الرصيد الأخضر

الوعي البيئي سبيل لحفظ الحياة على كوكبنا

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

على خلاف المعهود بالنسبة للكتب والدراسات المتعلقة بقضايا البيئة الكوكبية، يأتي هذا الكتاب الذي وضعه اثنان من العلماء الفرنسيين، وليس الأميركيين الذين ما برحوا يتصدرون الدعوات البيئية إيجاباً وسلباً، وخاصة من خلال الفعاليات التي تتولى أمرها منظمة الأمم المتحدة من مقرها الأساسي في نيويورك.

وعبر فصول وصفحات الكتاب يذهب المؤلفان إلى أن المشكلة الراهنة تتجسد في حقيقة أن الخطر الأكبر لا يقتصر على المساس بحجم الموارد المتاحة في كوكبنا، ولكنه يتمثل في الإخلال الذي يمكن أن يُلحقه البشر بالنظم الطبيعية التي تدير حركة ونواميس ووظائف هذه النظم، فيما يدعو الكتاب أيضاً إلى الأخذ بأسلوب التسعير، ومن ذلك مثلاً تفعيل ضريبة الكربون كما أصبحت معروفة في الدول الصناعية المتقدمة، لا بقصد تجميع الأموال وحسب، ولكن لتحقيق غاية مهمة أخرى تتمثل في تعميق الوعي لدى الجماهير بخطورة الضغط على الموارد الطبيعية، ومنها مثلاً موارد المحيطات من الأسماك وسائر الأنشطة البحرية، فضلاً عن التدليل على عدم إنهاك النظم الطبيعية مثل الغلاف الجوي المحيط بالكوكب، حيث لم يعد هذا الغلاف قادراً على استيعاب كل ما تبعثه الأنشطة الصناعية للبشر من غازات الكربون بكل أضرارها بالنسبة لاستمرار الحياة.

بين 3 يونيو 1992 و25 سبتمبر 2015 عاش العالم حقبة زمنية استدعت إذكاء الوعي بقضايا البيئة التي يعيش كوكبنا في ظلها، بكل ما أصبح يحّف بها من مشكلات وما يصادفها من عقبات وما يواجهها من تحديات.

يسمونه الوعي الأيكولوجي. والمصطلح الأخير مستمد من أصل في اللغة اليونانية ينصرف إلى معنى »إيكوس« أي »البيت« أو الوسط المحيط بمعيشة الكائنات الحية وفي مقدمتها الإنسان بطبيعة الحال.

في عام 1992 انعقد في الحاضرة البرازيلية الشهيرة ريودي جانيرو أهم تجمع شامل حمل يومها العنوان التالي: المؤتمر العلمي للبيئة والتنمية.

وكان طبيعياً أن يسفر المؤتمر المذكور عن وثيقة محورية حملت بدورها عنوان إعلان ريو. وهذا الإعلان كان بمثابة عهد، ميثاق اجتمعت حوله كلمة الأطراف العالمية على وضع قضية البيئة في بؤرة اهتماماتها وخاصة لدى ممارسة عمليات التخطيط للمستقبل.

ومع توالي الأيام، وفي ضوء متغيرات الظروف التي لحقت ولاتزال تلحق بكوكب الأرض، كان على العالم أن يعاود الاهتمام بقضايا البيئة، وهو ما تجلى فيما شهده التاريخ الآخر، متمثلاً هذه المرة من انعقاد الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة وبالذات في قرارها، المحوري بدوره، الصادر في 25 سبتمبر 2015 تحت العنوان الطموح التالي: تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030.

وقد يلفت النظر في هذا السياق أن جاءت كلمة خطــة لتشكل ترجمة من الإنجليزية لكلمة (agenda) جدول الأعمال وهو ما أضفى ـ بالعّمد ـ طابعاً عملياً، تنفيذياً على تلك التصورات التي بلورت رؤية عالمنا من أساليب وحتى انقضاء السنوات الخمس عشرة المفضية إلى عام 2030.

دخول اللون الأخضر

ليس مصادفة إذن أن يدخل إلى قاموس هذا الوعي بين الناس العاديين وبين عناصر النخب الناشطة في عوالم السياسة أو الفكر أو البحث العلمي إيقاع لوني جديد يضاف إلى الألوان التي أصبحت مطروحة ومتداولة على مستوى العالم كله.

وإلى جانب الأسود الذي أصبح مرادفاً للذهب النفطي، والأزرق الذي أصبح عَلَماً على المورد المائي، جاء تكريس الأخضر مرادفاً للبعد الأيكولوجي، البيئي في حياتنا المعاصرة.

وفي هذا الإطار بالذات جاء صدور الكتاب الذي نطالعه معاً في هذه السطور، وتحت عنوان يمكن ترجمته على النحو التالي: الرصيــد الأخضر: منظور جديد للنمو.

ولقد تعوّد المفكرون والقارئون المهتمون بقضايا البيئة على أن تصدر مثل هذه الكتابات والبحوث عن مفكرين من أميركا، التي تتصدر موضوعياً دعاوى الانتصار للبيئة والحفاظ عليها، بقدر ما تضم في الوقت نفسه، مفكرين وكتّاباً، يركزون جلّ اهتمامهم على دحض ورفض هذا المنحى الأيكولوجي .

لكن الجديد أن كتابنا جاء ثمرة لتعاون بحثي بين اثنين من العلماء الفرنسيين، وكأنه يدلل على أن الشأن الأيكولوجي الذي ألمحنا إليه قد أصبح ينال اهتماما متعمقاً في مواقع أخرى بخلاف أميركا، وهو ما تجلى بوضوح فيما شهدته العاصمة الفرنسية من انعقاد فعالية دولية، أيكولوجية بدورها خلال الفترة 30/11، 12/12 من العام الماضي وحملت عنوانها الشهير: مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغيّر المناخ.

على كل حال فقد نهض مؤلفا كتابنا، وهما الباحثان الفرنسيان البروفيسور كرستيان دي برتيوس وزميله البروفيسور بيير أندريه غوفيه إلى رسم ما وصفاه بأنه المنظور الجديد إزاء قضايا النمو ومن منطلق أن تحقيق النمو الاقتصادي لا يتعارض مع قضايا الحفاظ على البيئة الطبيعية .

النظم قبل الموارد

هنا لا يتورع المؤلفان عن انتهاج سبيل من المصارحة القائم على مقارنة موجِعة في بعض الأحيان ولهذه المقارنة جانبان:

الجانب الأول يتمثل في معظم، إن لم يكن جميع، البلدان المتقدمة، ما بين غرب أوروبا إلى القارة الأميركية الشمالية (الولايات المتحدة وكندا على وجه الخصوص): في هذه الأقطار، ومع تعمق الوعي البيئي، يعمد سكانها إلى معاودة غرس الأشجار في غاباتهم الشمالية، وينظّمون حملات الوعي بأهمية الترشيد في استخدامات الموارد الطبيعية، وفي مقدمتها موارد المياه اللازمة لحياة البشر والزرع وسائر الكائنات من الأنشطة، ثم ينشرون ويتابعون الدعوات التي تحمل عنوان الحفاظ على التنوع الاحيائي (البيولوجي) انطلاقا من الإيمان بفكرة أن هذا التنوع يحفظ التوازن البيئي في كل الأحوال.

يحدث هذا ـ كما توضح فصول كتابنا على صعيد الشطر الشمالي من عالمنا، أما الجانب الآخر فهو عند الشطر الجنوبي، حيث تعيش معظم الأقطار النامية، المتخلفة في بعض الأحيان، حيث العكس هو الصحيح، وحيث يتواصل اجتثاث أشجار الغابات المطيرة، الحافظة كما هو معروف للدورة المائية الكوكبية ما بين غابات حوض الأمازون في أميركا الجنوبية، إلى أدغال جزر إندونيسيا في أصقاع المحيطين الهندي والباسيفيكي. السلوكيات غير الراشدة نفسها تفضي ـ في أفريقيا هذه المرة ـ إلى تدمير توازن التنوع البيولوجي الذي ألمحنا إليه، وخاصة من خلال ما يحدث خلال حملات السفاري التي ما برحت تجتاز الغابات والأحراش والأدغال وتودي بحياة المئات، وربما الآلاف من أنواع وفصائل الكائنات الحية من حيوان أو طيور طمعاً في ما يجنيه الصيادون والسارقون والمدمرون والمغامرون من ثروات تعود عليهم من صنوف العاج وأنواع الجلود وما في حكمها.

دروس من تاريخ غابــــر

يعمد المؤلفان للإحالة إلى دروس يستمدانها ـ في تصورهما، من عبرة التاريخ. ومن هذه الدروس ما هو مستقى من حياة السومريين، سكان العراق القديم. وفي هذا السياق يسترجع الكتاب ما شهدته أرض الرافدين منذ 4 آلاف سنة من ازدهار حضارة سومر التي حادت عن الطريق ـ في تصورهما ـ أساليب النمو وقتها جاء محفوفاً برغبة تكديس الثروات ولكن على حساب البيئة ومواردها، لهذا يعترف مؤلفا الكتاب بأن السومريين نجحوا أيامها في اكتشاف أفضل أساليب الري وتطوير الزراعة، وهو ما أتاح لحضارتهم أن تصوغ القوانين وتؤسس الحواضر الزاهرة. لكنهم لم ينجحوا، كما يضيف الكتاب، في تطوير نظم صرف المياه المتخلفة بعد ري المزروعات، وهو ما أدي إلى تمليح الأرض وبوار التربة، ومن ثم فقد جاء تراجع أساليب الأنساق الحضارية ثم الخروج، كما قد نقول ـ من التاريخ.

وهنا تطالب سطور الكتاب بطرح قوانين وصياغة نظم وتفعيل قواعد ولوائح تكفل مبدأ القصد والترشيد والتناسبية في التعامل مع موارد المحيط وإمكانات الغابة، حيث يسود الإفراط إلى حد التفريط بدعوى أنها موارد وإمكانات عمومية لا يملكها أحد.

النظام أهم من الموارد

على أن هذا الكتاب لا يفتأ ينّبه، عبر فصوله المختلفة، إلى أن بوسعنا، ولو على سبيل الافتراض العلمي، أن نعوّض عن هذا المورد النادر أو ذاك من موارد الطبيعة، لكن تظل المشكلة ماثلة في أن لا سبيل على الإطلاق للتعويض عن نظام أو نمط طبيعي قد يصاب بالاختلال ويكف من ثم عن أداء ما عهد به الخالق عز وجل من وظائف للنظام الطبيعي المذكور.

وفي ضوء هذه الأبعاد من الواقع، لا يتورع مؤلفا الكتاب عن الدعوة إلى فرض إجراءات تسعير معمول بها في أطر الاقتصاد العالمية، ويكون من شأنها حساب التكاليف الناجمة عن حالات الإضرار بالبيئة الطبيعية وآلائها ومواردها.

ثم يسوق الكتاب أمثلة عن أنماط هذا التسعير المطلوب وفي مقدمتها ما أصبح يطلق عليه التوصيف التالي: ضريبة الكربــون، وهي بداهة المقابل المادي الذي يصفه الكتاب بأنه يتصدى لمعالجة ندرة الكربون، بقدر ما يهدف إلى التأكيد على عجز الغلاف الجوي المحيط بالأرض عن استيعاب الكميات الكبيرة من الانبعاثات الكربونية الناتجة عن أنشطة البشر، فيما تؤدي هذه الانبعاثات الغازّية إلى إلحاق أضرار فادحة بالنظام المناخي متمثلة في ظاهرة ـ آفة تغير المناخ التي انشغل بها، كما ألمحنا، مؤتمر باريس المعقود منذ 6 أشهر أو أقل قليلاً.

المؤلف

البروفيسور كرستيان دي برتيوس يعمل أستاذاً لعلم الاقتصاد في جامعة باريس ـ دوفان الفرنسية. وهو رئيس قسم اقتصاديات المناخ بالجامعة المذكورة. وقد بدأ مساره العلمي في قطاع الزراعة ودراسات الأراضي الزراعية، وكان رئيساً لأقسام دراسات المناخ في عدد من المعاهد العلمية في فرنسا. وقد أصدر البروفيسور دي برتيوس عدة كتب تأتي في مقدمتها دراسته التي دارت حول الخيارات الاقتصادية في عالم متساخن.

المؤلف المشارك هو البروفيسور بيير أندريه غوفيه وهو بدوره أستاذ الاقتصاد في جامعة كويست نانتير ـ باريس الفرنسية، ويشغل موقع المدير العلمي لقسم اقتصاديات المناخ بالجامعة المذكورة. ومن أحدث إصداراته العلمية في هذا المجال كتابه عن العوامل المشتركة في البيئة الكوكبية.

أفريقيا تعاني من إزالة الغابات

هناك ما شهدته وتشهده أقطار أفريقية شتى من عمليات إزالة الغابات بدعوى تمهيد ساحاتها واستخدام أراضيها لصالح الزراعة دون الوعي بأن هذه الإزالة تؤدي إلى الخلل البيئي ومن ثم إلى اضطراب مواسم الأمطار واختلال الدورات المائية وشحة الموارد المائية.

هنا يركز المؤلفان على ظاهرة التحّول من المعايش التقليدية، الكلاسيكية في الأرياف والبوادي والأحراش وما في حكمها، إلى سكن العواصم والمدن، كبيرها وصغيرها، فضلاً عن الضواحي المنبعثة عنها أو التابعة لها، وهو ما يعرف بظاهرة التحول الحضري، أو التحضر حسب مصطلحات الأمم المتحدة، حيث ينبه المؤلفان إلى ما باتت تشير إليه الدراسات والاستطلاعات بأن نصف سكان عالمنا سوف يتحولون للإقامة في المدن والمواقع الحضرية مع حلول منتصف القرن الحالي، وهو ما يفرض بدوره مشكلات تلحق بأساليب المعيشية والتوازن البيئي المرتبط بما هو متاح لسكان هذه المعمورة من إمكانات وموارد طبيعية مطلوب الحفاظ عليها خشية الإصابة بآفات أساليب حسار أو التلوث أو الاضمحلال.

ولعل من المحاور التي تستأثر باهتمامنا كقارئين لهذا الكتاب ما يتمثل في أن المؤلفيْن لم يقصرا اهتمامها على شمال العالم المتقدم الذي ينتميان إليه: إنهما يؤكدان من موقع اتباع النهج الإيجابي، أن مصائر هذا الشمال ما برحت مرتبطة بما يحدث في الجنوب النامي أو حتي المتخلف: من هذا الجنوب لايزال الشمال يستمد الكثير والثمين من المواد الأولية، بل ومن المواد التي لا غنى عنها لحياة الشمال وفي مقدمتها الأغذية والخامات بطبيعة الحال.

ثم إن الأنشطة الصناعية في الشمال هي التي تُلحق أضرار التلوث الكربوني، وتنفث غازات الاحتباس الحراري، كما هو معروف، في كل أجزاء الغلاف الجوي المحيط بكوكب الأرض، والمعنى بالطبع أن أهل الشمال باتوا حريصين ـ كما أسلفنا، على حماية البيئة الايكولوجية التي يعيشون في كنفها، في أوروبا وأميركا، لكن لاتزال أنشطتهم في مجالات التصنيع والنقل وما إليها تلحق أضراراً اتسع نطاقها ليصل إلى أصقاع الجنوب ومنها ـ أفريقيا مثلاً ـ رغم أن هذا الجنوب لايزال يساهم بأقل قدر في نسب التلوث الكربوني الذي يشكل أكبر الأضرار لسكان الكوكب.

وعليه فلا يتورع المؤلفان عن معاودة التحذير بأنه حتى سكان هذا الشمال لايزالون معرضين لما تفرزه أنشطتهم، خاصة في مواقع الحضر، من سلبيات.

تحذير من استنفاد الموارد

تتحول فصول الكتاب إلى تحذير كل سكان الكوكب إزاء استمرار الأنماط المتبعة حاليا في استهلاك الموارد الطبيعية التي يحفل بها كوكبنا، أساليب هذا الاستهلاك، كما تؤكد السطور التي نتابعها في هذا السياق، يتم بإيقاع يراه المؤلفان بمعدل أسرع مما يستطيع كوكب الأرض أن يجدد به تلك الموارد. وينطبق هذا المعدل غير الرشيد على المصدر أو المورد الطبيعي الذي لا تعود ملكيته إلى جهة بعينها، حيث يتعرض المصدر أو المورد المذكور إلى إفراط الاستهلاك إلى حد الإهلاك، أو إلى هاوية الإهدار، ومن ذلك مثلاً التعامل مع الموارد المحيطية في طول العالم وعرضه.

تأليف: كرستيان دي بورتيوس وبيير أندريه غوفيه

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة كولومبيا، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 240 صفحة

Email