الصين واليابان.. ظاهرة الصديق اللدود

طوكيو وبكين.. تاريخ من الجوار والمصالح والتوتر

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل الميزة الرئيسية التي يتفرد بها هذا الكتاب تتمثل في أن مؤلفته، وهي أستاذة باحثة واختصاصية في الشأن الياباني أساساً، اختارت أن تركّز كتابها للحديث عن اثنين من أهم الأقطاب في قارة آسيا.

وهو ما تتحول معه بوصلة التركيز حالياً في الدراسات السياسية على الأوضاع والعلاقات في الولايات المتحدة أو في غرب أوروبا وأحياناً شرقها، الروسي على وجه الخصوص، فضلاً عن أحوال الشرق الأوسط وأفريقيا التي مازالت متأثرة، بل متضررة، من جراء جائحة الإرهاب الدموي بكل غوائله الفادحة.

هكذا تحولت مقولات وفصول هذا الكتاب إلى علاقات الصين واليابان، ومن منظور التفاعل، إلى حد التداخل، بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية في كل من البلدين الكبيرين في أقصى شرق آسيا، فضلاً عن الخلفيات التاريخية التي تصدر عنها كل من بكين وطوكيو، وخاصة مع النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهدت أواخره ظاهرة الصعود المشهود للصين..

فيما شهدت الفترة القريبة الماضية اشتداد التوتر بين الطرفين ولاسيما بعد إقدام الصين على إنشاء جزر مصطنعة مزروعة في مياه المحيط الهادي، وهو ما لاتزال اليابان تعتبره من الأمور الماسّة بأمنها القومي، فضلاً عن أثر هذه الخطوات على مشاهد وتحولات السياسة الداخلية في اليابان.

أصبح بديهياً ذلك التصور الذي يذهب إلى أن السياسة الخارجية لدولة ما، هي انعكاس للسياسة الداخلية. بيد أن مدارس العلوم السياسية في الولايات المتحدة، بدأت أخيراً في طرح تصور مقابل يذهب بدوره إلى أن السياسة الداخلية تعد كذلك انعكاساً وتعبيراً عن السياسة الخارجية للدولة الحديثة المعاصرة.

وأياً كان الحال، فالحاصل هو أن الخارج والداخل أصبحا في زماننا الراهن يتداخلان ويتكاملان بحيث لم يعد ممكناً ولا عملياً إمكانية الفصل القاطع بينهما.

ما بالنا إذن عندما تصدق هذه الأفكار والتصورات بشأن سياسة الداخل والخارج على حالة من الجوار الجغرافي تجسدها أوضاع الجيرة المتاخمة بين اثنين من أهم أقطار القارة الآسيوية وهما الصين واليابان.

ثم إن هذا الجوار المتقارب من حيث الموقع الجغرافي يتسم بدوره بصفات يراها المراقبون السياسيون فريدة في بابها. لماذا؟

أولاً، لأنه جوار يتجسد ويتفاعل في منطقة نائية من مناطق الكرة الأرضية، تخوم ومياه الشرق الأقصى عند الطرف الأخير من قارة آسيا.

ثانياً، إن كلاً من القطر الصيني والقطر الياباني يتشاركان في الإطلالة على السواحل الغربية لهذه الأصقاع الباسيفيكية، حيث تواجهها أراضي السواحل الغربية للقارة الأميركية التي تضم كما هو معروف أقطاراً ثلاثة هي أميركا وكندا والصين.

ثالثاً، إن هذه العزلة النسبية التي عاشتها كل من الصين واليابان في إطار الشرق الأقصى أكسبت كلاً من البلدين الكبيرين سمات متميزة إلى حد فريد، سواء من حيث النشاط البشري أو التطور التاريخي أو الهمة القومية، بل وصلت هذه السمات المشتركة أو شبه المشتركة إلى حد التشابه إلى حد لا يُنكر في ملامح الوجوه.

رابعاً، إن تاريخ الشعبين في الصين واليابان يعكس قدراً من التماثل على محور أساسي تجسده نزعة النشاط الجمّ، والنزوع الحيوي إلى التحول بفضل هذا النشاط الدؤوب من أوضاع معيشية أكثر من متواضعة إلى أحوال أرفع شأناً ولدرجة تصبح معها حديث العالم وإعجاب سائر القادة والشعوب.

جـدل الجـوار

كل هذه العوامل هي التي أسهمت في الظاهرة التي يمكن أن يطلق عليها منهج التحليل السياسي مصطلحاً يقول بما يلي: جدل الجوار.

بمعنى أن حقيقة هذا الجوار الجغرافي يمكن أن تخلق مشتركات إيجابية تتمثل في حالات التفاهم أو التقارب أو التعاون أو التشارك، فيما يمكن أن تخلق بحكم طبائع الأشياء- حالات من التنافس والتوتر والتناوش لدرجة تصل إلى سخونة الخصومة بل والعداء في بعض الأحيان.

وهذا هو بالضبط ما قصدت إليه الباحثة الأميركية، الاختصاصية في الشأن الياباني، الدكتورة شيلا سميث في كتابها الصادر أخيرا ليحمل عنواناً تتمثل دقته وبلاغته في حكاية جدل الجوار التي أسلفنا الحديث عنها. والعنوان هو: الخصوم الحميميون أو الأصدقاء الألّداء. وهي تسمية قد تراها ترجمة للمعاني التي ذهب إليها أهل الفن الروائي، حين أطلقوا على بعض إبداعاتهم وصف الإخوة الأعداء.

حروب الأفيون

والحاصل أن بدأ كل من هذين الأخويْن، في بكين وطوكيو، إطلالته على عالمنا الحديث في القرن العشرين من مسار شديد التباين والاختلاف استهلت الصين أيام القرن الماضي وهي واقعة تحت نفوذ قوى أجنبية جاءت من أوروبا إلى ساحات الشرق الأقصى على مدار الحقبة الاستعمارية، وكان في مقدمة هذه القوى الإمبريالية كل من بريطانيا وفرنسا.

ويكفي أن تعمل انجلترا الاستعمارية على توريط الصين خلال سنوات القرن التاسع عشر في ما أصبح يعرف باسم حرب الأفيون التي شهدتها بالذات الفترة 1839-1860 ..

وفيها كان الانجليز يحصلون على الفضة من مناجم صين تلك الأيام، مقابل إغراق السوق والمجتمع الصيني بمخدر الأفيون، فيما ظل سكان البلد الآسيوي متورطين في شراك هذه المادة اللعينة إلى أن نهضت حركة الكومنتانغ بقيادة الزعيم الوطني صن بات صن (1866، 1925). الذي يعده المؤرخون مؤسس جمهورية الصين الأولي في مستهل القرن العشرين.

ثم كان على الصين أن تنتظر حتى عام 1935 حين قاد زعيمها التاريخي ماوتسي تونغ (1893، 1976) مسيرة الحزب الشيوعي الصيني عبر التخوم الصينية وصولا إلى العاصمة بكين، وبعدها يعلن ماو ورفاقه جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، وهي قائمة حتى الآن بعد تغييرات وتعديلات وإصلاحات كثيرة بطبيعة الحال.

عندما نهضت اليابان

أما الغريم الياباني، الحميم كما تسميه مؤلفة الكتاب، فقد أنجز تحولاته خلال حكم الميجي في الفترة 1868، 1912. وكانت بدورها تحولات مشهودة لأنها وضعت البلد الآسيوي البعيد على أرضية النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهي الحقبة التي شهدت، كما معروف، تتابع ظهور المخترعات التي قامت على أساسها بنية عالم القرن العشرين الحديث.

يومها قررت اليابان أن تنهض، فنهضت وتحولت مع فواتح القرن العشرين إلى قوة عسكرية وحضارية لابد وأن يحسب حسابها، ولدرجة أن تسامع بها العالم في سنة 1905 حين خاضت حربها مع الإمبراطورية الروسية وانتهت الحرب بانتصار قوات اليابان على جيوش القيصر الروسي.

وقد أدت هذه التطورات، بنظر المؤرخين إلى زعزعة حكم آل رومانوف في بطرسبورغ، وهيأ لانتصار الثورة البلشفية بقيادة لينين في عام 1917. ومع السنوات اللاحقة عاودت اليابان دروسها المشهودة في المجال العسكري فكان أن لقنت أميركا، درسها المرير حين حطمت البحرية اليابانية الأسطول الأميركي بأكمله إذ كان راسياً في ميناء بيرل هاربور وكان ذلك بالتحديد يوم 7 ديسمبر من عام 1941.

والمعنى أن عاود العملاقان الآسيويان مواجهة أصعب اللحظات وخرجا منها رغم الجراحات والمشاق ليفرض كل منهما نفسه على عالم النصف الثاني من القرن العشرين، الصين عانت سيطرة الخصم الياباني من جهة وتحكّم نظام الجنرال كاي تشيك التابع لأميركا من جهة أخرى.

ولكن بعد إعلان دولة الصين الشعبية بدأت بكين تطلّ على عالم الخمسينات، دولة فتية تتطلع إلى دور جديد واعد على الساحة الدولية.

اليابان انضمت خلال الأربعينات إلى هتلر وموسوليني في إطار تحالف المحور ضد الحلفاء في أوروبا وأميركا، وبعد انكسار المحور في عام 1945، حاقت باليابان اللعنة الذرية الرهيبة حين أقدمت أميركا على تفجير اثنتين من تلك القنابل الماحقة في كل من هيروشيما ونغازاكي في أغسطس من عام 1945.

صحيح أن أعلنت سلطات طوكيو استسلام اليابان إيذاناً بانتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن الأصح أن عكف المارد الياباني على نفسه وعلى شعبه وموارده.

وما أن انقضت عقود قليلة حتى انتفضت اليابان فأطلّت على عالم الخمسينات والستينات وما بعدهما قوة عفية في مجالات التعليم والتصنيع والتصدير ولدرجة استطاعت منتوجاتها الإلكترونية بالذات أن تغزو أسواق المستهلكين في العالم قاطبة بما في ذلك أوروبا وأميركا على السواء.

من ناحيتها لم تكّذب الصين خبراً، كما يقول المثل الشائع، صحيح أنها عاشت تحولات جذرية بين السلب والإيجاب، إلا أنها خرجت من تجاربها الصعبة ليضعها زعيمها الثاني دنغ هيساو بنغ على طريق الانفتاح على العالم.

وما لبثت الصين أن أمضت عقد التسعينات عاكفة على تطوير صناعاتها وترقية مهارات عمّالها واستيعاب الدروس المستفادة من تقدم من سبقوها إلى أن حلت سنوات القرن الحالي فإذا بالسلع الصينية تغزو الأسواق، كل الأسواق في العالم، وإذا بالمستهلك الأميركي يتعامل مع منتوجات الصين بروح الاهتمام والإقبال، وإذا بالصين تصبح دائنة لأميركا نفسها في ميزان الصادرات والواردات.

المحيط وأمن اليابان

تشير مؤلفة الكتاب إلى أن خطورة حالة التوتر بين الصين واليابان لا ترجع فقط إلى ملابسات الزمن الراهن، ولكن إلى حقيقة أن لها جذوراً كانت ممتدة في تربة العلاقات الماضية بين القطبين الآسيويين، خاصة وأن من تصرفات الصين في مياه المحيط الهادي ما يمكن اعتباره ماساً بمقتضيات وأعراف الأمن القومي عند الجار الياباني.

ثم تتوقف المؤلفة ملياً عند هذا الملمح، عندما ترصد ردود أفعال الساسة في طوكيو إزاء ما تصفه الدكتورة سميث بأنه الصعود المطرد للصين على كل من الصعيد الإقليمي والدولي.

وبالنسبة لآفاق المستقبل، تتصور المؤلفة أن راسم السياسة و/ أو صانع القرار في اليابان بات يقلقه، بل ويزعجه، ارتباط الصين حاليا بمعاني وآفاق الصعود على نحو ما أصبحت تردده الأدبيات السياسية والإعلامية في أنحاء شتى من عالمنا، فيما تواجه اليابان أحياناً بمواقف وتصورات تخيم عليها ظلال تشير إلى نوع من التراجع أو الانحسار أو الهبوط، خاصة في ضوء ما تعانيه طوكيو حاليا من تراجع الثقة فيما حازته من نفوذ ..

وما حققته من إنجازات منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على نحو ما أسلفنا الحديث عنه في سطور سبقت، والمهم أن هذا التراجع أو تباطؤ المسيرة أصبح يؤثر بالسلب على النهج الياباني المتبّع في مجالات شتى لايزال في مقدمتها مجال الدبلوماسية ومجال الأمن على السواء.

ثم ان صعود الصين لم يعد أثره مقصوراً على جارتها اليابان فقط، بل أصبح هذا التأثير واضحاً وملموساً بكل مقياس سواء في أنحاء القارة الآسيوية أو في مواقع شتى من خارطة النفوذ والعمل السياسي والعلاقات الدولية في شرق العالم وفي غربه على السواء.

دلالة صفقة البط الصيني

تتوقف مؤلفة الكتاب عند المنعطف الذي شهد بروز الصين كقوة اقتصادية يحسب لها كل حساب، ومن منظور تأثير هذه القوة على اليابان نفسها ترى أن الرأي العام في اليابان هو الذي يأخذ على عاتقه متابعة الشأن الصيني، وخاصة من حيث خطوات التقدم الصناعي والتكنولوجي الذي حققته بكين..

وفي ضوء هذا الملمح تذهب الدكتورة سميث إلى أن التأثير الصيني بات من العوامل الأساسية المؤثرة حاليا على مجريات السياسة الداخلية في اليابان، بقدر ما أن مسارات السياسة في اليابان أصبحت بدورها مؤثرة على تطورات السياسة الداخلية في الصين.

وفي هذا السياق، وبحكم متابعة مؤلفتنا لوقائع الحياة اليومية في اليابان، فقد أفردت صفحات عديدة من كتابنا للحديث عن مدى تأثير أصناف الطعام المستورَدة من الصين على نمط حياة وذوق واهتمامات المواطن الياباني العادي. وإن كانت موضوعية البحث العلمي قد فرضت عليها أن تعرض لما وصفته في الكتاب بأنه حالة اللاأمن الغذائي التي شهدها عام 2008 بسبب شحنات البط الصيني المسموم (بفعل المبيدات الحشرية)..

وكانت واردة من الصين وتسببت في تسمم أكثر من 80 مواطناً يابانياً، فيما لقي المُصّدر الصيني حكماً بالسجن مدى الحياة. وفيما تتجاوز طوكيو حادثة الطيور المسمومة بكل ما أثارته من مشكلات على الصعيد الداخلي في اليابان، إلا أن المشكلة الأخطر والأوسع نطاقاً لاتزال مطروحة وهي تواصل تسميم العلاقات بين الجارين في طوكيو وبكين.

تتحدث المؤلفة عن حالة التوتر التي سادت، ولاتزال تسود، المشهد السياسي في اليابان من جراء إقدام الجار الصيني على إنشاء جزر من صنع الإنسان الصيني، طبعاً، قام باستنباتها أو فرضها في مياه المحيط الهادي عند الحدود الشرقية لبحر الصين الجنوبي والمطل على مياه الباسيفيك.

في هذا السياق توضح فصول الكتاب أيضاً كيف أن الساسة اليابانيين أصبحوا يرزحون بشكل أو بآخر تحت ضغوط متتابعة من جانب الشارع الياباني الذي يطالب باتخاذ مواقف أكثر حزماً تجاه الجار الصيني الذي يوالي تصنيع الجزر ويمعن الصعود في مضمار المنافسة في مجالات شتى ما بين تطوير التصنيع إلى إبداع الفن السينمائي إلى تنظيم دورات الألعاب الرياضية الكوكبية (يتوقف الكتاب ملياً عند نجاح الصين في تنظيم أولمبياد الألعاب الرياضية من جهة وفي احتضان مؤتمر دولي محوري بكل مقياس كان معنياً بالمرأة وحقوقها من جهة أخرى).

مصفوفة من العوامل الاجتماعية

توضّح المؤلفة أن تفاعلات طوكيو وبكين في الوقت الراهن باتت تمضي بأشواط أبعد بكثير من مجرد التفاوض بين الدبلوماسيين اليابانيين ونظرائهم الصينيين، إذ إنها تصل إلى حيث تشمل ما تسميه المؤلفة بأنه مصفوفة من العوامل الاجتماعية، بمعنى العوامل التي أصبحت تؤثر على الشارع الياباني والمواطن العادي في اليابان، وهو ما يؤثر بعمق على مجريات ومآلات العلاقات الصينية اليابانية، ولكن لصالح الصين في أحيان كثيرة.

المؤلفة

شيلا أ. سميث خبيرة في الشأن الياباني واختصاصية في مجريات السياسة الخارجية لليابان. وهي تعمل لدى مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن.

وتجلّت اهتماماتها العميقة بالشأن الياباني في نوعية البحوث والدراسات التي قامت بنشرها، وفي مقدمتها كتابها الصادر في 2014 بعنوان: سياسة اليابان الجديدة. وهي تركز جهودها البحثية على رصد مسارات التغيير الجيواستراتيجي في قارة آسيا من منظور تشكيل الخيارات الاستراتيجية لليابان.

تأليف: شيلا أ. سميث

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: جامعة كولومبيا، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 384 صفحة

Email