أفريقيا.. قارة المستقبل

الشباب والطبيعة أهم وعود المستقبل في أفريقيا

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يرسم هذا الكتاب، صورة جديدة أو فريدة في بابها، للواقع الذي يسود القارة الأفريقية، ومعنى أنها مطروحة على خلاف التصور النمطي الذي ظل، ولعله لا يزال سائداً على مستوى العالم، بشأن أفريقيا، باعتبارها القارة السوداء أو الأصقاع الأدغال المظلمة التي ما زالت ترسف في أغلال التخلف والصراعات الداخلية الدموية...

إلى آخر تلك الأوضاع الموروثة عن عصور الحقبة الكولونيالية، التي شهدت أفريقيا وهي واقعة تحت نير الاستعمار الغربي والاستغلال الإمبريالي. إن الصورة المستجدة التي يرسمها هذا الكتاب، ترتبط بأفريقيا الراهنة، التي تجمع في حياتها ومسيرتها الراهنة بين الآمال والتحديات..

حيث تحفل القارة بوعود في مجال التنمية والتطور والاستثمار، بفضل مواردها الطبيعية من جهة، واحتوائها على أكبر عدد من أجيال الشباب القادر على العمل، بينما تتجسد التحديات التي ما زالت تواجه القارة في ارتفاع مستويات البطالة، وفي انخفاض مساهمة أفريقيا في الناتج العالمي، ثم في نقص الخدمات والافتقار إلى الهياكل الأساسية.

ورغم اعتراف الكتاب بكل هذه السلبيات، إلا أن المؤلفيْن.. يذهبان بحكم خبرتهما الميدانية المباشرة، إلى أن القارة العذراء، أمامها فسحة واعدة وملموسة من الأمل وبمعنى أن أفريقيا.. قادمة كما يقول عنوان الكتاب.

في عام 1922، أصدر الرائد الإعلامي الأميركي والتر ليبمان، كتابه الشهير بعنوان »الرأي العام«. ومن يومها، ظل الكتاب المذكور مرجعاً كلاسيكياً لكل من يهتم بعلوم الاتصال أو بفنون الإعلام، سواء كان ذلك من منظور الممارسة المهنية الاحترافية، أو كان من منطلق تخطيط السياسات وإدارة الشأن العام على اختلاف الدول والنظم والتوجهات السياسية.

كان المحور الأساسي لطروحات والتر ليبمان، هو أن الجماهير التي تستقبل الرسالة الإعلامية، سواء كانت موجهة من حروف الصحيفة، أو من مسموعات الراديو أو من صورة التليفزيون، إنما تتعامل مع محتويات هذه الرسالة، لا بمنطق التحليل أو التدقيق أو التخصيص، ولكن بمنطق التعميم والتنميط، وهو منطق الصورة المنطبعة، أو هي الصورة المقولبة أو الفكرة النمطية التي يطلق عليها المصطلح التالي: ستيريوتايب.

وإذا تحولنا من علم الاتصال إلى معطيات خارطة العالم الذي نعيش فيه، لوجدنا أن هذه الصورة المقولبة، النمطية، تنطبق على مواقع شتى من الخارطة المذكورة، ومنها بالذات قارة أفريقيا، التي ظل العالم يتعامل معها بمنطق التسليم بأوصاف مكررة، وتصورات نمطية بالدرجة الأولى، ومنها مثلاً، أفريقيا، القارة السوداء.. المظلمة.. شبه المجهولة.. العذراء.. بل، والمتخلفة في بعض الأحيان.

حكاية قلب الظلام

وبديهي أن مثل هذه الأوصاف، تصدر عن أحكام شديدة التعميم من جهة، وموغلة في الإحالة من جهة أخرى، إلى أوضاع عاشتها، وطالما كابدتها القارة الأفريقية في عهود زمنية انقضت، وخاصة خلال الحقبة الكولونيالية التي شهدت استعمار أراضي أفريقيا، واستغلال مواردها وتهميش شعوبها.

وهي الحقبة التي بلغت ذروتها في انعقاد مؤتمر برلين الشهير، بعنوان التسابق على (استعمار) أفريقيا في عام 1883، فيما جاء أبلغ تصوير لوقائع وآلام تلك الحقبة الاستعمارية، مجسداً في رواية شهيرة، أبدعها جوزيف كونراد، الكاتب الإنجليزي من أصل بولندي.

واختار لها عنوانها الموحي بكل مقياس، وهو في قلب الظلام. وقد نشرها كونراد في عام 1902، ليصوّر عبر فصولها ويلات الاستعمار البلجيكي لبلد مهم في غرب أفريقيا، اسمه الكونغو.

كل هذه الخلفية، تعرضت صفحاتها للدرس والتحليل في كتاب صدر أخيراً، ولكن من منظور مخالف تماماً لما درج عليه دارسو الحالة الأفريقية.. وبمعنى أن الأمر لم يعد يقبل التعامل مع أفريقيا من منظور الماضي، الذي شهد معاناة السيطرة أو الاستغلال الأجنبي..

ولا هو منظور الاستهانة، أو حتى الرثاء، إزاء أحوال قارة وأقطار وشعوب ما برحت ترسف في أغلال التخلف، أو تعثّر النمو أو انقطاع الأمل، نحن في هذه السطور بإزاء كتاب يحمل عنواناً مركباً يجمع في تصورنا كقارئين بين عنصرين، وهما، الأمل والتحدي، في آن معاً.

أما العنوان الرئيس لهذا الكتاب فهو، أفريقيا.. المقبلة (أو أفريقيا المستقبل). كما أن العنوان الفرعي، يمكن ترجمته على النحو التالي: قارة بازغة (ناشئة، ناهضة) لتصبح مركز قوة في العالم.

وبديهي أن كلاً من العنوان الرئيس أو الفرعي، يعكس نظرة أقرب إلى وعود التفاؤل بالقارة السمراء، وهي نظرة تصدر عن منهج التحليل العلمي والبحث والخبرة الميدانية، الذي اتّبعه مؤلفا هذا الكتاب، وهما الكاتب جيك برايت والكاتبة أودري روبي، وكلاهما من المثقفين الأميركيين المهتمين بالشأن الأفريقي، وخاصة من زاوية أنشطة الاقتصاد وآفاق الاستثمار.

وداعاً للصورة النمطية

ولعل أهم ما يميز الكتاب، هو تلك النغمة المفتاح، كما نسميها، متمثلة في حقيقة أن يحمل عنوانه لفظة (next)، التي تشير بالطبع إلى الزمن الآتي، أو إلى وعود المستقبل، التي ما زالت تنتظر القارة المذكورة.. شعوبها وشبابها ورهاناتها على ما تأتي به العقود الزمنية المقبلة لصالح تنمية القارة والنهوض بأسباب ومستويات الحياة بين ربوعها..

وبما يتفق مع تلك التطورات المذهلة، التي جاءت بها حقبة العولمة مع مطلع هذا القرن الواحد والعشرين.

وتلك، بالطبع، أوضاع وتصورات مخالفة على طول الخط، مع الصورة النمطية التي طالما سادت، بل وعششت في أفئدة شعوب وأفراد وقيادات في طول العالم وعرضه. فحينما يبادر أي من تلك الأطراف في تناول الشأن الأفريقي..

فإذا به وقد أحاطته لجّة من الهموم والتصورات ما بين فظائع الإبادة الجماعية (مذابح رواندا بوروندي مثلاً)، أو الصراعات والحروب الأهلية (الكونغو، السودان مثلاً)، أو الفصل والتمييز العنصري (جنوب أفريقيا سابقاً)، ناهيك عن تراجيديات التشريد والعنف المسلح والإرهاب الدموي، أو آفات الفقر وجائحة الإيدز أو فساد الحكم، واستغلال الموارد بعيداً عن مصالح أوسع قطاعات الجماهير.

والحاصل أن كتابنا يصدر ضمن سلسلة من الدراسات التي عمد كاتبوها إلى تحويل مسار النظرة المستهينة أو المتشائمة إلى أفريقيا، ومن هذه الدراسات المستجدة والمتفائلة أيضاً، دراسة الكاتب أتيش تاكارا، بعنوان لا يخطئ الفهم دلالته، وهو »الأسد يستيقظ، مغامرات في معجزة أفريقيا الاقتصادية« (2015). هنالك تتوقف هذه الدراسات عند مظاهر غير مسبوقة من صحوة الكائن الأفريقي..

ومنها مثلاً، موقع دراسة وإنتاج وتشغيل أحدث منتجات برامجيات الحاسوب الإلكتروني، حيث تتمثل مواقع موئل »السوفت وير« الأفريقي، في مكان يحمل اسم سيليكون السافانا، تيمناً باسم نظيره في الهند.

وادي ينغالور، أو حتى باسم النظير الرائد، سيليكون كاليفورنيا.. وهناك أيضاً ظاهرة التجدد، بل والنهوض، التي استجدت أخيراً على صناعة السينما في قلب أفريقيا، وتتخذ موقعها في هوليوود، أفريقيا التي ترفع اسم نوليوود في نيجيريا، وبحجم استثمارات يقدرها كتابنا بأكثر من 3.3 مليارات دولار، ويصفها بأنها صناعة تنتفض بالحيوية البالغة والنشاط المتواصل.

التحديات تفرض حضورها

يعترف مؤلف كتابنا، أن القارة ما زال أمامها العديد من التحديات التي يتعين التصدي لها، ومن ثم تجاوزها. وهنا أيضاً، تنقل فصول الكتاب شعاراً محورياً، يردده مسؤولو الحكم ومخططو التنمية في أفريقيا. والشعار يقول بما يلي: إنها مشكلة الأقل من 3 في المئة.

وهم يقصدون أن أفريقيا ما زالت تسهم في الناتج العالمي، أو في مضمار النشاط التقدم أو النمو الدولي، بنسبة تقل عن 3 في المئة، بينما يشكل سكان أفريقيا نسبة 15 في المئة من سكان العالم. وتلك مفارقة لا تخفى عن أي تحليل موضوعي لأحوال القارة.

ثم يبادر الكتاب إلى ترجمة حكاية النسبة الضئيلة إياها، موضحاً ما يلي:

أفريقيا لا تزال تشكل نسبة 3 في المئة من دقات زيارات موقع غوغل العولمي، وأقل من 3 في المئة من نشاط التجارة العالمية، وأقل من 3 في المئة من اشتراكات الهواتف المحمولة، وأقل من 3 في المئة من حيازة أنشطة الأوراق المالية المملوكة للقطاع الخاص على مستوى العالم بأسره.

ثم هناك تحديات المرافق، الهياكل والبنى الأساسية، صحيح أن أفريقيا قادمة، واعدة أو مبشرة، كما يقول عنوان هذا الكتاب، لكن الصحيح في الوقت نفسه، أنها ما زالت تعاني ثغرات في مرافقها الأساسية، وهو ما يمكن أن تجّسده الحقيقة التالية، 32 في المئة فقط من سكان أفريقيا السمراء جنوبي الصحراء الكبرى، هم الذين يتمتعون بإمدادات منتظمة من طاقة الكهرباء، ونسبة الربع فقط من السكان، هم الذين لديهم حساب مصرفي، بل إن بلداً محورياً، مثل نيجيريا، لا يزال بعيداً عن امتلاك شبكة من الطرق الحديثة، حيث لا يضم من نوعية هذه الطرق سوى نسبة 15 في المئة، بالمقارنة مع بلد آسيوي اسمه الهند.

وربما كان خطر التحديات في هذا المضمار، ما تسجله الفصول الأخيرة من هذا الكتاب، بشأن معدلات البطالة المتزايدة بين صفوف شبابها القادر على العمل، وهو ما يهدد في رأي المؤلفيْن، بخطر زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي على السواء. ثم هناك الخطر الأفدح، الذي يهدد ما تحققه أفريقيا من تقدم اقتصادي..

وهو ما يتمثل بدوره في عجز المؤسسات الحاكمة في كثير من أقطارها عن تحويل مسارات ما يتحقق موضوعياً من إنجازات النمو، ومن استثمار الإمكانات الطبيعية للقارة العذراء، وبحيث يؤدي إلى تحقيق قدر من العدالة، أو حتى التوازن، في توزيع هذه الثمار الإنمائية على مختلف فئات المجتمع الأفريقي، دون أن يقتصر الأمر على ما يصفه الكتاب بأنه نخبة محدودة العدد.

في كل الأحوال، يذهب الدارسون والمحللون للشأن الأفريقي، إلى الاتفاق مع ما بشّر به هذا الكتاب من صورة ربما تكون متفائلة واعدة بالنسبة لأفريقيا الآتية، وهنا، يتفق المحلل الاقتصادي وخبير البنك الدولي، إيان سولومون، مع الطروحات التي جاء بها مؤلفا الكتاب.

لكنه يخلُص في نقد الكتاب، إلى حيث يصف أفريقيا بأنها قارة تتنوع على صعيدها التحديات الصعبة، بقدر تنوع الفرص الواعدة والمتاحة، وبقدر تنوع الشعوب التي لا تزال ترى في أفريقيا وطناً تعيش بين جنباته.

 

مزايا التحول الديمقراطي الأفريقي

يعترف المؤلفان بأن أهم عامل مستّجد على القارة، بالنسبة لنشاط الأعمال والتجارة والاستثمارات الوافدة، كان يتمثل في ما طرأ على نظم الحكم وأساليب ومنظومات الإدارة في البلدان الأفريقية، من تجديد، متمثل في الأخذ بمزيد من الديمقراطية، وفي عقد الانتخابات، وتفعيل مبادئ التعددية، وترشيد أساليب الحوكمة (الحكم الرشيد)، ثم تحسين أوضاع الشفافية، وخاصة ما يتعلق بإدارة الميزانيات القومية، من حيث مواردها ومصارفها على السواء.

في هذا السياق أيضاً، يتوقف مؤلفا الكتاب عند عدد من المزايا التي يتصوران أن أفريقيا تتمتع بها، ومن منظور المقارنة مع دول وشعوب أخرى في الشرق والغرب، ومن أهم هذه المزايا التي يعرض لها الكتاب، ما يلي، باختصار شديد، المزية الديموغرافية..

وتتمثل في أن أفريقيا تعد أسرع قارات العالم من حيث زيادة السكان، وأنها أكبر بقاع الكرة الأرضية من حيث احتوائها على أجيال الشباب، وهي أسرعها أيضاً في مضمار التحول الحضري، بمعنى تحّول أساليب الحياة والمعيشة ومواقع الاستقرار والإنتاج، من الأدغال والبوادي والأحراش، إلى العواصم والمدن والضواحي..

وما في حكمها من المواقع الحضرية، التي تفسح السبيل أمام المزيد من المدارس العصرية، ومعاهد البحوث المتقدمة، ومراكز الامتياز، ومواقع الإبداع، وكلها تتشارك في ما يمكن وصفه بأنه صناعة المستقبل.

ويتوقف المؤلفان ملياً عند مستجدات تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وخاصة من حيث تفعيل أساليبها، واستثمار مبتكراتها، من أجل إدارة وتحديث الأنشطة الاقتصادية في العديد من بلدان أفريقيا، وهنا، يسوق الكتاب نموذجاً حياً من كينيا. ويحمل هذا النموذج اسماً بات معروفاً في أنحاء أفريقيا وهو، إم- بيسا (M-Pesa). وهو شبكة خطوط للهاتف المحمول في كينيا، وقد باتت مسؤولة عن إدارة وتنفيذ المعاملات والصفقات التي تتم على صعيد البلد الأفريقي المذكور أعلاه..

وفي حدود تجاوزت نسبة الثلث من مجموع الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما أصبح يتيح للملايين من مواطني كينيا، أسلوباً بديلاً ومبسطاً ومريحاً لإدارة حسابات البنوك أو لبطاقات الائتمان. وثمة شبكات وأساليب مماثلة من استخدامات أحدث تكنولوجيات الاتصالات، باتت منتشرة في أقطار أفريقية أخرى..

ومنها مثلاً، نظام جوميا، الذي ذاعت خدماته في أرياف نيجيريا، ليتيح لسكانها إمكانية السداد عند تسلّم السلع التي يحتاجونها، وهم قابعون في مساكنهم لا يبرحونها. ليس معنى هذا أن أفريقيا قد أحرزت ما لا يزال سكانها ينشدونه من أهداف، وما يتوخون بلوغه من غايات.

خبرة ميدانية في الاستثمار

يتميز مؤلفا كتابنا، بأن كلاً منهما أمضى سنوات طويلة من العمر المهني، لا بين أضابير الدراسات النظرية، ولكن في ساحات أسواق الاستثمار في بقاع شتى من أصقاع القارة الأفريقية، وخاصة على مستوى القطاع الخاص.

صحيح أنهما يعترفان عبر فصول الكتاب، بأن الأمر لا يزال يستوجب توازناً مرهفاً، لا بد من التوصل إليه بين التفاؤل المفرط بالنسبة لمستقبل القارة العذراء، وبين موجة التشاؤم الشديد، الذي يفضي بداهة إلى حالة من القنوط والإحباط. هنا، تتابع مقولات الكتاب، جهود دوائر التجارة والأعمال في الغرب، وقد بدأت تأخذ أفريقيا على محمل الجد، كما يقول المؤلفان، على مدار سنوات العقد الماضي بالذات.

المؤلف

جيك برايت بدأ حياته المهنية كاتباً ومؤلفاً، يحصد العديد من الجوائز وشهادات التقدير، إلى جانب عمله مستشاراً في المجال الاستراتيجي لمدينة نيويورك. على أنه لا يزال ينشر دراساته وتحليلاته بشأن الواقع الأفريقي.

أما زميلته أودري روبي، فتعمل في وظيفة مستشار لدى شركات الاستثمار التي تمارس أنشطتها في القارة الأفريقية، بعد أن أمضت نحو 10 سنوات للعمل في هذا الميدان على صعيد أكثر من 20 بلداً افريقيا.

تأليف: جيك برايت وأوبري روبي

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة توماس دون، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 304 صفحة

 

 

Email