما يؤكد كتابنا - عند حوض نهر الراين وربما عند ضفاف نهر البو، أي في ساحات ألمانيا أو فرنسا أو إيطاليا، وهو ما يؤكد ما سبق إليه المفكر والسياسي الانجليزي إدموند بيرك (1829- 1797) حين قال إن بريطانيا ليست مجرد جزيرة، بل إنها جزء لا يتجزأ من قارة اسمها أوروبا.

المؤلف

براندن سيمس أستاذ جامعي بريطاني من أصل ايرلندي، وقد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج وكان قد اختار لرسالته «العلاقات بين إنجلترا وبروسيا خلال الفترة 1804- 1806 ».

كما تولى تدريس علم التاريخ الحديث في جامعة اكسفورد، ونالت محاضراته الكثير من الثناء على نحو ما نشرته صحيفة «التايمز» اللندنية التي ذكرت أن هذه المحاضرات التي اختار لها المؤلف موضوع صنع القرار في الرايخ الثالث لا يجد المرء فيها موطئاً لقدم من فرط الإقبال.

تأليف: براندن سيمس

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة اللن لين، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 352 صفحة

Email