الهند وعصر الطموح

الهند عملاق آسيوي يتجاوز العالم الثالث

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الكتاب رحلة فكرية تمت فصولها باستخدام منهج العرض والتحليل العلمي في داخل الهند بكل أهمية هذا البلد الآسيوي المذكور، سواء من حيث عدد السكان، أو من حيث ما أمكن تحقيقه في الهند من أوجه التقدم العلمي وارتفاع حصيلة النمو الاقتصادي.

وفي مقدمة هذه الإنجازات ما تم تحقيقه في ميدان تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهو لايزال ماثلاً بالذات في مواقع وادي السيليكون الهندي الذي يحمل اسم بنغالور من أعمال منطقة بومباي، وهو يضارع نظيره الأميركي في ولاية كاليفورنيا، وخاصة في ميدان البرمجيات الإلكترونية المعروفة باسم «السوفت وير».

مع ذلك فالنهج العلمي المتّبع عبر فصول الكتاب كان لابد وأن يفضي بالمؤلف إلى التوقف ملياً عند الآثار السلبية التي نجمت عن هذا التقدم.

فبرغم ارتفاع معدلات الناتج المحلي الإجمالي على مدار العقدين الأخيرين، إلا أن هذه الطفرة الاقتصادية أدت إلى زيادة عدد الذين استأثروا بنواتج هذه الثروات، وهم القلة المحظوظة التي ضمّت عدداً كبيراً من المليارديرات، فيما لاتزال عشرات الملايين من جماهير الشعب الهندي، وخاصة ممن يمتهنون حرفة الزراعة ترسف في أغلال الفقر والتخلف والتهميش، وفي هذا الإطار يتدارس الكتاب أسباب هذه الظاهرة السلبية.

هناك نوع بالغ التميز من أدب الكتابة الصحافية. نكاد نقول إنه يمثل، أو يكاد يمثل، الجد الأعلى لما أصبح يعرف في زماننا بأنه أسلوب الصحافة الاستقصائية. على كل حال يمكن أن يوصف بأنه صحافة الاختراق أو بالأدق صحافة الدواخل.

يصدق هذا بالذات على تلك السلسلة من الكتب التي تجمع بين الدراسة والتحليل، والتشويق أيضاً، وقد ظلت إصداراتها تتوالى على مدار الفترة الفاصلة بين عامي 1936 و 1972، 36 عاماً هي الحقبة التي نشط فيها الكاتب الصحافي الأميركي جون جنتر (1901، 1970) إلى إعداد ونشر سلسلة الكتب التي أصدرها تحت عنوان كانت تعرفه أيامها جماهير قارئي الإنجليزية، حيث يبدأ كل كتاب بعبارة بسيطة هي: في داخل..

وبعد العبارة البديهية يطالع القارئ اسم الموقع الذي اختاره جون جنتر موضوعاً لدراسته، حيث كانت المواقع تتراوح بداهة بين أول كتاب صادر عام 1936 بعنوان «في داخل أوروبا»، وبين كتاب آخر في عام 1972 أي بعد رحيل المؤلف، وحمل بدوره عنوان «في داخل أستراليا ونيوزيلندا»، يعني في أقصى الجنوب الشرقي من خارطة العالم.

وقد تعددت حكاية الدواخل ما بين آسيا (1939) وأميركا اللاتينية (1941) ثم أفريقيا (1955). وبديهي أيضاً أن تُرجمت هذه الكتب الدواخل إلى عدد كبير من لغات العالم، ومنها ما جرت ترجمته إلى لغتنا العربية.

بعد هذه السنوات الأربع والأربعين التي انقضت على آخر إصدارات جنتر، يطالعنا مؤلف آخر، مفكر وباحث وأكاديمي ضليع، هو الكاتب الهندي الأصل ديليب هيرو، بكتاب جديد من نوعية كتب الدواخل، ولكن عن الهند هذه المرة. وهو الكتاب الذي نعايشه فيما يلي من سطور، وقد اختار له مؤلفه العنوان المفصّل التالي: عصر الطموح: السلطة، الثروة والصراع في الهند المتّحولة نحو العولمة.

منظور المكان والزمان

ومن خلال العنوان السابق كان بديهياً أن تدور بحوث هذا الكتاب من حيث المكان عن أحوال شبه القارة الهندية، بكل ما تجسده من تشابكات وتقاطعات، حتى لا نقول تعقيدات، فيما يتعلق بالأجناس واللغات والأديان والطبقات والتوجهات.

ومن حيث الزمان اختار المؤلف عام 1991 منطلقاً لطروحات وتحليلات الكتاب.

أما أسباب اختيار هذا العام الاستهلالي لعقد التسعينات المنقضي فيتلخص أهمها برأي المؤلف في أن 1991 هي السنة التي شهدت ما يصفه المؤلف بأنها السياسة الصناعية الجديدة، وهي نهج في إدارة الشأن الهندي العام ينحو نحو تشجيع القطاع الخاص في مجال أنشطة الشركات والأعمال المصرفية والتأمين والاتصالات السلكية واللاسلكية وخدمات شركات الطيران وما في حكمها.

وقد ارتبط هذا النهج بما أطلقوا عليه عبارة ذات طابع هندي ملحوظ، وهي «خفض تصاريح الراج».

و«الراج» مصطلح يعود إلى أيام الهيمنة البريطانية على مقاليد الهند (حكم الراج). والمعنى ينصرف إلى تخفيف قبضة الدولة وأجهزة البيروقراطية الحاكمة على الأنشطة الاقتصادية، والأخذ بمبدأ حرية الاقتصاد أو مبدأ اقتصاد السوق.

وهو ما يوصف من جانب بعض محللي السياسة والاقتصاد بالإصلاحات النيوليبرالية، الإصلاحات نفسها التي مازالت موضع تحفظ شديد من جانب نقادها الذين يؤكدون، على نحو ما توضحه صفحات هذا الكتاب أيضاً، أن هذه السياسات المستجدة قد أفضت إلى أوضاع شديدة التناقض، حيث مهدت السبيل أمام ثراء الكثيرين، لكن على حساب إفقار وبؤس الكثيرين من مواطني أكبر بلد ديمقراطي في عالمنا.

في السياق نفسه، يرى المؤلف أنه بالإضافة إلى تلك الهّوة الفاصلة في الهنــد بين ثراء بعضهم إلى درجة المستوى الفاحش إن جاز التعبير، وبين فقر بعضهم الآخر إلى درجة البؤس والمسغبة قد تزامنت معها ثغرة فاصلة أخرى بين ما شهدته الهند ونعمت به من تطورات، ابتكارات تكنولوجية مرموقة وبين ما كابدته قطاعات الفقراء، وما برحت تكابده، من مشقة الحياة ومعاناة التهميش والمواجهة المتواصلة لمواريث التخلف.

إنجازات تكنولوجية

هنا يتوقف مؤلفنا ملياً عند الضفة الأولى،المتميزة والمحظوظة والمرموقة، من جوانب هذه الثغرة الفاصلة.

لا ينكر البروفيسور هيرو أن الهند قد حققت إنجازات مدهشة في مضمار تكنولوجيا المعلومات، وهو ما يتجلى في بلاغة شهد بها العالم في واقع المنجزات العلمية والتطبيقية التي حققتها الهند في موقع بنغالور – بومباي، الذي أصبح يضارع بل يكاد ينافس موضوعياً وادي السليكون في كاليفورنيا بالولايات المتحدة في مجال البرمجيات وما في حكمها، وهو ما أدى إلى تحقيق ما وصفه المراقبون بأنه طفرة ازدهار لصالح الهند.

لكن مؤلف كتابنا يعلق على هذه المحصلة، قائلاً إن ثمار هذه الطفرة اتجهت في مسيرها لتفيد مستوى القمة، ثم المستوى المتوسط، فيما تركت مستوى القاع راكداً بغير تغيير.

وعندما تتحول طروحات الكتاب من الجانب الاقتصادي إلى الميدان السياسي، نجد أن المؤلف لا يعفي أيّاً من طرفي السياسة الهندية المعاصرة من آفات الفساد في إدارة شؤون الحكم، يستوي في ذلك – في رأيه- حزب المؤتمر 7، بقدر ما يستوي حزب بهارتيا جاناتا الحاكم حالياً.

في قطاع الزراعة

آفة الفساد تتجسد، كما يضيف المؤلف أيضاً، في قطاع الزراعة بشكل خاص، وهنا يوضح المؤلف، كيف أن كبار ملّاك الأراضي الأثرياء يتم استثناؤهم من معظم الضرائب، بينما يعاني المزارعون المستأجرون للأرض من مشكلات حادة وقاسية، ليس أقلها، كما توضّح صفحات الكتاب، تناقُص الموارد المائية اللازمة لري المحاصيل وتدهور نوعية التربة.

أكثر من هذا، من خلال المنظور الاقتصادي – السياسي الذي يطّل منه المؤلف على دواخل ما يجري في أصقاع الهند، فهو يعمد إلى توسيع آفاق البحث المودَع بين دفتي الكتاب إلى حيث يمتد إلى مناطق غربي البنغال. هنا يكرس المؤلف فصلاً كاملاً من كتابنا لدراسة ما أصبح يُعرف بأنه حرب العصابات الماوية بالمنطقة الهندية المذكورة.

حديث عن «الميغاسكام»

هنا أيضاً تتحول فصول كتابنا من ميدان الاقتصاد والمال، من حيث الدولار والاسترليني والروبية إلى حيث تتابع مسارات الآثار الاجتماعية، بل والأنماط السلوكية الناجمة عن تلك الأوضاع التي تعيشها الهند.

من هذه الآثار ما أصبح مجسداً في سلوكيات الفساد التي أنشبت أظفارها في الدوائر الحكومية وفي أوساط السياسة، وتمثلت في انحرافات واسعة النطاق شملت القطاعين العام والخاص على السواء. ومن هذه الانحرافات ما تضخم إلى حد أن يطلق عليه مؤلفنا الوصف التالي: «الميغـــاسكام»، بمعنى«السوبر- فضيحة» إن جاز التعبير.

ومن هذه النوعية ما تفجّرت وانكشفت جوانبه خلال دورة الحكم الثانية للمسؤول الهندي مانوهان سنغ مما نجم عنه، بالطبع، تفشي مشاعر السخط والرفض بين صفوف القواعد الشعبية، وخاصة تلك القابعة عند أدنى درجات السلّم الاجتماعي.

وكان طبيعياً كذلك أن تؤدي هذه الانحرافات بكل ما ارتبط بها من استنزاف ثروات البلاد لصالح القلة وبعيداً عن صالح الأغلبية من السكان إلى زيادة هذه الأغلبيات فقراً، ولدرجة يسجل معها الكتاب البديهية التالية: فيما تشكل الهند سدس مجموع سكان العالم، إلا أنها تضم أيضاً ربع فقراء هذا العالم.

هنا ينعى المؤلف كذلك على مسؤولي نيودلهي أنهم لم يبذلوا الجهد المطلوب، لا سياسياً أو إدارياً أو إعلامياً، من أجل إصدار قانون يحمل اسم لوكبال.

القانون كان يقضي بإنشاء مكتب أمين المظالم (يعرف في الأدبيات الدولية تحت مسمى (Ombudsman) ويتولى ملاحقة وتحقيق وكشف وإدانة قضايا الفساد، فضلاً عن ملاحقة الفاسدين داخل الحدود وخارجها قدر الإمكان.

في ضوء هذا كله، وبرغم اعتراف مؤلف الكتاب بإنجازات إيجابية استطاع القطاع الحاكم حالياً في نيودلهي أن يحققها، وتمثلت في ارتفاع معدلات النمو على نحو ما يجسده الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن موضوعية المؤلف وإطلالته من المنظور الأكاديمي على مجريات الأمور داخل الهند لا تلبث أن تدفعه إلى التوقف ملياً، سواء عند الواقع الراهن الذي يشهد مظاهر الحيف الصارخة في تقسيم الثروة بين القلة النسبية من الأثرياء المحظوظين والكثرة الغالبة عددياً من جماهير الشعوب الهندية.

ناهيك عن إطلالة المؤلف أيضاً على آفاق المستقبل، بادئاً في هذا الصدد بالتعامل مع الإيجابيات التي تحققت على أنها مسكّنات قصيرة الأجل، ولكنها لن تحول – في تصّور مؤلفنا أيضاً – دون خطر ارتفاع سلبيات وأخطار روح التعصب الديني وكراهية الغرباء – الأجانب، على نحو ما يحذر معه المؤلف كذلك في فصل بالغ التركيز اختاره خاتمة لمواضيع هذا الكتاب.

65 مليارديراً في 2013

بفضل منهج التحليل العلمي الذي يعتمده المؤلف عبر صفحات الكتاب، وهو منهج موضوعي بحكم التعريف، نلاحظ أن البروفيسور ديليب هيرو يعترف في مواضع شتى بأن الهند شهدت إصلاحات وإيجابيات في مجالات من قبيل تحسين خدمات الرعاية الصحية وتوسيع تقديم خدمات المعلومات والاتصالات .

في السياق نفسه، يتابع المؤلف مسار الإيجابيات التي أضافتها إلى الحياة الهندية جموع أبناء الهند المقيمين حالياً في مهاجر الشتات (دياسبورا) وخاصة في كل من إنجلترا والولايات المتحدة، ويرى أن أهم ما تجّسده هذه الإيجابيات إنما يتمثل في زيادة التحويلات المالية الوافدة إلى الهند – الأم من هذه المهاجر، وهو ما أدى – كما توضح مواضع شتى من فصول الكتاب، إلى ارتفاع معدلات الناتج المحلي الإجمالي في الهند بشكل أكثر من مرموق (على مدار الفترة 1991، 1996 سجل هذا الارتفاع نسبة 6.7 في المئة سنوياً).

ومع حلول عام 2003 عاود الارتفاع زيادته إلى مستوى بلغ أيامها نسبة 8.2 في المئة. ويومها عمدت الدوائر الحاكمة إلى صياغة عبارة براقة من أجل اجتذاب أصوات الناخبين والعبارة هي: الهنــد.. تتألــق.

بيد أن هذا التألق ظل ينال منه أو يطفئ أضواءه ما أكدت عليه المعارضة الهندية بقيادة سونيا غاندي، موضحة بالأرقام أن الذين استفادوا من هذه الإنجازات، أو من هذه الأنوار المتألقة، لم تزد نسبتهم عن 5 في المئة فقط لا غير من مجموع السكان، بينما ظلت نسبة غالبة قوامها 70 في المئة من أبناء الهند يعيش أفرادها على أقل من دولارين في اليوم.

في السياق نفسه أيضاً، يوضح هذا الكتاب كيف حلّ عام 2013 ليشهد أصحاب البلايين – المليارديرات في الهند وقد ارتفع عددهم إلى 65 ملياديراً بعد أن كان العدد في عام 2008 هو 27 فقط.

أما عدد أصحاب الملايين (الأكثر تواضعاً بالطبع من حيث تراكم الثروة) فقد زادوا من 193 ألفاً في عام 2009 ليصبحوا 248 ألفاً في عام 2013. وهنا يحيل هذا الكتاب إلى دراسة قامت بها مجلة إنجليزية متخصصة في ميدان الاقتصادتحمل عنوان «ويلث إن سايت» أو فلنقل «منظور متابعة الثروة».

وفيما تتولى المجلة المذكورة تقصي أوضاع وتطورات الثروات في العالم، فقد أفادت بأن مواطني البلد الآسيوي الكبير ممن يملكون أصولاً تزيد قيمتها على مليون دولار وأكثر، أصبحوا يمتلكون ما يقارب نسبة 65 في المئة من مجموع ثروة الهند التي يمكن تقديرها بنحو 1.3 تريليون دولار، وهو ما يكاد يزيد على ضعف المعدل الساري في بقية أنحاء العالم.

انشقاقات تنال دعم الساخطين

إن الحركات والانشقاقات السياسية في البنغال الغربية توضح بجلاء، كما يؤكد المؤلف، كيف أن مثل هذه الحركات – التمردات ذات الشعارات والدعوات الراديكالية والعنيفة أيضاً يمكن أن تنال دعماً وتأييداً من جانب قطاعات شتى من السكان المحليين، لا بفضل شعاراتها الأيديولوجية، ولكن بفعل عوامل السخط والتبّرم التي ما برحت تعتمل في نفوس هؤلاء الذين يشعرون أن الحكومة قد تخلت عنهم لصالح الأوفر ثراء والأكثر قدرة والأوسع نفوذاً.

المؤلف

ولد الكاتب ديليب هيرو في قرية من أصقاع شبه القارة الهندية. وتلقى دراساته في معاهد علمية متعددة ما بين الهند وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية التي حصل فيها على درجة الماجستير من جامعة ولاية فرجينيا.

وقد أصدر المؤلف حتى الآن 35 كتاباً، كما شارك في تأليف وإصدار ما يصل إلى 18 كتاباً آخر، إضافة إلى مشاركاته في إبداع أعمال أدبية وفنية، حيث كتب نصوصاً درامية للمسرح والسينما والتليفزيون.

تأليف: ديليب هيرو

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: الناشر، نيو برس، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 400 صفحة

Email