علاقات أميركا والصين في القرن 21

مستقبل علاقات أميركا والصين محفوف بالمخاطر

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مازالت آفاق العلاقة الراهنة والمتوقعة بين أميركا والصين تستحوذ على اهتمامات علماء التخطيط السياسي في أنحاء العالم، ويرجع ذلك بداهة إلى ما تشغله كل من هاتين القوتين من مواقع ومكانة في مختلف المجالات، سواء من حيث القوة العسكرية (أميركا) أو من حيث القوة الإنتاجية (الصين).

وقد أفضت هذه المعادلة المتباينة إلى مزيد من التعقيدات على نحو ما ارتآها مؤلفا هذا الكتاب، وبمعنى أن قوة الصين في مجالات الإنتاج والتصدير السلعي جعلت من بكين المصدر رقم واحد الذي يكاد يغرق أسواق الاستهلاك الأميركية بمختلف أنواع السلع التي ما برحت محلّ الإقبال من جانب المواطن الأميركي، في حين أن ارتفاع مكانة أميركا الموروثة منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية جعل منها دولة استثنائية.

وهو ما لا يزال يدفعها إلى الحفاظ على هذه المكانة السوبر– متميزة من خلال الارتفاع المتصاعد في الإنفاق العسكري، وهو ما يكاد يضع كلاً من واشنطن وبكين على طرفي النقيض، خاصة وأن الطرفين شريكان من الناحية الجيوسياسية بحكم الإطلالة على شرقي وغربي المحيط الهادئ.

كما يركز الكتاب على جهود الزعامة الحالية في الصين من أجل ترقية وتأكيد مكانتها كطرف عولمي فاعل ودينامي ومؤثر انطلاقاً من مصالحها القومية.

مع الأيام الأولى من شهر سبتمبر الماضي، بدأت الأنظار تتجه نحو الصين، والسبب هو استضافة البلد الآسيوي الكبير لاجتماع مجموعة العشرين الذي يتميز بأنه يضم خليطاً إيجابياً بكل معنى من البلدان المتقدمة والبلدان النامية.

ولأن الصين - كما أسلفنا - هي المُضيف للاجتماع العشريني المذكور، فقد كان طبيعياً أن يتم تسليط المزيد من الأضواء على أحوال الصين ومفردات دورها في الحاضر وآفاق تطورها في مستقبل الأيام.

شلال السلع الاستهلاكية

 

على كل حال، فإن مراقبي الساحة الدولية الراهنة ما زالوا ينظرون إلى الصين باعتبارها نجماً صاعداً بإصرار في آفاق عالمنا، لا بفضل ما تبّثه الميديا الصينية مثلاً من صنوف الدعاية وأساليب الإعلان، ولكن بفضل ما تنتجه المصانع الصينية وما يبدعه المهندسون والعاملون في الصين من صنوف المنتوجات والمصنوعات.

كتابنا الذي نعايشه في هذه السطور أصدره مؤلفاه تحت عنوان مركّب ويتألف من عنصرين. والعنوان هو: الضمان والتصميم الاستراتيجي: علاقات الولايات المتحدة مع الصين في القرن الواحد والعشرين.

والمؤلفان هما:

(1) البروفيسور جيمس شتاينبرغ أستاذ علم الاجتماع والشؤون الدولية.

(2) المفكر مايكل أوهانلون الباحث الأقدم الاختصاصي في سياسة الأمن القومي بمؤسسة بروكنغز الأميركية.

تاريخ حافل للعلاقات

كتابنا يتألف من 9 فصول يبدأ أولها وثانيها باستعراض استهلالي لبدايات العلاقة السياسية بين واشنطن وبكين وهي علاقات اكتسبت - كما نتصور - بعض الصفات الدرامية كما قد نسميها. لماذا؟

لأن أميركا ظلت على إصرارها العجيب طيلة سنوات عديدة (من مطلع خمسينات القرن الماضي وحتى السنوات الأولى من عقد السبعينات) -ضد أي اعتراف سياسي بذلك الكيان السوبر- ضخم، البالغ التأثير من حيث الفعالية والمكانة في جنوب الشرق الآسيوي، وخاصة منذ اندلاع ثورة الصين وإعلان دولة الصين الشعبية – الشيوعية سنة 1949 بزعامة ماو تسي تونغ.

ثم جاء عقد السبعينات من القرن العشرين. وتولى حقيبة الخارجية الأميركية، وقبلها موقع مستشار الأمن القومي في البيت الرئاسي الأبيض في واشنطن، شخصية جمعت بين فهم السياسة ودهاء التاريخ وقدرة التواصل وبراعة الإقناع، تجسدت هذه الصفات في هنري كيسنجر الذي تدارس أبعاد تلك المفارقة الساخرة التي دفعت أميركا إلى عدم اعتراف بالصين الشعبية: هنالك بدأت مطارحات الغزل السياسي بين الطرفين، وتمثلت البداية في تبادل فرق رياضة تنس الطاولة بين واشنطن وبكين.

أيامها أعلن الزعيم الصيني ماو قائلاً: لقد سمعنا طرقات تدق على باب سور الصين العظيم، فكان أن فتحنا الباب.

والمهم أن بدأت علاقات الطرفين مع انتصاف عقد السبعينات، ورغم التشجيع الأميركي، ورغم التهذيب الآسيوي التقليدي إلا أن علاقات الطرفين كانت وما زالت مرشحة - كما يؤكد مؤلفا هذا الكتاب - إلى اتسامها بحالة صراع، مكتوم أحياناً ومعلن في أحيان أخرى، خاصة في ضوء ما عكفت عليه الصين من إغراق الأسواق الأميركية بسيل لا ينقطع من السلع الاستهلاكية الرخيصة الثمن وبصورة لا تكاد تقبل المنافسة.

وقد نجحت بكين في هذا المسعى حين أجادت استغلال مزاياها النسبية ممثلة - كما هو معروف - في حجمها السكاني وحشود الأيدي العاملة، فضلاً عن رخص تكاليف الإنتاج وتواضع أجور العاملين.

ضخامة الإنفاق العسكري

بيد أن هذا التواضع لم يتكرر اتباعه في مجالات الإنفاق العسكري الصيني، ولا في جهود الصين الرامية إلى إضفاء تحسينات بغير انقطاع على تحديث قواتها العسكرية، على نحو ما يؤكده المؤلفان في الفصل الخامس من هذا الكتاب.

وبفضل هذه الجهود استطاعت الصين أن تؤكد دورها الفاعل المؤثر في يابسة جنوب الشرق الآسيوي من ناحية، وفي المياه الباسيفيكية – المحيط الهادئ الفاصل بينها وبين غربي الولايات المتحدة شخصياً من ناحية أخرى، فيما تحولت جهود الصين أيضاً صوب الإصغاء – كما نتصور – إلى صوت عصر العولمة وثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فكان أن عملت وما زالت تعمل، كما يوضح الكتاب، على تطوير إنجازاتها واستخداماتها في ميادين الطاقة النووية واستكشاف الفضاء الخارجي واستخدامات الثورة الإلكترونية.

في كل الأحوال، يرصد كتابنا تطورات هذه العلاقة بين أميركا والصين عبر الأربعين عاماً من عمر العلاقة المذكورة: وخاصة ما أصبح يصفه السياسيون والمسؤولون والإعلاميون الأميركيون بأنه توتر العلاقة على جانبي المحيط الهادئ.

ومن هؤلاء المسؤولين مَن يصل إلى حد التنبؤ بمستقبل تسوده قوانين الصراع بين الجانبين، وخاصة في ضوء ما ترصده تلك الأوساط من تنافس تصفه بأنه محتوم بين قوة ثابتة (أميركا) وقوة صاعدة (الصين).

وهذا الفريق من الباحثين وراسمي السياسات يصل به الأمر (في أميركا) إلى حد تنبيه القيادات الأميركية إلى ضرورة اتخاذ الاستعدادات تأهباً لمستقبل محفوف بالتوترات بين الدولتين الكبيرتين.

حالة الاعتماد المتبادل

من الناحية الأخرى يحرص الكتاب على التنبيه إلى الوجه المقابل لهذه العملة السياسية: هنا يتصور المؤلفان أن الطرفين قد وصلا إلى درجة تُوصف بأنها الاعتماد المتبادل من الناحية الاقتصادية بين واشنطن وبكين: الطرف الصيني يدفع إلى أميركا موجات عاتية ومتتابعة في أسواق الاستهلاك.

في حين أن الطرف الأميركي يقدم سلعاً سوبر- متقدمة وتحتاجها الصين، ولا سيما من منتوجات وأحياناً ابتكارات وادي السليكون في كاليفورنيا وهي إبداعات الحاسوب الإلكتروني وتكنولوجيا المعلومات بطبيعة الحال.

هذا الوجه الآخر من عملة علاقات الطرفين هو الذي يدفع مؤلفيْ الكتاب إلى تصور أن علاقات الصين- أميركا يمكن أن تتصف بالمزيد من روح التعاون وإمكانات الشراكة، ولو من باب توخي المصالح المشتركة على مدار عقود مقبلة من القرن الجاري.

مرة أخرى نلاحظ - كقارئين لفصول هذا الكتاب - أن هذه الفصول تتوخى – كما نتصور – جانب الحَذر المنهجي، أو التحوط العلمي، حين تتناول هذه الفصول مفردات سيناريو اشتداد التنافس بين الطرفين إلى حد الصراع المتمثل في سباق التسلح الذي يؤجج توتر العلاقة بينهما، وهو ما يدفع مؤلفيْ كتابنا إلى طرح مجموعة من المقترحات التي يتصوران جدواها، سواء بالنسبة لشعبي البلدين الأميركي والآسيوي، أو بالنسبة للسلام والاستقرار العالمي.

ومن هنا يأتي تركيز الكتاب ابتداء من عنوان الغلاف على عنصر الضمان بمعنى التطمين، فضلاً عن التشديد على ضرورة أن يظل هذا التطمين متبادلاً بين الطرفين وقابلاً للتحقق والتأكيد وخاصة في مجالات حيوية من قبيل الأسلحة النووية والقذائف الصاروخية وعمليات استكشاف الفضاء، إضافة إلى مواقع القواعد العسكرية سواء فوق البر الصيني أو في مياه المحيط الهادئ، إلى جانب أنماط توزيع القوات والمحاور العسكرية.

وهنا أيضاً تتوقف فصول الكتاب – وخاصة الفصل الثامن – عند علاقات أميركا مع أقطار مجاورة للصين في جنوب شرق آسيا – ومنها الفلبين على سبيل المثال، فضلاً عن علاقات واشنطن مع اليابان.

لكن الأساس في هذا كله هو العمل بكل أساليب السياسة والبحث العلمي والحراك الدبلوماسي على تخطي عقبة ما زالت قائمة حالياً، وهي:

• أن أميركا كما يؤكد هذا الكتاب ما زالت تستبد بها فكرة أنها تستحق مكانة الأولوية وخاصة في المجال العسكري.

• أن واشنطن ما زالت تنظر إلى الصين على أنها قوة صاعدة.

• أن الصين على الضفة الأخرى من هذه الظاهرة ما زالت، في تصور مؤلفيْ الكتاب، تصدر عن شعور بمركّب النقص، وهو ما يجعلها عازفة في أحيان كثيرة عن الاضطلاع بمسؤوليات أكبر وبما يتفق مع حقيقة نموها المتزايد.

والحاصل أنه لو استطاع المسؤولون في كل من أميركا والصين أن يصلوا بالبلدين إلى أوضاع مستجدة بل ومبتكرة، وفي إطارها تتنازل أميركا عن حكاية الكيان الاستثنائي الأوحد الذي لا يشق له غبار، فيما تتخلص الصين من عقدة النقص إياها.

ومن ثم يصل الطرفان إلى الشعور بحالة التكافؤ المطلوبة، على نحو ما كان عليه الحال أيام الوفاق الدولي بين واشنطن وموسكو خلال وقائع الحرب الباردة، في هذه الحالة يمكن - كما يتوقع الكتاب - أن يصل الطرفان إلى علاقات استراتيجية يسودها القدر المطلوب من التفاهم والتعايش في مستقبل الأيام.

تناقضات لن تحل قريباً

تستبد بساسة أميركا فكرة تبدو وكأنها استحوذت على عقول وأفئدة الكثيرين ما بين شاغل المنصب القيادي، وحتى الطامح إلى تولي المنصب المذكور، هذه الفكرة الثابتة تلخصها العبارة التالية: أميركا دولة استثنائية.

على أن المشكلة التي تومئ إليها طروحات هذا الكتاب تتمثل في أن هذه الاستثنائية التي تتمسك بها أميركا ويطمح إليها قادتها إنما تقابلها التصريحات المأثورة أخيراً عن الرئيس الصيني شي جنبنغ، وهي تصريحات تكاد تكون متوازية مع التصريحات الأميركية وفيها قال: نحن نسعى إلى تحقيق الانبعاث العظيم للأمة الصينية.

في هذا السياق يحيل مؤلفا الكتاب إلى ما يصفه المحللون بأنه دبلوماسية الحرب الباردة. وفي إطار هذا السلوك الدبلوماسي الذي نشأ ثم ازدهر منذ عقد السبعينات من القرن العشرين، بدأ الخصمان التقليديان أيامها وهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في اتباع سياسة تدابير بناء الثقة.

بدأت هذه التدابير مع اتباع سياسة الوفاق بين المعسكرين الشرقي بقيادة موسكو والغربي بزعامة واشنطن: كان ذلك خلال رئاسة ريتشارد نيكسون، وما لبثت أن تطورت خلال رئاسة رونالد ريغان إلى حيث جسدت سلوكيات الاعتراف بالخلافات العقائدية بين الطرفين مع تأكيد أن الأهم هو الحرص على استمرارية اتفاقات نزع السلاح لكل منهما، ولكن وفق النهج الذي اصطنع له ريغان نفسه عنواناً يقول بما يلي: ضع ثقتك ولكن تحقق من الأمر.

مبدأ الثقة المتبادلة

تمضي فصول هذا الكتاب كي تترجم المواريث الماضية من أيام الثلث الأخير من القرن العشرين إلى حيث يركز الكتاب على مستجدات عصرنا الراهن، وهو ما تعرض له الفصول الأخيرة من الكتاب بالصورة التالية: مطلوب أساساً اتباع مبدأ الثقة المتبادلة بين الطرفين الصيني والأميركي: وهو ما يكفل لهما أن يتعاونا على مواصلة مسيرة الاقتصاد المفتوح (في عصر العولمة) وعلى حشد الجهود العالمية من أجل مواجهة ظاهرة – آفة تغيّر المناخ والحفاظ على القواعد المتعارف عليها في إدارة النظام الدولي الراهن والجمع بين مبدأ التنافس المشروع وبين مبدأ التعايش السلمي.

المؤلف

البروفيسور جيمس برادلي شتاينبرغ يبلغ من العمر 63 سنة. ويتميز بين أقرانه من مفكري وأساتذة العلوم السياسية والسلوكية بأنه يجمع بين فكر الأستاذ الأكاديمي في أروقة البحث العلمي وأبهاء المؤسسات الجامعية والبحثية، وبين الخبرة العملية والممارسة الميدانية للعمل السياسي- الدبلوماسي.

وقد شارك المؤلف في إصدار كتاب مهم بعنوان «حماية الوطن الأميركي» مع زميله مايكل أوهانلون، الزميل الباحث الأقدم في مؤسسة بروكنغز الشهيرة.

تأليف: جيمس شتاينبرغ ومايكل أوهانلون

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: جامعة برنستون، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 272 صفحة

Email