خرافة اسمها القرية الكوكبية

نظرية القرية الكوكبية تتعرض للتحدي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تتجلى ميزة هذا الكتاب في أنه يكاد ينفرد باجتهاد تحليلي، فكري، وكأن مؤلفه يسبح ضد تيار سائد وعارم بكل معنى الكلمة، من حيث التأكيد على أن من أهم مزايا عصرنا الراهن ما يتمثل في تحوّل العالم إلى »قرية عالمية، كوكبية، غلوبالية« إذا جاز التعبير.

وكان من البديهي أن يسلّم هذا الكتاب بتلك المقولة التي سبق وأن ذهب إليها واحد من رواد علوم الإعلام وبحوث الاتصال الجماهيري، وهو المفكر الكندي مارشال ماكلوهان، حين صاغها في عبارة القرية العالمية أو الكوكبية، وكان ذلك في مطلع عقد الستينات من القرن الماضي، في ضوء ما استطاع مجتمع تلك الفترة أن يحققه.

من ناحية أخرى فالكتاب يحاول أن يفنّد مقولة تلك القرية الكوكبية، حيث يعرض لخطورتها من ناحية إمكانية أن تتحول المسافات الفاصلة بين أحياء القرية المذكورة ودروبها إلى سبل تيّسر وصول الخصم إلى الهدف، بعد أن كانت تحول بينه مسافات المحيط واليابسة، وهو ما أصاب دوائر السياسة الخارجية في الغرب بهواجس القلق وشعور اللا أمن بغير انقطاع.

في التاريخ القريب لكوكبنا، ثمة معالم بارزة جاءت أقرب إلى التحولات الأساسية في مسار حياة البشر على سطح كوكب الأرض، ومازالت تخلّف آثارها على حياة البشر وعلى أفكارهم وتوجهاتهم وسلوكياتهم إلى حد ليس بالقليل. وفي مقدمة هذه التحولات، ما يحمل عنواناً خطيراً تعبّر عنه كلمة واحدة: »ســــبوتنيك«. وهي كلمة تسامع بها العالم منذ السابعة والنصف تماماً من مساء الرابع من أكتوبر عام 1957.

كان سبوتنيك هو أول تابع ( قمر) اصطناعي في تاريخ محاولة استكشاف الفضاء الخارجي، وكان إنجازاً روسياً، سوفييتياً إن شئت الدقة منذ ذلك التاريخ الذي يكاد يستوفي فترة الستين عاماً.

جاء سبوتنيك في ذروة الحرب الباردة أقرب إلى قفاز التحدي، وهو ما تلقفه الرئيس الأميركي جون كينيدي الذي ظل يتجرع غصّة التفوق السوفييتي إلى أن جاء موعد تاريخي آخر هو يوم الخامس والعشرين من مايو عام 1961 الذي استمع فيه الأميركيون والعالم وقتها إلى ما لايزال يُعرف في حوليات السياسة الأميركية تحت العنوان التالي: خطاب القمر.

وهو الخطاب الذي ألقاه جون كينيدي في جامعة رايس وأعلن فيه العبارة التالية: نحن نختار الذهاب إلى.. القمر.

وبرغم أن الرئيس الأميركي لم يعش كي يشهد تحقيق هذا الطموح العلمي، التكنولوجي، إلا أن أميركا استطاعت ارتياد القمر عندما تمكنت من إنزال الرائد الفضائي لويس أرمسترونغ على سطح القمر يوم 20 يوليو من عام 1969.

هكذا اختتمت سنوات الستينات بنزول أول إنسان فوق سطح القمر، فيما بدأت سنوات العقد الستيني المذكور برحلة أول إنسان في أجواز الفضاء الخارجي وهو الرائد الروسي يوري جاجارين الذي حلق بدوره في الفضاء بتاريخ 12 إبريل من عام 1961.

التكنولوجيا والمسافات

تبدأ الطروحات الأولى من كتابنا بمحاولة تحليلية يبذلها المؤلف وتلخصها تساؤلات من قبيل: هل أصبحت التكنولوجيا قادرة على إلغاء المسافات؟

هل صحيح ذلك الافتراض السائد بأن المسافات تقلصت وانكمشت على مستوى الكرة الأرضية بفضل ما نجم عن ظاهرة العولمة من تغيرات مشهودة في مجالات الإعلام والمعلومات ومجالات النقل والاتصالات؟

نلاحظ في هذا الصدد كيف يحيل مؤلف الكتاب إلى مرجعية أساسية في مجال الفكر الاستراتيجي، وحين يستند البروفيسور الإنجليزي بورتر إلى مفكر الاستراتيجية الألماني الأشهر كارل فون كلاوزفيتز (1780، 1831) في تعريفه لقوانين الصراع. وفي هذا السياق أكد المفكر الألماني على أن عمليات النقل والاتصال تتم بمجرد ممارستها أو اختيارها سبيلاً لإدارة النزاعات، ولكن تحكمها عوامل الكفاءة والاحترافية وتوافر الموارد وأنماط التفاعل سلباً وإيجاباً بين الأطراف ذات الصلة.

ولتبسيط هذه المقولات يرى مؤلفنا أن المحيطات، على سبيل المثال، يمكن النظر إليها على أنها ممرات رحبة واسعة للنقل والمواصلات، بقدر ما يمكن أن تعد، في أحوال مغايرة، حواجز تحول دون أنشطة النقل أو عمليات الاتصال.

وبمعنى آخر فإن القرية العالمية، الكوكبية يمكن أن تضم بداهة مسطحات محيطية منبسطة وشاسعة مما يجعلها في أوقات السلم أو الاستقرار أنجع الطرق وأفضل المسارات لنقل السلع والبشر عبر المسافات الطويلة. ولكن هذه المحيطات نفسها في وقت اندلاع الحروب وفي غمار الصراعات العنيفة بين سكان القرية المذكورة نفسها لا تلبث أن تتحول إلى حيث تشكل حواجز وموانع لا يمكن اجتيازها أو اختراقها إلا مقابل جهود مضنية وتكاليف باهظة ومغارم فادحة من حيث خسائر الأرواح والأموال والمعدات.

ثم يواصل الكتاب مرافعته ضد حكاية القرية الكوكبية، حين يذهب إلى أنه قد يكون من السابق لأوانه تصوّر أن المسافات الكوكبية فوق مسطحات الماء أو مساحات اليابسة سوف تخضع للاختصار أو الانكماش أو حتى للزوال بفضل تكنولوجيات الاتصال الحديثة بكل ما تضمه من وسائل التوجيه والضبط، فضلاً عن كائنات الذكاء الاصطناعي، الروبوت وأجهزة الاستطلاع الحديثة بكل دقتها غير المسبوقة، كل هذه المستجدات يمكن بالفعل أن تختصر المسافات الفاصلة بين أحياء القرية المذكورة أعلاه، ولكنها يمكن أيضاً، كما يتصور مؤلف الكتاب، أن تُستخدم في إيجاد حواجز لا سبيل إلى اختراقها، فضلاً عن احتمال استخدامها واستغلال دقتها وانضباطها في استباق وممارسة القوة العسكرية، خاصة وأن عناصر العولمة في زماننا الراهن لم تعد مقصورة على نظم أو عواصم أو أقطار بعينها، ولكن أصبح استخدامها متاحاً لقوى عالمية متعددة في شرق أو غرب كوكب الأرض.

نقد أطروحات ماكلوهان

هنا أيضاً يتحول المؤلف من نقد مقولة مارشال ماكلوهان التي ألمحنا إليها، إلى تحليل وانتقاد السياسة الأمنية التي تتبعها الولايات المتحدة حالياً من حيث استناد هذه السياسة إلى منظور يحمل الوصف التالي: عالم منكمش.

على أن مؤلف الكتاب يرى أن السياسة الخارجية الأميركية لا تتورع عن شن الهجوم على هذا الموقع البعيد أو ذلك الموضع النائي من خارطة العالم المنكمش كما أسلفنا، وعلى أساس أن هذا هو السبيل الذي يراه مخططو السياسة الأميركية المذكورة عاملاً حيوياً للحفاظ على أمنهم القومي ولدرء الخطر المقبل من جانب دول فاشلة هنا أو هناك.

لكن داهمهم حادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وتتمثل العبرة من الدرس المذكور في أن العالم الخاضع لظاهرة العولمة أتاح للفوضى الحاصلة في دول فاشلة أن ترحل أو تنتقل في يسر وسهولة إلى قلب أميركا ذاتها.

في كل الأحوال، فمازالت مقولة تقلّص المسافات بين أحياء أو سكان القرية العالمية تشكل هاجساً يستبد بصانعي القرار ومخططي السياسات فضلاً عن واضعي الاستراتيجيات. وفي هذا المضمار يؤكد مؤلف الكتاب أن أميركا وحلفاءها (في أوروبا) ما برحوا يشعرون بحالة متواصلة، حتى لا نقول مزمنة، من عدم الأمن فما بالك وأن هذه الحالة ماثلة وسط شائعات تتردد بشأن ما يعرف في عالم السياسة بأنه متوالية التأثير أو أثر الدومينو، التي تعني انتقال أثر هذه الحادثة أو تلك من موقع إلى آخر تماماً مثل تساقط أحجار الدومينو بعضها تلو الآخر سواء بسواء.

والمشكلة هي أن شعور اللا أمن المذكور أعلاه يمكن أن يدفع صانعي القرار في الغرب إلى اعتماد تسديد الضربة الأولى باستمرار، ومن هنا تتحول العولمة من ميزة مستجدة على قرية اسمها العالم، لتصبح آفة أو لعنة تشهد المبادرة غير المحسوبة إلى شن حروب كارثية ومصادرة الحريات المدنية وإصابة مجتمع القرية إياها بنوبات الهستيريا من حيث سلوكيات السياسيين وقرارات الجنرالات وتصورات الأفراد والشعوب على السواء، وهو ما قد يحلّ محل الحوار المتزن المطلوب في مجال السياسات الخارجية للدول التي تشكل مجتمع هذه القرية العالمية.

عن جدل العولمة

هنا أيضاً يحذّر المؤلف من جدلية ظاهرة العولمة، القرية العالمية، يذهب إلى أن انكماش المسافات وتقلّص الأبعاد بين أجزاء عالمنا ظاهرة ذات وجهين: أولهما يتمثل في إمكانية ازدياد عُرى التقارب بين الأقطار والشعوب، وإن كان المؤلف يتوقف ملياً عبر فصول هذا الكتاب، عند الوجه الآخر من عملة العولمة، وهو الجانب الذي يتمثل في إمكانية أن يصل الخصم في لمح البصر إلى حيث يمارس ما شاءت له دوافعه من صنوف الأضرار بل والتدمير، وهنا يعاود الكتاب طرح أكثر من أمثولة تشهد بذلك حين يشير إلى حادثة ما يصفه بأنه 7/12 وهي تدمير كل الأسطول الأميركي الرابض في ميناء بيرل هاربور في ذلك اليوم من شهر ديسمبر عام 1941 وساعتها علّق الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت قائلاً : بعد اليوم، لم يعد للأميركيين أن ينظروا إلى أمنهم وسلامتهم من خلال الأميال المرسومة على الخارطة.

المؤلف

يعمل البروفيسور باتريك بورتر أستاذاً للدراسات السياسية والاستراتيجية في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة. وقد كان مولده ونشأته في أستراليا و تخرج في جامعة ملبورن ودرس في جامعة اكسفورد في إنجلترا ومنها حصل على الدكتوراه.

ودراسات بورتر تركز على أسباب الصراعات العسكرية المعاصرة. وفضلاً عن كتابه الصادر أخيراً بشأن »خرافة القرية الكوكبية«، فهو يركز في كتابه المقبل على الدول المستقلة وحالات الإعدام والاغتيال خارج نطاق السلطة القضائية.

إنجازات الستينات تهيمن على العلماء

بصرف النظر عن جسامة الإنجاز العلمي من جانب روسيا أو أميركا، فالمتصوَّر أن كلاً من الرائديْن، يوري جاجارين ولويس أرمسترونغ قد عمد إلى نظرة فاحصة وشغوفة أيضاً ألقاها من ثنايا سفينته الفضائية، سوفييتية كانت أو أميركية، على كوكب الأرض الذي يعيش البشر على سطحه بكل أقطاره وشعوبه، وبكل مساحاته ومحيطاته، وبكل ما شهده الكوكب الأرضي من فتوحات وتعقيدات وحروب وصراعات، فإذا بالأرض لا تعدو كونها مجرد كرة مهيضة، محدودة المساحة، تحكمها قوانين الجاذبية ولا تكاد تشكل كياناً معدوداً أو مرهوب الجانب وسط آلاء الكون المعجز المترامي بغير حدود.

كل هذه الإنجازات، وكل هذه التصورات جاءت بمثابة المُدخلات التي شكلت وجدان وتصورات وإبداعات واجتهادات علماء عقد الستينات وكوكبة مفكريه.

من هذه الكوكبة، لاتزال علوم الإعلام ومنظومة الاتصال الجماهيري تتصدرها مقولة محورية بكل المعاني تذهب في صياغتها إلى المعنى التالي: لقد أصبح العالم قرية، كوكبية (غلوبالية).

هي المقولة التي أصدرها المفكر الكندي مارشال ماكلوهان في كتاب نشر في عام 1962 تحت عنوان القرية العالمية بمعنى الكوكبية، أو العولمية بمصطلحات زماننا، وهي أوضاع تحققت كما ارتآها ماكلوهان في تلك الفترة الباكرة بفضل ما تحقق من إنجازات الاتصال بواسطة الأقمار الاصطناعية وتباشير استخدامات الحاسوب الإلكتروني لتطوير حياة البشر وتسريع إيقاعات سلوكياتهم، وهو ما أصبح مطروحاً منذ عقد التسعينات من القرن المنصرم تحت العنوان التالي: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

المهم أنه ظل اسم ماكلوهان (1911، 1980) يتردد باستمرار في أدبيات الإعلام المعاصر، وخاصة من خلال مقولته التي ألمحنا إليها بشأن القرية العولمية (الكوكبية). ولكن، لأن العلم قابل، بحكم التعريف للتغيير بالنفي أو التعديل أو التأكيد، فقد بدأت الأوساط الفكرية المعنية بأمر الاتصال الجماهيري ومقولات العولمة والقرية الإلكترونية، الغلوبالية إياها، تعاود التفكير بمنطق التمحيص والمراجعة والتحليل في حكاية القرية المذكورة، وفي محاولة علمية بدورها، لتفنيد ما بشّرت به من متغيرات وأفكار وتطلعات.

هذه المحاولة اضطلع بها مفكر بريطاني هو البروفسور باتريك بورتر في كتابه الصادر منذ بضعة أشهر تحت العنوان المباشر التالي: خرافة القرية الكوكبية: المسافات والحرب وحدود القوة.

الجغرافيا لم تعد تعوق الخصوم

هناك، على نحو ما يؤكد المؤلف، حادثة 11/9 التي أكدت مقولة روزفلت وخاصة في عصر الهاتف المحمول والسفر الرخيص والتمويل الرقمي، وحيث لم يعد الخصوم تعوقهم حواجز الجغرافيا. وإذا كان اليابانيون قد صنعوا كابوس بيرل هاربور في عام 1941، إلا أن هذا الكتاب يحذر من كوابيس كثيرة أخرى ربما يشهدها عالمنا في ظل عولمة كوكب الأرض أو في إطار ظاهرة القرية العولمية، وهو ما وصفه محللو هذا الكتاب في إطار يحذر من خطر داهم وتجسده العبارة التالية: بيرل هاربور.. إلكترونيــة.

تأليف: باتريك بورتر

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة جورج تاون، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 240 صفحة

Email