عشرون عاماً في الشرق الأوسط

عندما اندلعت ألسنة النيران في الشرق الأوسط

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يعد هذا الكتاب من أحدث الكتب صدوراً في الولايات المتحدة.

ومازال يحوز اهتمام المعلقين والمحللين وخاصة المهتمين بتطورات الأمور على مستوى الشرق الأوسط، ومن المنظور الزمني على امتداد السنوات العشرين الماضية التي يتعرض لها الكتاب عبر فصوله التسعة، وذلك من خلال تجربة ميدانية وخبرة نابضة بالحياة عايش فيها مؤلفه الصحافي الأميركي الشاب كل التطورات التي عاشتها المنطقة منذ السنوات الأربع الختامية من القرن العشرين ومع المراحل الاستهلالية من هذه الألفية الثالثة، وهي الحقبة التي شهدت وما زالت تشهد مستجدات غير مسبوقة بكل معنى الكلمة من حيث القيادات والزعامات والنظم الحاكمة والمواقف السياسية والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط.

وعلى مدار طروحات وسطور الكتاب يسجل المؤلف أفكاره وملاحظاته بالسلب والإيجاب بالنسبة إلى الأوضاع والتطورات التي عايشها عن كثب، ومنها ما كان يجري في مصر واليمن وفي العراق وسوريا، فيما تتميز بأهمية خاصة تلك الملاحظات التي سجّلها على مهارة الساسة والمفاوضين الفلسطينيين، وأيضاً على السلوك التدميري- العنصري الذي اتسم به الكيان الصهيوني في الأراضي المحتلة. أما الأفكار والملاحظات التي يحفل بها الكتاب إضافة إلى العرض المفصل لأوضاع العراق وخاصة مع بدايات وتطورات الغزو الأميركي لأرض الرافدين.

من المصادفات الفريدة أن يتوافق عرضنا لهذا الكتاب، بل يتوافق صدوره أيضاً مع انقضاء 100 سنة بالتمام والكمال على توقيع وثيقة محورية حملت يومها الاسم التالي، »اتفاقية سايكس- بيكو«. وهي الوثيقة التي تعرف رسمياً باسم اتفاق آسيا الصغرى. وقد أحاطتها، وربما لا تزال تحيط بها غلالات من السرية والريبة فيما قصد إليه الطرفان الموقعان عليها بتاريخ 16 مايو من عام 1916 وهما:

عام 1996

ثم عاشت منطقة الشرق الأوسط عبر سنوات العقود التي أعقبت سايكس- بيكو لتشكل ساحة امتدت ما بين العراق العربي شرقاً إلى ربوع الشمال العربي- الإفريقي غرباً، وهي الساحة التي خاضت شعوبها وقياداتها غمار القرن العشرين بكل اكتشافاته ومنجزاته وأيضاً بكل مشكلاته وصراعاته.

في ذلك العام وفد على المنطقة صحافي أميركي شاب درس في واحدة من أعرق الجامعات بالولايات المتحدة، وجاءها بوصفه مراسلا خارجياً يجمع بين صحافة الحرف المطبوع وصحافة التحقيق التلفزيوني.

وعلى مدار السنوات العشرين الماضية أو نحوها، التي أمضاها الإعلامي المذكور في ربوع الشرق الأوسط، تبلورت تجربته وتعّمقت خبرته بأحوال المنطقة، بكل ما حفلت به، ولا تزال تحفل به، من إيجابيات وسلبيات وكان عليه أن يبلور الدروس المستقاة من هذه التجربة كي يودعها في كتابه الذي نتعايش مع أفكاره وملاحظاته على مدار هذه السطور.

ثم يلفت أنظارنا كقارئين أنه اختار عنواناً فرعياً للكتاب، وهو:»عقدان من الزمن في الشرق الأوسط«، وهو بداهة عنوان تقليدي وشارح للعنوان الرئيسي لهذا الكتاب الذي قد نراه بدورنا عنواناً صحافياً بل ودرامياً في آن معاً وهو، »وحينها، اندلعت ألْسنة الجحيم«.

وسواء اعتمد القارئ عنوان الوقار أو دراما الجحيم، فإن مؤلفنا الكاتب الأميركي ريتشارد انغل يستهل كتابه، أو فلنقل شهادته الصحافية السياسية بسطور يقول فيها، شاءت أقداري أن أراقب منطقة الشرق الأوسط وهي تعيش حالة من التحول الحافل، رأيت تحولاً تاريخياً بكل معنى الكلمة، وعلى مدار 20 سنة شاهدت كبار القادة والزعماء وهم في أوج سطوتهم، ثم قمت بتوثيق سقوطهم وتابعت فوضى الأحداث التي أعقبت هذه التحولات.

ويتابع مؤلفنا تسجيل هذه التحولات قائلا، كان الأمر قد استغرق ثلاثة عقود، ما بين عامي 1967 و2003، كي يشيد هؤلاء الكبار كيان سطوتهم ونفوذهم، فيما لم يستغرق الأمر سوى عقد وحيد من الزمن، 2003 2013 كي يكتمل تدمير بل وزوال هذا الكيان. وإن كنت أتصور أن سيعود جيل جديد من الرجال الكبار إلى ساحة الشرق الأوسط من جديد.

رحلة فاصلة

تسعة فصول في نحو 250 صفحة هي التي شكلت مادة هذا الكتاب الذي يتحدث فيه مؤلفه كيف بدأ ما يمكن أن نصفه بأنه أوديسا صحافية سياسية، رحلة السنوات العشرين الفاصلة. وقد بدأت كما يحكي ريتشارد انغل بالقاهرة، ومنها توزعت هذه المسيرة المهنية إلى أرجاء أخرى من رقعة الشرق الأوسط، فلسطين، الأردن، العراق، اليمن وغيرها، وكان بديهياً لزائر أجنبي شاب قادم من أميركا أن تبدأ حياته في المنطقة بزيارة آثارها العتيدة، ما بين أهرامات الجيزة إلى معابد الأقصر.

ومن أطلال تدمر إلى أعمدة البتراء، ناهيك كما يقول المؤلف- عن شغفه بالتجول عبر الحارات العتيقة والأزقة التي تحميها الظلال الوادعة في القدس القديمة، وإلى سوق الحميدية في العاصمة دمشق، علاوة على مسالك صنعاء التي تلمع في جنباتها شفرة الجنبّيات، وتعرض أفخر التمور، ويفوح من عطفاتها أريج التوابل والبهارات.

ذلك هو الجانب اللامع من حياة الشرق الأوسط على نحو ما يرصده مؤلف الكتاب، هو الجانب الذي يطلق عليه مؤلفنا صفة أقرب إلى وداعة البهجة، لكنه لا يلبث مع تحول مسار الأحداث أن يتحول شخصياً إلى حيث يقول، هذه البهجة في الشرق الأوسط تبددت وحلت محلها مشاعر وهواجس الخوف، تلك المشاعر التي اجتاحت مناحي الحياة في العراق وسوريا، فيما لا تزال تصبغ بالسواد حياة الناس في سائر أنحاء المنطقة، وهذا هو السبب- يضيف مؤلف الكتاب - في تلك التدفقات النازحة من الشرق الأوسط صوب أوروبا حافلة بالملايين من البشر.

ملاحظات فلسطينية

عند هذا المنعطف من كتابنا يعمد المؤلف إلى تسجيل ملاحظة بالغة الخطورة تستند إلى الظاهرة التي رصدها مؤلفنا وقد استجدت كما يقول - في عام 2006.

وهنا تتحول سطور هذا الكتاب إلى الزرقاوي القيادي المرتبط بالعديد من فظائع القتل في أرض العراق، وهنا أيضاً يضيف مؤلفنا سطوراً تقول بما يلي: فجأة أصبحت شبكة الإنترنت عنصراً حاضراً بكل معنى الكلمة، بل تحولت وسائل الفيديو وأساليب النقل والبث والتحميل عبر المواقع الإلكترونية إلى لعبة أطفال، وساعتها بدأ الزرقاوي وتابعوه يقولون لأنفسهم، لماذا ندع هؤلاء الصحافيين يُجرون معنا الأحاديث والمقابلات ثم يعمدون إلى تحويرها واستخلاص ما يريدون استخلاصه من مضامينها، لقد أصبح بوسعنا أن نعمد مباشرة إلى استخدام الإنترنت كي نقول بالضبط كل ما نريد أن نقول.

عند هذا المنحى من الموضوع يعلق مؤلف الكتاب على النحو التالي: هكذا أصبح الصحافيون بلا قيمة.

على الأقل بوصفهم ميكروفونات معبرة عن واقع الأحوال، بل إن قيمتهم تحولت إلى حيث أصبح الصحافي سلعة تتعرض للسرقة والبيع والشراء (والاختطاف) والمبادلة، مقابل السجناء أو مقابل فدية مدفوعة تقدّر بالملايين.

فصول كتابنا لا تخلو من نظرات وملاحظات نقدية أو انتقادية تراءت لكاتبه الصحافي الأميركي، ولم يجد بدّاً من تسجيلها عبر صفحات الكتاب، فهو يحدث قارئه مثلا عن المقارنة بين مسؤولي بعض الدول العربية ونظرائهم المسؤولين الفلسطينيين، يوضح كيف أنه لم يكن يلتقي مسؤولا يبدي استعدادا منذ الوهلة الأولى للحديث عن قضية تتعلق بهذا الأمر أو ذاك، على خلاف ذلك كان سلوك المستوى القيادي من الفلسطينيين، يحّدثك المؤلف مثلا عن صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، إذا اتصلَت به، مثلا في أنصاف الليالي، سرعان ما يلتقط سماعة الهاتف ويظل مصغياً على الخط بقدر ما يتطلبه الأمر كي يجيب عن كل ما تطرحه على أسماعه من تساؤلات.

ثم يضيف المؤلف قائلا: لم يحدث يوماً أن غاب مسؤول فلسطيني عن التفاعل مع الصحافة والإعلام، لقد تعلموا هذا الأمر من أعدائهم الإسرائيليين، بمعنى الحرص على المبادرة والمسارعة إلى أن يطرحوا آراءهم إزاء القضايا والمشكلات. من هنا جازت المقارنة بين علاقتي كصحافي مع الفلسطينيين، في إحدى العواصم يلاحظ المؤلف- أن أهلها كانوا يتحدثون معه بوصفه شخصاً أجنبياً، أما في فلسطين فقد كان الفلسطينيون يبادلونه أطراف الحديث باعتباره صحافياً أميركياً، إذ كان من المهم بالنسبة لهم أن يفهم هذا الصحافي (الوافد من أميركا) تاريخهم وقضيتهم.

وفيما كانت السيارة تشق طريقها في عاصمة العباسيين إلى فندق متواضع اختاره مؤلفنا في حي المنصور تدفقت أفكاره وتأملاته، وربما مخاوفه، لأنه كان مقدماً للمرة الأولى في حياته- على أن يشهد حرباً بكل معنى الكلمة، خاصة وأن إدارة بوش وفصيل المحافظين الجدد المتحكم في قرار البيت الأبيض، كانوا قد بدأوا في إشعال شرارة الحرب في العراق.

يقول المؤلف: بغداد كانت المحطة الثالثة التي توقّف عندها قطار تاريخ الشرق الأوسط بالنسبة لي، المحطة الأولى كانت بالطبع هي القاهرة ورجالها الكبار، وبعدها كانت القدس التي شهدت فيها نهاية عملية السلام، وها أنذا مُقدم على بغداد كي أغطي حرباً كان من شأنها أن تدفع حركة الأحداث التي سوف تؤدي إلى تمزيق الأوضاع الراهنة في منطقة الشرق الأوسط، بل وتطلق من عقالها سيولا من الكراهية الدينية والإثنية، ثم تخلق جيلا من الإرهابيين يعد أكثر شراسة من (منظمة) القاعدة نفسها، علاوة على الدمار الكبير الذي أعاد العراق إلى القرون الوسطى.

هي حقاً مهنة البحث عن المتاعب ناهيك عن أن لا تقتصر هذه المتاعب- كما كان في الماضي على وعثاء السفر، أو سخط الرأي العام أو تحفّظ أصحاب القرار أو تحمّل سلوكيات الغرور من جانب النجوم والمشاهير، أصبحت المتاعب التي يواجهها أهل المهنة الصحافية حافلة بأخطار الوقوع ضمن أقواس النيران، في غمار الاشتباكات المسلحة وفي حمأة اشتعال الصراعات الداخلية والحروب الأهلية التي أصبح يتعيّن على أهل المهنة أن يغطوها ويتابعوها ويطرحوا من خلالها مادة للدرس والتعمق والتدبر والتحليل.

في سياق مهنته الصعبة، لم يقتصر مؤلف هذا الكتاب على مجرد التقرير الصحافي- إلى المكتوب للنشر في جريدة أو مجلة، بل تعدى الأمر إلى المتابعة بالصورة المعّدة للبث على شاشات التليفزيون، ولم يقتصر الأمر على شظف المعيشة في مواقع الصراع، بل تعداه إلى التعرض للاختطاف ومصادرة الحرية 5 أيام في سوريا، قبل أن يمكنّه حسن حظه من الهرب والتماس النجاة.

سلوكيات استفزازية إسرائيلية ضد الفلسطينيين

لأنه كان مقيماً في القدس ومسؤولا عن تغطية الأحداث والتحولات والعلاقات بين الجانبين الفلسطيني (صاحب الأرض) والإسرائيلي (المحتل) فلم يكن أمام مؤلفنا- برغم كونه بداهة أميركي الانتماء والأهواء أيضاً سوى أن يسجل ضمن سطور كتابه جانباً من سلوكيات المحتل الإسرائيلي في استفزاز الجانب الفلسطيني على نحو ما فعل أرييل شارون مثلا في سبتمبر من عام 2000 حين اجتاح وسط ثلة من جنود إسرائيل المسجد الأقصى، وقبة الصخرة المشرفة في مدينة القدس مخترقاً المناطق التي ظلت تضم العديد من مساجد المسلمين على امتداد قرون عديدة من عمر الزمن، يومها كانت جولة شارون تجسد أسلوبه في التدليل (من جانب المحتلين الصهاينة) على أنهم هم المسؤولون هناك.

ثم يورد المؤلف تعليقه على هذه التحولات في سطور يقول فيها: من الواضح أن تلك التصرفات موجهة إلى حكومة حزب العمل الإسرائيلي بزعامة إيهودا باراك وقتذاك، ومفادها أن الليكود (اليمين الصهيوني) كان يجهز كي يخوض تحدياً سياسياً، لكن الأهم- يضيف المؤلف إن كان سلوك شارون عملية استفزاز لا يخطئ المرء استيعابها ضد الفلسطينيين، والذي حدث بين عشية وضحاها أن تبدد الحلم الذي كان يرسم صورة شعبيْن يتعايشان في سلام في دولتين متجاورتين، بل تحول هذا الحلم إلى كابوس من الاشتباك المتواصل بين القوات الإسرائيلية المسلحة وبين الفلسطينيين فيما يسمى »بانتفاضة الفلسطينيين«.

ولأن المهنة كما يقولون- تحكم، وأحياناً تتحكم، قرر مؤلفنا أن يتحول إلى العراق، جاء قراره بعد يناير عام 2002 الذي شهد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش أن العراق أصبح على رأس ما كان يصفه بأنه محور الشر، وبذلك جاء ترتيب العراق كما يوضح مؤلفنا- في تلك الفترة في مقدمة ذلك المحور الذي يضم كوريا الشمالية وإيران.

خبرة حافلة في الشرق الأوسط

لقد كان الشرق الأوسط هو محل العمل لمؤلف هذا الكتاب، وليس غريبا إذن أن يتطلع المؤلف إلى مواقع جديدة يواصل فيها خدمة مهنته انطلاقاً من تلك الخبرة الحافلة التي استقاها من الشرق الأوسط، وهو يعّبر عن هذا المنحى في ختام سطور الكتاب قائلا: ما زلت أتطلع إلى خدمة المزيد من القصص التي أغطي بها الصين وروسيا وسائر المناطق التي طالما احتلّت المقعد الخلفي من قطار اهتماماتي وبعد أن اشتريت بطاقة سفر دائمة على متن هذا القطار منذ عام 1996.

المؤلف

ريتشارد انغل هو صحافي أميركي. اشتهر بين أفراد جيله بأنه حائز على العديد من جوائز التفوق المهني خاصة بعد أن أمضى عشرين عاماً في الممارسة الصحافية، مندوباً في منطقة الشرق الأوسط، وقضى في ربوعها هذين العقدين اللذين ظلا يموجان بالعديد من الأحداث الفاصلة والتطورات بالغة الخطورة والمتغيرات الجذرية التي استجدت على الأوضاع والدول والنظم والزعامات والهياكل السياسية- الاجتماعية- الاقتصادية في طول المنطقة وعرضها.

تأليف: ريتشارد انغل

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: سايمون آند شوستر، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 242 صفحة

Email