اليابان.. مستقبل محفوف بالمخاطر

مستقبل اليابان بين كوارث الطبيعة وشيخوخة السكان

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتألف هذا الكتاب من مجموعة من الدراسات التي عكف على وضعها صفوة من باحثي الشؤون الآسيوية، وخاصة ما يتعلق باليابان بحكم دورها المحوري في مسار التصنيع والتقدم التكنولوجي .

على أن الكتاب يرصد ما آلت إليه أوضاع اليابان في الحقبة الزمنية الأخيرة من تراجع أو انحسار، وهو ما أرجعته بحوث الكتاب إلى عدة عوامل محورية ربما يأتي في مقدمتها حالة التوسع الديموغرافي في سكان اليابان.

وهي حالة تنطوي أولاً على تراجع معدلات الخصوبة ومن ثم انخفاض عدد المواليد، ولكن يقابلها في المجتمع الياباني ارتفاع الأجل العمري المتوقع للحياة، وهو ما جسدته زيادات عدد مواطنيها ممن بلغوا، بل وتجاوزوا سن الشيخوخة، نظراً لارتفاع مستوى الخدمات الصحية المقدمة لعموم المواطنين.

ويضاف إلى هذه الظاهرة التي تشهد ما يعرف بأنه شيخوخة السكان، مشكلات من قبيل تراجع حجم القوي العاملة، وخاصة في ضوء الظاهرة التي ما برح يشهدها المجتمع هناك من انخفاض نسبة مشاركة المرأة في قوة العمل الوطنية.

فضلاً عن مشكلات عدة، يأتي على رأسها غضبات الطبيعة وكوارث الزلازل والبراكين والمفاعلات النووية، وإن كان الكتاب يشير أيضاً إلى الآمال المتعلقة باستمرار تفوّق اليابان تكنولوجياً على الصين، وقدرة ومرونة النظام السياسي في طوكيو على مواجهة وحل الأزمات.

ماثيو بيري رجل عاش في القرن التاسع عشر للميلاد، كان قبطاناً في البحرية الأميركية. سمع الناس باسمه، حين دخل سجل التاريخ في عام 1854 بالذات.

هو العام الذي خاض فيه مياه الشرق الأقصى على متن سفينته الحربية في حملة بحرية بكل معنى الكلمة سجلتها مدونات التاريخ الحديث على الوجه التالي، إنها الحملة التي أدت إلى إجبار اليابان على فتح أسواقها واستهلال معاملاتها التجارية مع أقطار الغرب الأوروبي، الأميركي بعد أكثر من 200 سنة من انعزال اليابان.

وبديهي أن الكابتن بيري لم يُصدر في حملته المذكورة عن شغف باليابان، ولا عن حرص مرهف على مصالح سكانها، وإنما كان ينطلق بالطبع من تحقيق مصالح أميركا التي كان عمر دولتها وقتئذٍ لا يزيد على 80 سنة، فيما كان حكامها يتطلعون إلى نيل نصيب من كعكة المصالح الاقتصادية على مستوى العالم.

وهو ما تحقق بالفعل حين تكافأت مكانة أميركا مع مكانة الدول الكبرى التي كانت تهيمن على مقاليد العالم في ذلك الزمان، وبمعنى أن أصبحت الولايات المتحدة – كما تؤكد مراجع التاريخ الحديث – متكافئة النفوذ في منطقة الشرق الأقصى مع كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا.

وعلى مر هذا الزمان الحديث الذي خبرت فيه اليابان أحداثاً وتحولات، دخل البلد الآسيوية المذكور سنوات القرن العشرين، متمتعاً بقدر محسود بكل المقاييس من الحيوية والجدية والحماس ناهيك عن الثقة في النفس، وهي ثقة لم تخل للأسف من طائف الغرور الذي أودى باليابان إلى التورط في صراعات الحرب العالمية الثانية (1939، 1945) طرفاً أساسياً في قوس المحور الذي كان يضّم عند قمته كلاً من ألمانيا هتلر، وإيطاليا موسوليني.

حدث في بيرل هاربور

في غمار هذا الأتون العسكري كانت ليابان الأربعينات معارك مشهودة من أبرزها بالطبع قيام الأسطول الياباني بتدمير كامل الأسطول الأميركي الذي كان رابضاً في ميناء بيرل هاربور، وكان ذلك بالتحديد يوم 7 ديسمبر عام 1941.

لكن الذكاء الياباني كان عليه أن يعي كل الدروس المستفادة من عبرة الهزيمة، بل ومهانة الانكسار أمام دخول الجنرال الأميركي دوغلاس مكارثر في هيئة الغازي الفاتح إلى العاصمة طوكيو التي أعلنت استسلامها، وخاصة بعد قيام واشنطن بتفجير أول قنبلتين ذريتين في كل من هيروشيما ونغازاكي عام 1945.

وكم كان هذا الوعي بالدرس المرير المستفاد عميقاً ومفيداً في آن معاً، انطلقت معه اليابان كي تترجم هذه العبرة إلى همّة وطنية للعمل والجهد والإبداع والإنتاج. وكان انتصاف القرن العشرين إيذاناً بالمكانة التي تبوأتها اليابان باعتبارها عملاقاً في عوالم التصنيع .

وكان طبيعياً أن تكون هذه الطفرة اليابانية موضعاً لدراسات شتى ، وكلها كانت تعبّر عن إعجاب كاتبيها بالجهد الياباني والذكاء الياباني، فضلاً عن إعجاب أيضاً بأساليب الحياة في البلد الآسيوي المذكور.

وهي أساليب تعبر بالدرجة الأولى عن نهج يجمع بين جدية العمل واحترام الأعراف الموروثة واتباع نهج شديد البساطة في المعيشة والحياة اليومية وخاصة إذا ما قورن بأسلوب الحياة في أقطار الغرب الأوروأميركي بكل ما يحفل به الأسلوب المذكور من ميل إلى ترف المعيشة والإغراق في الاستهلاك.

من التسعينات إلى الآن

لكن دوام الحال لايزال بالطبع من باب المُحال، كما يقول المثل السائر.

وهذا المثل يكاد ينطبق على يابان الحقبة الزمنية الأخيرة التي يمكن تحديد بدايتها من عقد التسعينات، ثم على امتداد السنوات المنصرمة من هذا القرن الحادي والعشرين. هذا هو المنطلق الذي يصدر عنه الكتاب الصادر عن أحوال اليابان، فيما نعايش مقولاته في هذه السطور، والكتاب يكاد يرسم أمام قارئيه صورة مباشرة حين يطرح عنوانه بغير مواربة في العبارة التالية: «اليابان: المستقبل المحفوف بالخطر».

يتألف الكتاب من مجموعة من المقالات البحثية التي عكف على وضعها مجموعة من صفوة الأساتذة من دارسي ومحللي الشأن الياباني، فيما عكف على تحرير الكتاب اثنان من الاختصاصيين في هذا المجال. آن الليسون، أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية بجامعة ديوك بالولايات المتحدة. وفرانك بلدوين الكاتب الاختصاصي في الدراسات اليابانية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

يضم كتابنا 13 دراسة بخلاف المقدمة التي كتبها محررا الكتاب وتتعلق بقضايا مستقبل اليابان.

وتتعرض المقالات – الدراسات التي تشكل محتوي الكتاب إلى مختلف القضايا والمشكلات المحورية التي ما برح يصادفها البلد الآسيوي الكبير. ونعرض من هنا لهذه المسائل على نحو يمكن إيجازه كما يلي:

• الجانب السكاني (الديموغرافيا باعتبارها قدراً أو مصيراً).

• متغيرات العمالة وأنماط الاستخدام.

• مستقبل المرأة اليابانية وتطور العلاقات بين الجنسين.

• ماذا بعد حادثة «كارثة» مفاعل فوكوشيما النووي؟

• أسلوب إدارة الأزمات والتحديات الخطيرة التي تواجه اليابان.

• مستقبل (بالتحديد مستقبلات) الاقتصاد الياباني.

• الصناعات التحويلية، المصانع والسياسة القومية.

• متغيرات سياسة الأمن في اليابان

• أوضاع المنافسة بين الصين واليابان

• المواطن الياباني، بين سلطة الدولة وحرية الفرد

• مستقبل ــ متغيرات الزعامة السياسية (في طوكيو)

دروس مستفادة عربياً

والحق أننا عمدنا إلى تسجيل هذه البحوث التي تشكل – كما أسلفنا، مضمون هذا الكتاب – من منطلق التصّور بأنها يمكن أن تشكل منظوراً مفيداً بالنسبة لراسمي السياسات وصانعي القرار في عالمنا العربي، باعتبار أن اليابان ما زالت تشكل نموذجاً يمكن محاكاته أو النسج على منوال إنجازاته وإيجابياته بالنسبة لأقطارنا العربية ولبلدان العالم الثالث التي تخوض تجارب التحول التنموي، ناهيك عن كون اليابان بلداً يفتقر – كما هو معروف - إلى غزارة الموارد الطبيعية ويعيش نوعاً من العزلة الجغرافية من واقع وجوده في أقصى الطرف من القارة الآسيوية، بل ويكابد ثورات تضطرم بها الطبيعة بين حين وآخر.

توقع الانخفاض السكاني

وبالأرقام تسجل الدراسات التي احتواها كتابنا أن حجم سكان اليابان من المتوقع أن ينخفض خلال الفترة الزمنية المقبلة من أكثر من 126 مليون نسمة ليصل في عام 2048 إلى نحو 100 مليون نسمة فقط لا غير، بكل ما يؤدي إليه هذا النضوب الديموغرافي من عواقب خطيرة في كل الأحوال.

الصورة سلبية كما تكاد تجمع الدراسات والبحوث التي يضمها هذا الكتاب.

لكن هذه الصورة السلبية ليست مطلقة ولا هي معممة في كل الأحوال، إن القارئ المتمعن للكتاب لا يمكن أن تفوته أبعاد تنطوي على قدر من التفاؤل، ومن أبعاد الصورة المذكورة، إن الكتاب يضم فصلين لا يفوتهما التنويه بأوضاع التفوق التي لا تنكر بحال من الأحوال وهي تميز اليابان من نواحي التقدم التكنولوجي عن الصين جارتها في الموقع الجغرافي وغريمتها في تحقيق التقدم ومنافستها في مجال الانفتاح على عالمنا.

ثم يزيد من درجات هذا التفوق حقيقة أن اليابان لاتزال تتمتع بمرونة لا يمكن إنكارها في حراك المشهد السياسي في طوكيو، وفي قدرة النظام السياسي الياباني على تخريج قيادات جديدة يمكن أن تضيف حراكاً دينامياً وتضخ دماء جديدة بدورها في شرايين إدارة الدولة اليابانية، وكل ذلك بالمقارنة مع المنافس الصيني في بكين الذي لايزال تحكمه، وربما تتحكم في مساراته، هيمنة الحزب وبيروقراطية الدولة، وديناميات الأيديولوجية وتوصيف الزعامات والقيادات التي تكاد تحتكر المواقع القيادية على اختلاف هذه المواقع وتباين تأثيراتها.

تساؤلات مطروحة

في ضوء هذا كله، وبرغم ما احتوته فصول هذا الكتاب من جهود لتشخيص متغيرات الحالة اليابانية بكل ما أصبحت تعانيه من أدواء، يأتي في مقدمتها – كما ألمحنا، مشكلة شيخوخة السكان، إلا أن كتابنا، وبحكم المسار المنهجي الذي سلكه الباحثون المساهمون في فصوله، لا ينتهي بقصائد رثاء ينشدها، أو بأجراس إنذار يدقها، الكتاب ينتهي بطرح تساؤلات بشأن الطرق التي من المفروض أن تسلكها يابان اليوم كيما تتجنب الانزلاق إلى منحدر الأخطار التي سبق إلى توضيحها عنوان الكتاب الذي يطرح تساؤلات من قبيل، هل تنجح اليابان في التماس طريق يوصلها إلى حل مشكلتها السكانية، واستعادة تفوقها في عوالم الصناعة والتكنولوجيا وفتح السبيل أمام مشاركة المرأة في أسواق العمل وفي النشاط القومي العام؟

في كل الأحوال، عمد الكتاب إلى رسم عمومي لخارطة طريق، دون التدخل في التفاصيل أو في أساليب الوصول إلى تحقيق أهداف تلك الخارطة ذلك أمر ينبغي، في تصوّر الباحثين، أن يُترك لليابانيين، باعتبارهم الأدرى بشعابها في كل حال.

حالة تشاؤم تطغى على قراءات مستقبل البلاد

يكاد قارئ هذا الكتاب يستشعر حالة مختفية أو مستترة بالطبع من التشفّي فضلاً عن التشاؤم، العلمي كما قد نقول، وهي تكاد تشوب طروحات هذا الكتاب الذي يرسم في مجمله صورة قاتمة على نحو ما يذهب إليه المحلل الأميركي آندرو ناثان في أحدث أعداد مجلة «فورين أفيرز» عدد مايو، يونيو 2016.

هذه الصورة لها أبعاد أكثر قتامة وأشد خطورة حين يرسمها كتابنا على الوجه الذي نوجزه في التالي:

• التعّرض ومن ثم الانكشاف أو الاستضعاف بوتائر لا تكاد تنقطع لغضبات الطبيعة ما بين الزلازل أو البراكين أو الفيضانات أو غوائل الجفاف وما في حكمها.

• انحسار فرص العمالة الدائمة التي كانت متاحة لجموع السكان من المؤهلين للعمل.

• غياب أو نقص ملحوظ كما ترصده دراسات هذا الكتاب لمشاركة المرأة اليابانية في ميدان العمل.

• فرض قيود صارمة، مبالغ فيها كما يوضح كتابنا، على هجرة اليابانيين إلى الخارج.

• سياسة يصفها الكتاب بأنها متجمدة إلى حد الشلل بالنسبة لقطاع الطاقة الياباني، وخاصة في أعقاب حادثة انفجار مفاعل فوكوشيما النووي في عام 2011.

• التبدلات السريعة في القيادات السياسية في طوكيو وهو ما أدى بدوره إلى حالة من زعزعة الاستقرار مقرونة بارتفاع مديونية الحكومة واستضعاف قطاع التصنيع.

على أن أخطر مكامن الضعف، ومن ثم المشكلات المستعصية التي ما برحت تواجهها اليابان في الآونة الأخيرة، إنما تتمثل في الظاهرة التالية على نحو ما يوضحها هذا الكتاب..

• مجتمع مصاب بالشيخوخة

وفي هذا السياق، تتوقف دراسات كتابنا ملّياً عند ما اتضّح على مدار العقود الأخيرة من تراجع معدلات خصوبة السكان، وهو ما أفضى بالتالي إلى تراجع معدلات المواليد في مجتمع ارتفعت فيه مستويات الرعاية الصحية فادت إلى ارتفاع ما يصفه الاختصاصيون بأنه الأجل، العمر المتوقع للحياة، وهو ما أسفر بدوره عن زيادة حجم السكان الذين طالت أعمارهم وتجاوزوا من ثم سن التقاعد بسنوات عدة، وجاء انقطاعهم الطبيعي عن الاشتغال، ما أدى إلى استبعادهم من قوة العمل القومية دون أن تتوافر بدائل كافية عنهم من الأجيال الشابة الطالعة التي تعاني من نقص المواليد.

بناء الإنسان

الدرس المستفاد أصلاً من تجربة اليابان إنما يتركز في بناء الإنسان، ومن ثم الاعتماد عليه صانعاً للتنمية ومستفيداً من ثمارها.

والحاصل أن هذا الإنسان الياباني ظل يشكل قطباً ينافس بشراسة نظيره في أوروبا، ثم في أميركا ، حيث لاتزال القارة الشمالية الأميركية حافلة بثمار المنتوجات الإلكترونية اليابانية بأسمائها الشهيرة وعلاماتها التجارية ، وحيث لاتزال السيارات اليابانية تغطي الطرق والمسالك في طول الولايات المتحدة وعرضها. ولاتزال جمهرة المستهلكين الأميركيين تستخدم الأدوات والأجهزة الإلكترونية المصنوعة في اليابان.

المؤلف

باعتبار أن كتاب «اليابان ومستقبلها المحفوف بالخطر»، يشكل جهداً جماعياً ، فقد عكف على تحرير بحوث الكتاب والتنسيق بينها أستاذان اختصاصيان أولهما الدكتورة آن الليسون أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية والدراسات النسائية في جامعة ديوك بالولايات المتحدة. أما المؤلف الآخر لهذا الكتاب فهو الكاتب السياسي فرانك بلدوين الذي كان ممثلاً لليابان في مجلس بحوث العلوم الاجتماعية على مدار الفترة 1996- 2011 وأنجز كتابا بعنوان «اليابان التي تستطيع أن تقول لا».

تأليف: فرانك بلدوين وآن الليسون

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: جامعة نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 384 صفحة

Email