حرب المستقبل

حروب المستقبل توظف شبكات كشف النوايا

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

 يتعامل هذا الكتاب مع الحرب باعتبارها مساراً متلازماً عبر التاريخ مع حياة البشر من أفراد وشعوب، بحيث يحيل معها الكتاب إلى فيلسوف إغريقي يرى أن البشر يعيشون فيما يكاد يكون حالة متواصلة من النزاع العنيف بأشكال متعددة، ولدرجة أن السلام هو الاستثناء. ويسود فصول الكتاب نهج يجمع بين تقصّي تواريخ الحروب والنزاعات العسكرية، وبين الإحالة إلى سائر ثمار الحضارة البشرية من دراسات استراتيجية وإبداعات أدبية وفنية وبحوث في التاريخ وأعمال في مجالات الفلسفة والانثروبولوجيا الدارسة للبشر، وتدعو فصول الكتاب الستة إلى أن يتوازى البحث التحليلي مع الانطلاق من رؤية صادرة عن نهج الخيال العلمي في التعامل مع قضايا وظواهر الحرب، على نحو ما سبق إليه الكاتب الانجليزي المعروف .ج. ويلز، الذي كان رائداً في التعامل مع رؤى المستقبل. كما يحفل الكتاب بأفكار ترى أن حروب المستقبل من شأنها أن تمتد لتشمل مناطق شتى، متقدمة ونامية ومتخلفة من عالمنا، بل ويمكن أن يتسع نطاقها وتدور رحاها إلى خارج مدار كوكب الارض، مستخدمةً في ذلك أحدث ما أبدعته تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من إمكانات ما بين سبل الاتصال السوبر، متقدمة إلى كائنات الذكاء الاصطناعي (الروبوت).

حتى في أيام الجاهلية، كانت الحروب بكل صراعاتها ومآسيها وعواقبها، مثاراً للتعليق وشعور الخطر واستباق الكارثة، ولم يكن صدفة إذن أن يحذر من عقابيلها الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في مقولته الشهيرة: »وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم«، وعلى مر القرون والأزمنة، ازدادت صراعات الحروب تشابكاً وتعقيداً، خاصة في ظل ما اصطنعه البشر من منجزات العصر الصناعي، متمثلة في آلات الحرب الحديثة التي تستخدم طاقات البخار والكهرباء وما في حكمها.

وفي كل الأحوال ظل المفكرون وصانعو القرار منشغلين بمستقبل الحروب. خاصة مع مطلع القرن العشرين، الذي وفد على عالمنا مبشراً ومنذراً في آن معاً، بما يمكن أن تستخدمه صراعات الحروب من آلات الدمار ما بين السيارة إلى الطائرة إلى المدرعة، إلى الدبابة وما في حكمها.

وفيما كانت نذر الصراع الكوكبي تتجمع في الأفق حيث أفضت إلى الحرب العالمية الأولى (1914، 1918)، كان ثمة مفكر وأديب إنجليزي منشغلا بمستقبل الحرب وآفاق الصراعات التي تندلع بين النظم والدول والبشر: كان اسمه ورج هربرت ويلز، وقد دخل الرجل سجل التاريخ الابداعي المعاصر تحت اسمه الاشهر: .ج. ويلز (1866، 1946) مرتبطاً بنزعة التنبؤ، العلمي إن شئت، بآفاق المستقبل، ولدرجة أن أصبح الاختصاصيون يصنّفون ويلز على إنه رائد المستقبليات، خاصة بعد قيامه بنشر واحد من أفضل كتبه وهو التنبؤات الذي عرض فيه لما وصفه ويلز بأنه أثر التقدم الميكانيكي والعلمي على حياة وأفكار البشر.

ولقد جاء الفصل السادس من الكتاب المذكور ليحمل عنواناً مباشراً لا يخطئ المرء دلالته وهو: الحرب في القرن العشرين.

وفي سطور الفصل المذكور توقّف الكاتب المذكور ملياً، ومن منظور يجمع بين خيال الاديب وموضوعية المحلل، عند تداعيات دخول الطائرة حياة البشر، بحيث يتاح استخدامها وسيلة سحرية لنقل الركاب، فيما يتم بالضرورة استغلالها أداة فادحة الخطورة للهجوم والدمار في ساحات الحروب.

حرب المستقبل

نشر الكاتب الانجليزي كتابه المذكور في عام 1901. وبعد هذا التاريخ بأكثر من 100 سنة يصادفنا كاتب إنجليزي آخر ليصدر كتاباً تحت العنوان التالي: »حرب المستقبــل«.

وفيما عرض ويلز للطائرة التي كانت مستجدة في مهدها حين نشر كتابه الذي ألمحنا إليه، فإن كاتب حرب المستقبل وهو الأكاديمي الإنجليزي كريستوفر كوكر أصدر أخيرا كتابه الذي نعايشه في هذه السطور، بينما اكتملت، أو كادت تكتمل، منظومات القرن الواحد والعشرين المستجدة بل والمذهلة في بعض الاحيان: ما بين الحواسيب الالكترونية إلى الطائرة غير المأهولة بطيارين من البشر، إلى أحدث وأدق القذائف ذاتية التوجيه، والصواريخ التسيارية ثم كائنات الذكاء الاصطناعي ( الروبوت) إلى آخر ما لاتزال تفرزه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مع توالي هذه العقود الاستهلالية من هذه الالفية المستجدة في حياة عالمنا.

كتابنا حرب المستقبل- يتألف من 6 فصول، تسبقها مقدمة يطرح فيها مؤلفنا البروفيسور كريستوفر كوكر سؤالا بديهياً هو: من يملك المستقبل؟

بعدها تتوالى فصول الكتاب على النسق التالي:

(1) التحديق (بالتأمل) في المستقبل

(2) بين الماضي والآتي

(3) صعود الماكينات

(4) المتاهة الاخلاقية

(5) منطقة القتل

(6) ما بعد عام 2035

وعبر هذه الفصول الستة يعمد المؤلف إلى مصاحبة قارئيه في رحلة طويلة المسافة ومتنوعة الأغراض، بقدر ما أنها باعثة على قدر لا ينكر من القلق، إن لم يكن الخشية العميقة إزاء ما يمكن أن يعد به، أو بالأدق يُنذر بوقوعه مستقبل البشرية من تعقيدات الصراع العنيف هنا أو هناك، ويتمثل هذا النذير في قدرة البشر على نحو ما يحذر منه كتابنا على اكتشاف واصطناع واستخدام أدوات وسبل غير مسبوقة في إدارة الصراع العنيف على مستوى العالم، ومن ذلك مثلا التوصل كما يقول هذا الكتاب- إلى شبكات سيبرانية تستخدم قدرات حواسيب سوبر متقدمة، لقراءة ما عساه يدور في أذهان العدو من أفكار، وربما لاستطلاع واستباق ما يمكن أن يُقدم عليه الخصم من قرارات.

الحرب بعيداً عن كوكبنا

في السياق نفسه، تتساءل طروحات كتابنا عما إذا كانت المخترعات السوبر المتقدمة كفيلة بأن تخرُج بحرب المستقبل عن حدود كوكب الأرض، فإذا بالبشر وقد تجاوزت صراعاتهم المسلحة حدود هذا العالم إلى حيث احتدامها وتفاعلها وصراعاتها في ساحات وأصقاع وأرجاء بعيدة عن كوكب الأرض.

في غمار هذا كله، يحرص مؤلفنا على تسجيل ملاحظة تجمع في تصورنا بين الأهمية والطرافة، ومفادها ما يلي: إن هناك من آلات وأدوات الحروب ما سوف يستغرق وقتاً طويلا قبل أن يوضع موضع الاستخدام أو التنفيذ: انظر مثلا إلى قاذفات اللهب، لقد اكتشفها البشر منذ القرن التاسع للميلاد، لكن لم يتسع استخدامها في معارك الحرب إلا بعد ألف سنة من اكتشافها، وبالتحديد خلال معارك الحرب العالمية الأولى (1914، 1918).

تباطؤ مسيرة المستقبل

حتى الطائرات غير المأهولة بدون طيار، بدأ ظهورها خلال حرب أميركا في فيتنام في ستينات القرن العشرين. ولكن كان عليها أن تنتظر عبر خمسين عاماً أو نحوها إلى أن يسود استخدامها مع سنوات العقد الأول من القرن الجاري.

لهذا يطالعنا المؤلف بملاحظة يقول فيها إنه أدرك، من خلال الدراسة والمتابعة التاريخية، أن المستقبل ربما يركن إلى حالة من التباطؤ عند هذه المحطة أو تلك من منعطفات التاريخ، خاصة وأن التوصل إلى متغيرات الحروب، بمعنى المستجدات غير المسبوقة أو التحولات الجذرية، وربما غير المتوقعة، إنما تقتضي رصد اعتمادات طائلة وحشد طاقات أكثر من مضنية من ناحية البنود المالية والموارد البشرية والجهود العالمية على السواء.

هنا لا يتورع المؤلف أيضاً عن الدعوة إلى أن ينشغل البشر، كل البشر، بأمر الحروب خاصة، وأن تاريخ البشر تحكمه في تصور البروفيسور كوكر، سلسلة من الصراعات العنيفة والمواجهات المسلحة. وفي هذا الخصوص يقتبس المؤلف عبارة أطلقها عن المؤرخ اليوناني القديم توسيديدس، وهو أكبر مؤرخي حروب الزمان القديم وعاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وقال فيها: السلام هو هدنة تحلّ في سياق حرب لا تزال تدور رحاها.

خطيئة طيار

المنظور الأقرب إلى التشاؤم في فهم تاريخ البشرية إنما يحيل إلى درس الطائرة التي اخترعها الشقيقان الأميركيان ويلبور وريتشارد رايت في عام 1903. لم يكن هناك في تلك الفترة الباكرة من القرن الماضي مَن يتصور أن الطائرة التي احتفلت بها البشرية وقتها سوف تتحول من وسيلة ناجعة، لمّاحة وميسورة، لقطع المسافات عبر الأقطار والمحيطات والقارات، إلى حيث تصبح آلة قاذفة للقنابل بكل أنواعها.

هنا يعبر كتابنا المسافة الزمنية الفاصلة بين عام 1903 الذي شهد تحليق أول طائرة في العالم، وعام 1911 الذي شهد للأسف فكرة خبيثة راودت طياراً إيطالياً كان يحلق وقتها فوق الأراضي الليبية، وحين صادف الطيار المذكور معسكرات تركية هناك، قرر إسقاط عدد من القنابل في تلك المنطقة، صحيح أن هذه الفِعلة لقيت في تلك الفترة حالة شاملة من الشجب والاستنكار على المستوى العام، حيث تعاملت معها أطراف العالم على أنها انتهكت الأعراف التي كانت مرعية في إدارة الصراعات بين الدول، لكن ما إن انقضت سنوات ثلاث، بل وأقل قليلا، حتى اشتعلت نيران الحرب العظمى الأولى التي اكتوت بأتونها دول وشعوب وامبراطوريات، وكان للطائرة أدوارها البارزة، للأسف، في سياق ذلك الصراع الدولي.

هنالك تحولت الطائرة من آلة لتيسير حياة البشر إلى ماكينة لتدمير ما أمكن للبشر أن يشيدوه من صروح التقدم، فضلا عن إزهاق حياة البشر أنفسهم. وفي هذا الإطار يفاجئنا المؤلف أيضاً بسؤال مطروح هو: ترى هل يمكن أن نركّب ضمائر ومشاعر داخل الآلات الالكترونية العجيبة وفي سائر كائنات الروبوت التي مازالت واعدة في حجب المستقبل؟

على كل حال، تخلُص رؤى هذا الكتاب إلى القول بأن الأهم بالنسبة لفكر المستقبل هو ما يتمثل في ضرورة وعي الدروس المستفادة من الماضي، وهي دروس مريرة من حيث اندلاع الصراعات المسلحة، مع إطلاق العنان للتصورات التي تراود مبدعي أعمال الخيال العلمي ممن تتوافر لديهم الرؤى التي يحاولون من خلالها استشراف وعود هذا المستقبل، لعلهم يوفّقون إلى مسار مبتكر يؤدي إلى تجنيب البشرية ما تنطوي عليه الحروب من مآس وآلام.

المؤلف

البروفيسور كرستوفر كوكر مفكر وأكاديمي إنجليزي. يعمل أستاذاً للعلاقات الدولية في كبري الجامعات العالمية . وتتميز مؤلفاته بأنها تجمع بين النهج العلمي الاكاديمي، فيما تصدر كذلك عن استخدام الرؤى الابداعية التي تؤدي إلى توسيع آفاق التصوّر بالنسبة لمراحل المستقبل، ومنها كتابه عن الصراع في أفغانستان وكتابه عن حلف »ناتو« وإفريقيا، فضلا عن كتابه بعنوان: »إمبراطوريات تتصارع: الانشقاق المتسع بين أوروبا والولايات المتحدة«.

استمرار مضامين الصراع قاعدة تفرض نفسها

المقولة المستمدة من خبرة الزمن الاغريقي القائلة إن تاريخ البشر تحكمه الصراعات الضيقة هي التي تدفع مؤلف كتابنا إلى التأكيد على أن معارك الحروب كثيراً ما تشتعل في مواقع قد تكون بعيدة عن أراضينا، ومع ذلك فلا سبيل إلى أن يتصور المرء أنه يعيش في ظل أحوال السلام.

وهذا هو الذي يجعل من الحكمة أو من الضروري أن يتسلّح الناس هنا أو هناك بفهم معقول لطبائع الحرب وعواقبها. ربما نتفق مع هذا الطرح خاصة في عصرنا حيث انجابت أسوار العزلة، وكادت تزول الحدود التي طالما كانت فارقة بين الأقطار والقارات، وحيث أصبح البشر يعيشون على سطح كوكب تحوّل بفضل ثورات الاتصال إلى قرية عولمية إلكترونية واحدة على نحو ما قال به الاختصاصيون.

وهذا هو الذي دفع مؤلف كتابنا إلى الإطلالة على ظاهرة حرب المستقبل، دون الاقتصار على جوانب الأسلحة والجيوش والاستراتيجيات العسكرية وما في حكمها، ولكنه اختار أن يتعامل مع مستقبل الحرب من واقع منظور ظل يحيل عبر فصول الكتاب إلى تخصصات تجمع ما بين علم الاجتماع وعلم النفس وحوليات التاريخ ومنجزات العلم التطبيقي وإبداعات الأدب (وخاصة ما يتعلق بالخيال العالمي) فضلا عن دراسات الانثربولويا المعنية بالكائن البشري.

من الناحية الأخرى، يلاحظ قارئ الكتاب أن المؤلف، بحكم هذا النهج الشامل في معالجة الموضوع، لا يملك سوى إصدار ملاحظة تحذر، ولو على استحياء علمي، بأن العقود المقبلة من هذا القرن الواحد والعشرين جديرة بأن تنطوي على استمرار الصراعات البشرية وبطرق من المستبعد في رأي البروفيسور كوكر، أن تكون أقل عنفاً أو دموية أو تدميراً مما سبق وشهدته حياة البشر فوق سطح كوكبنا في ضوء ما سبق واندلع من حروب وصراعات.

صحيح أن الأساليب التكتيكات قد تتغير، وصحيح أن الوسائل قد تتبدل من حيث استخدام ثمار التكنولوجيات الحديثة، على نحو ما أسلفنا. وصحيح أن ساحات الوغى، كما يسمونها قد تنتقل إلى خارج مدار الكوكب الأرضي. لكن الأصح هو استمرار مضامين الصراعات، وهو أمر يؤكد المؤلف على إدراكه والتعمق في فهمه بحيث يؤدي هذا الفهم إلى ترشيد مواقف القادة والزعماء ومن ثم إلى تخفيف العواقب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

التنبؤ باختيار ممارسة الصراع

يعمد مؤلف الكتاب إلى الهبوط من التحليق مع الحرب في الكوكب خارج المجرة التي نعرفها، فإذا بتنبؤات كتابنا تنزل إلى حيث التنبؤ باختيار ممارسة الصراع الحربي العنيف، والمأساوي أيضاً، ولكن على صعيد أقطار العالم النامي المتخلفة والفقيرة، بمعنى أن الكبار في عالمنا وكوكبنا سوف يعمدون إلى تصفية حساباتهم وتحقيق مآربهم في دوامات حروب، تندلع وتتوهج لكن بعيداً عن مدنهم وموانيهم ومواقعهم المتقدمة والمتاحة، فيما يمكن أن يمارسوا لعبة الحرب الفتاكة على أراضي فقراء عالمنا، أي على حساب ما يصفه مؤلف هذا الكتاب بأنها مواقع الثقوب السوداء التي ما برحت تعاني شظف المعيشة وتُكابد حالة النبذ الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي بين سكان كوكب لايزال يضم أفدح أوضاع الظلم واللامساواة.

تأليف: كريستوفر كوكر

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة ويلي بلاكويل، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 176 صفحة

Email