عقبات الشراكة الأميركية الروسية

طموحات بوتين تجدد الحرب الباردة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عشرون عاماً هي الأمد الزمني الذي استغرقه عقد التسعينات ثم العقد الأول من هذا القرن، وهي الحقبة التي تناولتها بالدراسة مؤلفة هذا الكتاب عبر 11 فصلًا، بدأت بالمرحلة التي أعقبت زوال الاتحاد السوفييتي وبداية حقبة القطب العالمي الاحادي التي ظلت أميركا تتنعم به بعد فوزها في الحرب الباردة بكل وقائعها السياسية والعقائدية ومنافساتها في حلبة التقدم العلمي التكنولوجي، وفي غمار صراع الطرفين الروسي (الاشتراكي) والأميركي (الرأسمالي) على نيل تأييد دول العالم الثالث.

بعدها يعرض الكتاب لوقائع مرحلة التراجع والانحسار الروسي خلال حكم بوريس يلتسين في موسكو، وصولا إلى مطلع القرن الحادي والعشرين الذي شهد متغيرات جذرية في بنية العلاقات بين الطرفين، وهو ما جاء متمثلا بالنسبة لأميركا في ملابسات ونتائج الحادي عشر من سبتمبر 2001، فيما جسدته بالنسبة لروسيا حقيقة وصول فلاديمير بوتين إلى موقع السلطة الاول في الاتحاد الروسي. وفي هذا السياق تعين على الطرفين محاولة التعاون لمواجهة لعنة الارهاب فيما كان البيت الأميركي الابيض يرقب بقلق تطور السياسات التي رسمها بوتين، وفي مقدمتها العمل على استعادة دور موسكو ونفوذها في المواقع الحاكمة استراتيجيا على خارطة العالم.

هو لقاء مشهور ومشهود تم بينهما في أكتوبر من عام 1986. موضع اللقاء كان مدينة ريكيافيك عاصمة دولة أيسلندا وهو اختيار كان يعكس وقتها حالة التوجس أو التشكك التي كانت تستبد بكل من طرفي اللقاء المشهود.

يومها شهدت العاصمة الثلجية المذكورة أعلاه كلا من رونالد ريغان رئيس الولايات المتحدة وميخائيل غورباتشوف رئيس الاتحاد السوفييتي.

من واشنطن جاء ريغان محملا بآمال شعبه الأميركي في التماس نهاية، أي نهاية، لحقبة الحرب الباردة، ذلك الصراع المكتوم الذي ظل محتدماً وقد بلغ عمره وقتها أكثر من ربع قرن من منتصف القرن العشرين.

ومن موسكو جاء غورباتشوف في إهاب مستجد وغير مسبوق بالنسبة لزعامات الاتحاد السوفييتي في تلك الايام، أنيق البزة، حسن السمت، عصري الهندام، أين هذا من صور القيادات التي سبق لها أن حكمت في الكرملين: الدكتاتور ستالين، خروشوف الفلاح، بريجنيف الذي كان يبدو أقرب إلى تمثال من الشمع.

وقبل قمة ريكيافيك كانت العلاقات بين الطرفين الأميركي والروسي قد شكلت تركة حافلة وأحياناً مثقلة بالمشكلات والمنافسات والمناوشات التي اتسمت بأبعاد سياسية وإعلامية وتنافُس كان محموماً في بعض الاحيان على اجتذاب شعوب وأمم كان ينتمي معظمها إلى كتلة عدم الانحياز والحياد الايجابي، أو ما أصبح يُعرف منذ تلك الايام باسم العالم الثالث.

هكذا جاءت القمة الأميركية، السوفييتية كي تستحوذ على اهتمام الرأي العام العالمي، فضلا عن متابعة المراقبين والمحللين السياسيين في طول عالم ذلك الزمان وعرضه، خاصة وقد جاء كل من الطرفين الأميركي والروسي محملا بمواريث حقبة سابقة كانت مشحونة بصنوف العداء والتربص بقدر ما كانت شاهداً على العديد من المآثر والانجازات.

قفاز التحدي

صحيح أن أميركا استطاعت عبر عقد الخمسينات أن تشكّل ما أصبح يعرف أيامها باسم العالم الحر الذي كان يضم أقطاراً شتى في أوروبا الغربية، إضافة إلى بعض البلدان في أفريقيا أو أميركا اللاتينية، لكن الاصح أنه قبل نهاية عقد الخمسينات، وبالتحديد في عام 1957، كان الخصم السوفييتي قد حقق إنجازاً علمياً وتقنياً غير مسبوق عندما أطلق أول قمر اصطناعي في التاريخ تحت اسم سبوتنيك ليشكل بذلك سابقة لا مثيل لها في سباق الفضاء.

ثم جاء الدور على الطرف الأميركي كي يرد على هذا الانجاز الذي حققته موسكو، حيث التقطت إدارة كيندي في البيت الابيض قفاز التحدي التكنولوجي فكان قرارها، بغزو واستكشاف القمر، وهو الانجاز الذي تحقق خلال إدارة ريتشارد نيكسون في ربيع عام 1969.

وفيما أعقبت هذه الانجازات محاولات شهدها العقد السبعيني، وكان أشهرها أن توصّلت كل من موسكو وواشنطن إلى ما عُرف عند منتصف العقد المذكور بأنه سياسة الوفاق بين الطرفين، إلا أن حالة التربّص المتبادل بين واشنطن وموسكو ظلت سائدة إلى حيث اتجهت لانعقاد قمة أيسلندا التي جمعت، كما أسلفنا، بين ريغان وغورباتشوف.

ريغان وغورباتشوف

جاء ريغان منطلقاً من شعارات الأمل التي سبق أن رفعها وكأنها بشرى لشعبه الأميركي، وصاغ لها عبارة طاقة النور التي تشع فوق قمة الجبل خاصة بعد سنوات الستينات وما أعقبها، حيث عانت أميركا من ورطة انغماسها في مستنقع جنوب شرقي آسيا، وبالذات في أدغال فيتنام وأرجاء كمبوديا ودفعت الثمن غاليا من الأرواح والأموال.

أما غورباتشوف فقد جاء إلى القمة الجديدة وقد سبقته الشعارات التي عمد إلى إعلانها وذاعت شهرتها في طول العالم وعرضه وكان في مقدمتها كما أصبح معروفاً - شعار البروسترايكا بمعنى إعادة البناء، فضلا عن شعار الغلاسنوست، ولايزال عالمنا يعرفه باسم الشفافية عبر القارات والبلدان، بقدر ما إن عالمنا لايزال يتوقف أيضاً عند الدعوة التي وجّهها ريغان مخاطباً غورباتشوف بعبارة شهيرة قال فيها: »سيد غورباتشوف.. حطّم هذا الجدار«.

وكان المقصود هو جدار برلين الذي كان يقسم أيامها ساحة العاصمة الألمانية العتيدة إلى الشطر الشرقي الذي كان عاصمة لدولة ألمانيا الديمقراطية (الشيوعية) والمنضوية بداهة تحت لواء المعسكر الشرقي وحلف وارسو العسكري بقيادة الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى الشطر الغربي التابع بدوره لدولة ألمانيا الغربية المنضوية بدورها تحت لواء حلف شمال الاطلسي (ناتو).

والحاصل أن دارسي هذه الحقبة المحدثة من التاريخ لايزالون يتعاملون مع عبارة ريغان وكأنها تنطوي على أبعاد تكهنية إن جاز التعبير. كيف لا، ولمّا ينقض على تلك الدعوة سوى 3 سنوات أو نحوها، إلا وسمع العالم بتحطيم سور برلين إياه إيذاناً بإزالة الجدار الفاصل بين معسكري الشرق والغرب، وهو ما كان في حد ذاته أيضاً نذيراً بتصدع الاتحاد السوفييتي نفسه، بل وزواله أصلا من الوجود.

كل هذه الاحداث والتطورات كانت محل متابعة علمية بالغة الدقة من جانب باحثة أكاديمية هي الاستاذة أنجيلا ستنت التي تخصصت في الشؤون السوفييتية، الروسية ومازالت تمارس جهودها في الدراسة، والبحوث على مستوى المعاهد والجامعات في إنجلترا والولايات المتحدة.

بيد أن البروفيسور أنجيلا ستنت لم تقصر جهودها العلمية على تلك الفترة التي توقفنا عندها في مستهل هذا المبحث، وهي خواتيم القرن العشرين، ومن هنا كان كتابها الصادر مؤخراً في أميركا تحت العنوان التالي: حدود الشراكة: العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في القرن الواحد والعشرين. ولنا كقارئين لهذا الكتاب أن نترجم أو نفهم لفظة الحدود على أنها تنصرف أيضاً إلى القيود (أو العقبات) التي تحدّ من انطلاقة تلك الشراكة بين موسكو الروسية وواشنطن الأميركية، وخاصة مع توالي السنوات الراهنة التي نعيشها، فضلا عما يليها من عقود وسنوات.

زوال الكيان السوفييتي

قد نلاحظ منذ البداية أن المؤلفة عمدت إلى عنوان الفصل الحادي عشر، وهو الفصل الختامي لهذا الكتاب، فاستخدمته عنواناً شاملا لكتابها الذي نشرت في بدايته تصديراً اختارت له بدوره عنواناً ذاتّي الدلالة وهو: جورج بوش وروسيا التي وُلدت من جديد

وكانت هذه بداية منطقية في تصورنا، فالمقصود بالطبع هو الرئيس الاسبق بوش - الاب، والمقصود أيضاً هو فاتح عقد التسعينات الأخير من القرن العشرين، وكانت تلك هي فترة الزوال السوفييتي بقدر ما كانت أيضاً فترة ميلاد روسيا المستجدة التي تولي مقاليدها آنذاك بوريس يلتسين ليفرض نظاماً من أسوأ ما يكون سواء من حيث سلوكيات الفساد أو من حيث جريمة التعامل مع التركة السوفييتية الحافلة بأهم المصانع وأخطر وأجدى مواقع الانتاج، على أنها غنيمة مستباحة لصالح ما أصبح يعرف باسم الأوليغاركية الروسية، وهي الطبقة الجديدة التي تعاملت مع هذه المواريث الحافلة بأسلوب النهب والاستباحة والاستغلال.

وإزاء هذه الاوضاع المؤسسية، ومن ثم إزاء تراجع دور روسيا ومكانتها منذ بدايات حقبة يلتسين، كان طبيعياً أن يسود الجانب الأميركي شعور مركّب من الظفر والخيلاء، حيث ظل هذا الشعور مجَّسداً في مقولة إن العالم لم يعد يحكمه أو يسوده سوى قطب عولمي أوحد أسمه أميركا، فيما ظل هذا الشعور مستمداً من إحساس واشنطن بالتفوق والانتصار في الحرب الباردة، وهو ما كان يشكل انتصارا للرأسمالية وهزيمة الاشتراكية، وهو الشعور الذي كان بدوره موضوعاً للفصل الثاني من الكتاب الذي اختارت له المؤلفة العنوان التالي: »استعراضات بيل وبوريس«.

والدلالة هنا تنصرف إلى السلوكيات المظهرية - الاستعراضية التي شهدتها حقبة التسعينات التي تولى فيها بوريس يلتسين مقاليد الحكم في روسيا، فيما تولى الرئيس الاسبق بيل كلينتون مقاليد أميركا.

المشكلات والقيود

في كل الأحوال تتوقف مؤلفة كتابنا كي تلقي نظرة تحليلية فاحصة على المشكلات أو القيود التي تكتنف الشراكة التي كان باراك أوباما يتطلع إلى بنائها وتدعيمها بين روسيا وأميركا، وتفضي هذه النظرة إلى طرح المشكلات الأساسية التي حالت، في تصورها، بين قيام شراكة قوية ومثمرة في هذا المجال، وفي مقدمة هذه المشكلات ما يلي:

أولا: رواسب ذكريات وعداوات الحرب الباردة بكل ما حملته من سلوكيات وإجراءات التوجس والتربص، فضلا عن مواريث الخلاف السياسي والمذهبي والعقائدي بين نهج الرأسمالية ونهج الاشتراكية، أو بين الشيوعية والليبرالية بكل ما حفلت به هذه المواريث من تبادل الاتهامات وحبْك المؤامرات وشن الحملات الاعلامية التي حملت أيامها وصف حروب الكلمة والمعتقد.

ثانياً: استمرار خصومة القطبين في المجال النووي في ضوء التكافؤ التنافسي أو التنافس المتكافئ بين ترسانة واشنطن النووية ونظيرتها أو غريمتها في روسيا- بوتين.

ثالثاً: مــــعاودة ظهـــور الحالة التي حملت وصف ثنائية القطبين بعد أن ظلت أميركا تحمل، أو تنعم، بمكانة القطب العالمي الواحد أو الأوحد على مدار سنوات عقد التسعينات من القرن الماضي، وهي المكانة التي ما لبثت أن تهاوت وأصبحت في حكم المنتهية بعد اختراق أسوار دفاعاتها الداخلية بحادثة تفجير المركز التجاري وما رافقها من حوادث وتفجيرات، فما بالنا أيضاً بظهور قيادة بوتين بكل طموحاتها وقدرتها على الحشد في روسيا، فضلا عن تطلع هذه القيادة إلى استعادة أدوار كانت لموسكو في مناطق استراتيجية حاكمة على خارطة العالم ما بين الشرق الاوسط والمياه الدافئة في البحر المتوسط، إلى أصقاع وسط وجنوب شرقي آسيا، بل وفي الأصقاع الاوروبية ذاتها، وهو ما ركزت المؤلفة على مناقشته بمنهج العرض والتحليل العلمي في الفصل العاشر من هذا الكتاب، وقد نشرته تحت العنوان التالي: من برلين إلى دمشق.. الاختلافات في الماضي والحاضر.

المؤلفة

تعد أنجيلا ستنت (69 عاماً)في طليعة خبراء السياسة الخارجية الأميركية بفضل دراستها في العلاقات الأوروبية والسياسة الخارجية للاتحاد الروسي. ترعرعت في إنجلترا ثم تحولت للدراسة في الولايات المتحدة. وهي تعمل حاليا أستاذة لمادة أصول الحكم بجامعة جورج تاون في واشنطن كما تشغل موقع مدير مركز الجامعة المذكورة للدراسات الروسية والشرق أوروبية والدراسات الأوراسية (أوروبا، آسيا)، إضافة لنشاطها في مؤسسة بروكنغز. كما عملت بمكتب تخطيط السياسات بالخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات القومية، مكتب روسيا وأوراسيا.

شراكة أميركية روسية يحاصرها الاضطراب

مع مطلع القرن الجديد، بدأت تجتاح العالم غائلة الارهاب، وتجّسدت أخطر معالمها في حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهي المرحلة التي شهدت بدورها تفاعل قطبي العالم بعد تغيير القيادات، وهو ما تعامل معه الفصل الثالث من كتابنا تحت العنوان التالي: بوش - الابن وبوتين في زمن الارهاب.

وفي هذا الفصل تحولت المؤلفة إلى حيث تدارست حرب أميركا في العراق، بكل ما نجم عنها من تداعيات على الموقف الدولي بشكل عام وعلى علاقات الشراكة المضطربة بين الطرفين بشكل خاص.

ثم تتوالى فصول الكتاب ما بين الفصل الخامس إلى الفصل الحادي عشر الأخير، حيث تصل المؤلفة، كما ألمحنا، إلى دراسة وتحليل الشراكة المضطربة أو المحفوفة بالقيود والمشكلات، وهي الأوضاع التي ما لبثت أن اتضحت وربما تعمقت منذ تولي باراك أوباما مقاليد رئاسة بلاده في عام 2008، حيث واجه عقبات عدة حالت بينه وبين إرساء القواعد لشراكة متعمقة ومتبلورة بين واشنطن، التي ورثت بدورها عن حقبة بوش - الابن العديد من المشكلات ما بين فواتير حرب العراق إلى اندلاع الازمة الاقتصادية في العالم بحلول عام 2008، فضلا عن المتغيرات التي استجدت على رئاسة الكرملين، حيث عاد إلى تولي مقاليد الحكم في الاتحاد الروسي رجل الاستخبارات الروسية، فلاديمير بوتين، أو الكادر السياسي الذي مازال يتبع نهجاً يقضي بالعمل على استعادة نفوذ روسيا الذي كانت قد فقدته مع زوال الكيان السوفييتي، سواء ضاع هذا النفوذ على مستوى جمهوريات وسط آسيا أو دول شرقي أوروبا التي عملت في تلك الفترة على الالتحاق بعضوية حلف »ناتو«، فضلا عن جهود بوتين في استخدام الميزة النسبية التي تتمتع بها روسيا على الصعيد الإقليمي في أوروبا وربما على المستوى الدولي أيضاً، وهو ما يتمثل في إنتاج الاتحاد الروسي الوفير من البترول والغاز الطبيعي.

قوة مثيرة للقلق

المشكلة كما توضح المؤلفة كذلك هي أن مسار العلاقات بين واشنطن وموسكو لم يعد يشكل نهجاً واحداً ولا يتبع خطاً مستقيماً: فإلى جانب الدور المفروض أن يضطلع به الجانبان في مواجهة ومقاومة لعنة الارهاب المسلح، هناك أيضاً العوامل المستجدة التي تقف عندها المؤلفة عندما تعرض الضغوط التي لا تفتأ تمارسها دول شرقي أوروبا ووسطها معبرة في ذلك من خشيتها إزاء تنامي قوة روسيا، ومن ثم احتمال أن تعاود موسكو إخضاع أو ضم تلك الأقطار الشرق أوروبية إلى مناطق النفوذ الروسي من جديد.

تأليف: أنجيلا ستنت

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: جامعة برنستون، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 384 صفحة

Email