جيل اللاتينو في أميركا

لاتينيو أميركا يتحولون إلى أكبر تجمعات الوافدين

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتناول هذا الكتاب قضية الأقلية الأكبر عدداً في المجتمع الأميركي المعاصر.

وتتمثل في جموع المهاجرين من ربوع أميركا اللاتينية وما جاورها من مناطق أميركا الوسطى، المطّلة على مياه البحر الكاريبي.

ويتابع الكتاب أنماط موجات الهجرة الوافدة من تلك المناطق على حدود الولايات المتحدة الأميركية منذ أيام القرن التاسع عشر، وبالذات مع سنوات القرن العشرين.

وقد عمد مؤلف الكتاب إلى تصنيفها، حسب ظروف زمن الهجرة، ما بين مرحلة الكساد الاقتصادي في ثلاثينات القرن الماضي إلى الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن المذكور، موضحاً في هذا السياق كيف أن جيل اللاتينو الذي اختاره عنواناً للكتاب هو الجيل الناشئ عن جيل مهاجري الستينيات إلى الثمانينات، حيث تمتزج الثقافات الأميركية الإنجليزية مع الإسبانية اللاتينية.

وعلى الجانب الآخر من هذه المعادلة الديمغرافية يرصد الكتاب مشكلات وسلبيات اللاتينو الأميركيين، موضحاً كيف يسود بين صفوف الدارسين من أبنائهم ارتفاع نسبة التسرب من المدارس، فضلاً عن وقوع أفراد منهم في براثن ارتكاب الجريمة وتعاطي المخدرات إلى جانب آفة الحمل المبكر بين المراهقات بكل ما ينجم عن ذلك من مشكلات.

ثم يخلص الكتاب إلى تأكيد أن عنصر اللاتينو يشكّلون في رأي المؤلف مستقبل الولايات المتحدة، وهو ما يدعو في تصوره أيضاً إلى الإصغاء لأصواتهم ومشكلاتهم وتصوراتهم للمستقبل، ومن ثم فقد جاء الكتاب لينشر هذه التصورات من واقع الشهادات الواقعية التي أدلى بها عدد من الشباب والشابات اللاتينو، على نحو ما ضمته الفصول والصفحات.

أميركا عرفها العالم باسم »العالم الجديد«، أو »الدنيا الجديدة«. وبديهي أنها كانت جديدة، لأن قروناً وعقوداً لا حصر لها من عمر الزمن انقضت ولمّا يعرف الناس من خارطة عالمهم سوى قارات الزمان القديم، وكان أهمها وأشهرها آسيا وإفريقيا وأوروبا ثم أضيف إليها كل من أستراليا التي اكتشفها البحار الإنجليزي المغامر كابتن جيمس كوك (1728ـ1779) وجاء تاريخ هذا الاكتشاف في عام 1770، فضلاً عن أميركا الجنوبية الواقعة بداهة في الأصقاع الغربية من المحيط الأطلسي، أو بحر الظلمات كما كان الناس يعرفونه في ذلك الزمان القديم.

ومع حلول العقود الأولى من القرن السادس عشر، بدأ الناس يتسامعون عن أصقاع جديدة بدورها تقع إلى الغرب من المياه الأطلسية، وبرغم أن هناك من حوليات تاريخ تلك الحقبة ما يشهد برحلات قام بها رحالون من العرب إلى تلك التخوم الواقعة في الشق الغربي من الكرة الأرضية، الهيميسفير كما أصبحت تسمى، إلا أن هذه التخوم أصبحت أو كادت تصبح على كل لسان، وخاصة بعد رحلة كريستوفر كولمبوس الشهيرة في صيف وخريف 1492 إلى ما كان يتصوره الرحّالة المذكور بأنه التخوم الهندية، فإذا بسفينته ترسو عند مناطق أخرى تطل على المياه المتداخلة ما بين المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي ومنها مثلاً جزر »كايمان«. على كل حال، فقد أذنت رحلة كولومبس بما أصبح يعرف بأنه اكتشاف أميركا أو العالم الجديد.

ولأنه كان »جديداً«، فقد كان طبيعياً أن يكون مقصداً لجحافل المضطهدين دينياً ومذهبياً وطائفياً وعقائدياً في المواقع المهيضة من غربي القارة الأوروبية، ولا سيما من سكان إيرلندا الذين بادرت رحلاتهم إلى الإبحار غرباً في طريقها إلى شمال شرقي القارة الأميركية الشمالية.

كان ذلك في مطلع القرن السابع عشر، وفي هذا الإطار دخلت سفينتهم »ماي فلاور« سجلات التاريخ الأميركي بوصفها طليعة الهجرات الأوروبية إلى الكيان المستجد على تاريخ العالم ليحمل اسمه المعروف الولايات المتحدة الأميركية.

كيان تصوغه الهجرات

والحاصل أن الكيان المذكور ظل يتشكل سكانياً بفضل وفود هجرات متوالية وإضافات سكانية متدفقة من كل أركان عالمنا، وإن كان أهمها تلك التدفقات التي وفدت إلى أرض أميركا الشمالية من جهة الجنوب.

وعلى مدار القرون الثلاثة التي انقضت، وفي ظل هذا المدّ المتواصل من حيث حجمه وأنماط تدفقه من الأصقاع الجنوبية اللاتينية كما يسمونها إلى أميركا الشمالية أرض الأحلام بالنسبة لهؤلاء المهاجرين، الناطقين في أغلبيتهم العظمى باللغة الإسبانية، وكانت لسان القوة الإمبريالية التي ظلت تسيطر، بالاحتلال الاستعماري والثقافي أيضاً، على مقاليد أغلب أرجاء القارة الجنوبية اللاتينية كما أسلفنا استمر في الازدياد، حجم اللاتينو، كما وصفهم سكان أميركا الشمالية بلسانهم الإنجليزي، وخاصة مع سنوات القرن العشرين، حيث لا يزال عنصر اللاتينو هو الغالب في قطاع الأعمال الحِرفية (بكسر الحاء).

وفي مجالات الأعمال اليدوية وشبه اليدوية، إضافة إلى قطاعات الخدمات والأنشطة اليومية التي تدور رحاها مع مطلع كل شمس في مياه المجتمع الأميركي الراهن. وفي ضوء التفاعلات الطبيعية، ظل هؤلاء اللاتينو محصورين بين عاملين ما برحا يؤثران في أنماط حياتهم وأساليب معايشهم وآفاق تطورهم، وهذان العاملان هما:

(1) أن اللاتينو يشكلون أكبر جماعات الأقلية في الولايات المتحدة، ولدرجة أن يقدّر الخبراء أن يحل عام 2050 ليشهد فرداً لاتينياً من بين كل ثلاثة من أفراد الشعب الأميركي.

(2) أن هذه الكثرة العددية، لايزال أفرادها معرضين لسلبيات النظرة الاستعلائية من جانب قطاعات الشعب الأميركي، ما بين التعامل معهم من واقع صورة القوالب النمطية الجامدة والجاحدة أيضاً (ستريوتايب)، وأيضاً من منظور تصورهم بأنهم لم يفلحوا بعد في أن يصيروا أميركيين بمعنى الكلمة، في ازدراء مكتوم أحياناً، بل ومكشوف في أغلب الأحيان بشأن أصولهم الناشئة كما ألمحنا في تخوم الجنوب.

جيل اللاتينو

في ضوء هذه الأوضاع، بادر البروفيسور ماريو غارسيا، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، إلى تأليف الكتاب الذي نصاحبه، أو يصاحبنا، في هذه السطور.

الكتاب يحمل العنوان التالي: جيل اللاتينو، بعدها يبادر المؤلف ليردف عنواناً فرعياً لا يخلو من دلالة، وهو: أصوات أميركا الجديدة.

والدلالة تتلخص بداهة في أن كتابنا يصدر عن إرادة للتفاعل مع الأجيال الناشئة والعناصر الفتيّة الطالعة بين صفوف مجتمع اللاتينو في الولايات المتحدة، وهي بالطبع عناصر الجيل الثاني أو الثالث ممن تُعد أميركا (الشمالية) مسقط رأسهم، ومن ثم فاللغة الإنجليزية هي لسان نشأتهم وإن كانت هذه النشأة لا تخلو بطبيعة البيئة العائلية والمناخ الثقافي المنزلي من آثار اللغة الإسبانية والأعراف اللاتينية التي جاءت بها أجيال الآباء والأمهات من مواقع أصولهم السابقة، الممتدة ما بين المكسيك (في طرف أميركا الشمالية ذاتها) وأيضاً من واقع أميركا الوسطى (الكاريبية) ثم أميركا الجنوبية (اللاتينية).

وكان طبيعياً أن يؤكد المؤلف أن أصحاب هذه الشهادات، الإفادات من أبناء المهاجرين، القادمين كما ألمحنا من أقطار الجنوب، سيكون منهم أطراف من اللاعبين المحوريين كما يصفهم أيضاً على مدار الفصل القادم من سجل تاريخ الولايات المتحدة.

أفراد من الواقع

وفي سياق هذه العروض الموضوعية التي قدمها المؤلف عبر الفصول والصفحات يحرص الكتاب على نحو ما لاحظ المحللون أيضاً على إيضاح أن الدراسة المعروضة بين دفتيه لا تتعامل مع الشباب اللاتينو على أنهم مجرد فئة عمرية ولا عيّنة ديموغرافية يضمها مجتمع الولايات المتحدة: إنهم بالأحرى أفراد حقيقيون، تراودهم آمال وأحلام وتساورهم هواجس وشواغل، وتدفعهم أفكار وتطلعات على نحو ما هي الحال بالنسبة لسائر فئات المجتمع الأميركي الراهن سواء بسواء.

من هنا جاء حرص المؤلف على أن تتجاوز هذه الدراسة فكرة القولبة أو التنميط التي كثيراً ما يلجأ إليها بعض الساسة، وربما بعض راسمي السياسة، أو صانعي القرارات في الولايات المتحدة، ومنهم من لم يتورع خلال أشهر قليلة مضت عن دمغ المهاجرين اللاتينو من المكسيك إلى أميركا بتهم شتى ما بين ارتكاب الجرائم واقتراف الموبقات وتهريب المخدرات، وذلك على نحو ما فعل المرشح الجمهوري المعروف، دونالد ترامب.

في هذا الإطار يشدد مؤلف الكتاب، وهو في الأصل أستاذ لعلم التاريخ، على أن التاريخ ليس فقط هو ما حدث (في الماضي) بقدر ما أنه أيضاً ما يحدث (في الحاضر) وما عساه يحدث أيضاً (في المستقبل).

وهذه النظرة هي التي أوحت للمؤلف بأن يحلل القصص والآراء والتصورات والأفكار التي أدلى بها الشباب والشابات المنتمون إلى عائلات هاجرت في السابق من أرجاء عالم أميركا اللاتينية، وحمل أفرادها، حسب مصطلح أميركي آخر وصف الهسبانك (أو المتأسبنون) في إشارة لا تخلو من إيقاع بالتمييز العنصري، ثم ها هم أبناؤهم وبناتهم يشبّون عن الطريق ويتعلمون ويتخرجون، ومن ثم يخرجون إلى نهر الحياة العريض في الولايات المتحدة التي لا يعرفون وطناً سواها.

صحيح أنهم درسوا واجتهدوا وتخرجوا إلا أن هذا الكتاب يعمد عبر صفحاته وسطوره إلى تذكيرهم بأن عليهم أن يتولوا مسؤولية رفع الحواجز التي ما زالت تنطوي على قدر من التمييز بينهم وبين المنحدرين من أصول أوروبية.

مرة أخرى ينبه المؤلف، عبر مواقع عدة من الكتاب، إلى خطورة التنميط أو إصدار أحكام مسبقة على الأفراد استناداً إلى لون البشرة أو منطوق الاسم، ناهيك بالطبع عن الديانة أو المذهب أو الأصول الإثنية وما في حكمها.

عن تعاقب الأجيال

في كل حال يعمد مؤلف الكتاب، مستخدماً في ذلك منهجه الأكاديمي، إلى تقسيم الناطقين بالإسبانية إلى فئات ثلاث:

(1) جيل المهاجرين، وهو الجيل الذي وفد إلى أراضي الولايات المتحدة مع سنوات القرن العشرين. وجاء تحديداً من خلال موجة وافدة من المكسيك يطلق عليها مؤلفنا وصف »الجيل المهزوم«. لماذا؟ لأنه الجيل الذي اندفع عبر الحدود من المكسيك إلى أميركا، بعد هزيمة المكسيك على يد حكام واشنطن ومسلحيها في أربعينات القرن التاسع عشر.

(2) جيل الأميركيين المكسيكيين (المكسيكو- أميركان)، وقد جاءت موجاته خلاله أزمات الكساد الاقتصادي الفادح ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية عبر سنوات الثلـــاثينات والأربعينات من القرن العشرين.

(3) جيل الشيكانو الذي يتألف من مهاجري الستينات والسبعينات والثمانينات القادمين بدورهم من أميركا الوسطى (الكاريبية) وأميركا الجنوبية (اللاتينية).

وهذا هو الجيل الذي أنجب الجيل الشاب الجديد الذي تتعامل معه فصول الكتاب: هو جيل اللاتينو الذي نشأ في غمار تحولات العولمة وثمرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وزيادة احتياجات الاقتصاد والمجتمع الأميركي بشكل عام، إلى ما يصفه كتابنا بأنه مزيد من العاملين في صناعة الخدمات.

ثم إن هذا الجيل الأخير، الشاب كما نؤكد باستمرار، بات يشكل أكبر أقلية ديموغرافية في مجتمع الولايات المتحدة الراهن. ومن شأن التطور المقرر أن يطرأ على حياة أفراده، والنمو المفروض أن يستجد على أفكاره ونزعاته ومساهماته وأساليب تفكيره وسلوكيته، أن يسفر بالتالي عن تغيرات جذرية تتجلى آثارها على الصعيدين الاجتماعي والسياسي في المجتمع الأميركي، سواء من حيث تطور أسواق الإنتاج والاستهلاك والتصدير والاستيراد، أو من حيث التغيير المرتقب في حجم الكتل التصويتية المؤثرة بالضرورة في خيارات المرشحين ومسارات السياسة بشكل عام.

شباب ينطلق على جسر الدراسة

يتأمل المؤلف، على سبيل المثال، كيف استطاعت ألما كورتيز لارا، الفتاة التي هاجر بها والدها من المكسيك، ولّما تكن قد أكملت من عمرها سوى عام أو عامين. ثم عاشت في أفقر أحياء المدن بولاية كاليفورنيا، وكان طبيعياً أن تشبّ على تعلم الإنجليزية، وهو ما أتاح لها كما يضيف الكتاب أن تتولى مهمة الترجمة بين الإنجليزية والإسبانية (لغة والديها التي لم يعرفا سواها) ولا عرفا مهنة سوى الأعمال الزراعية التي كانت مصدر الدخل الوحيد لتربية الابنة التي شاءت حظوظها الطيبة أن تبتعد عن سائر أخطاء، وربما خطايا، مجتمع المهاجرين اللاتينو التي يصنّف الكتاب أسوأها متمثلاً في فخ المخدرات، تعاطياً أو اتجاراً، وأيضاً في فخ العمل المبكر للمراهقات في مجتمع المهاجرين، والحاصل أن تخرجت لارا، حيث تعمل حالياً معلمة في مدارس الحي الفقير الذي شهد هجرة والديها ونشأتها التي أحدقت بها صنوف المعاناة.

يعرض الكتاب أيضاً حكاية الفتى أميلكار راميريز، ويوصف في أميركا بأنه مورينو بمعنى أنه لاتينو، ولكن داكن البشرة. ويصفه الكتاب بأنه دأب طوال سنوات شبابه على أن يخوض في أمواج مجتمع كان يتعامل معه على أساس قاعدتين، إما أنه »أسود« أو أنه »أسمر«.

هاجر أبواه من موطنهما الأصلي في هندوراس أميركا الوسطى بعيداً عما كان يشهده البلد المذكور من توترات وأوضاع مأساوية، إلى بيئته الأميركية الجديدة في لوس أنجليس. ظل الفتى راميريز يراوح في مـــعاناته بين حكاية لون السواد أو لون البني الغامق، لكن بفضل كفاح أبويه أمكنه أن يتغلب على هذا كله دون أن يقع في مهاوي الجريمة أو المـــخدرات، بل واصل الدراسة ليتخرج في كلية الحقوق محامياً، وليصرّح في إفادته المنشورة بالكتاب بأنه يتهيأ لممارسة المهنة متخصصاً كما أضاف في قوانين الهجرة، بكل ما ينطوي عليه ذلك من دفاع عن حقوق المهاجرين

تجارب ومشكلات

يرجع اهتمام المحللين السياسيين بصدور هذا الكتاب إلى أهمية المنهج العلمي الذي اتّبعه المؤلف في التعامل مع حقائق الموضوع: الدكتور ماريو غارسيا لم يكتف بعرض للحقائق مشفوعاً بدرس أو تحليل، لقد استند في مادة هذا الكتاب إلى دراسة ميدانية كما نسميها، حيث دأب طوال سنوات على استقاء وتجميع شهادات وإفادات، أدلى بها العديد من أفراد الأجيال الشابة المنتمية إلى مجتمع اللاتينو في الولايات المتحدة.

وفي إطار هذه الشهادات أتاح مؤلف الكتاب لهؤلاء الشباب أن يسهبوا في الحديث عن تجارب خاضوها ومواقف تعرضوا لها، وأزمات أو مشكلات كان عليهم أن يواجهوها.

المؤلف

البروفيسور ماريو غارسيا مثقف أميركي من أصل لاتيني، يعمل حالياً أستاذاً للدراسات المكسيكية اللاتينية (المعروفة في أميركا باسم الشيكانو) في جامعة كاليفورنيا غربي الولايات المتحدة. وقد تخصص أيضاً في علوم التاريخ. ولقد درس المؤلف في جامعة تكساس التي نال فيها درجتي الليسانس والماجستير في تاريخ أميركا اللاتينية، كما حصل على الدكتوراه في تاريخ العلاقات بين أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو.

تأليف: ماريو غارسيا

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: جامعة نورث كارولينا، نيويورك،2016

عدد الصفحات: 288 صفحة

Email