محاولات جاهدة للنسيان:النفط وفلسطين

3 منطلقات لسياسة أميركا في المنطقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يسجّل بحق مؤلفة هذا الكتاب، وهي في طليعة الأكاديميين الأميركيين المهتمين بقضايا السياسة والتنمية، فضلاً عن تركيزها في عدد كبير من بحوثها العلمية على منطقة الشرق الأوسط، أنها لم تعمد إلى نشر التحليلات التي عملت على إجرائها أو النتائج التي استطاعت أن تتوصل إليها.

إلا بعد إجراء بحوث مضنية وقراءات وتحليلات مستفيضة في أرشيفات الوثائق السياسية الأميركية، وخاصة ما يتعلق منها بشكل عام بفترة الأربعينيات من القرن الماضي، ثم ما يتصل منها بملابسات قيام الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948.

إضافة إلى أنماط وتطورات العلاقة بين هذا الكيان الاستيطاني المزروع في قلب منطقة الشرق الأوسط وبين الولايات المتحدة، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول أميركا أيضاً في غمار صراع جديد هو الحرب الباردة في مواجهة الطرف السوفييتي، الذي شكل الصراع معه، ومحاولة صّده عن الوصول إلى الشرق الأوسط، جانباً محورياً من جوانب أهداف السياسة الخارجية الأميركية.

فيما كان الجانب المقابل يتمثل في عنصر النفط الذي اعتمدته الإدارة والشركات الأميركية دافعاً أساسياً لها في رسم خارطة سياستها الخارجية تجاه المنطقة المذكورة، وهو ما انفردت به سطور بهذا الكتاب، بكل ما انطوت عليه هذه الملابسات والتطورات من نتائج سلبية بحق الشعب العربي الفلسطيني.

هذا كتاب قررت فيه صاحبته، وهي من كبار الباحثين – المفكرين في علم السياسة بالجامعات الأميركية، أن تتابع ما شهدته منطقة الشرق الأوسط مما يمكن أن يوصف بالعبارة التالية: إعادة رسم مسار التاريخ.

وبديهي أن الشرق الأوسط: المفهوم، والخارطة والمعالم، وتطورات الأحداث واستجابات الشعوب، ما زال يستأثر بالكثير من الدراسات والحوارات والتحليلات، التي ما برحت تدور عبر منتديات وعلى صعيد دوائر شتى، منها ما يتخصص في ميادين السياسة ودوائر السلطة ومواقع الحكم.

 ومنها ما يعمل على صعيد المجامع الأكاديمية المعنية بما يجري على صعيد عالمنا المعاصر، بكل ما يتفاعل فيه من تيارات، فما بالنا بمنطقة الشرق الأوسط وأحوالها الراهنة، حيث تضطرم التيارات والتفاعلات، التي مازالت تشد انتباه الجماهير العادية، كما تجذب اهتمامات الاختصاصيين .

في ضوء هذا كله، تأتي أهمية الكتاب الذي نعايشه فيما يلي من سطور. ولقد عمدت فيه مؤلفته إلى مطالعة قارئها، ومنذ وهلة العنوان الأولي، بعناوين تفصّل في سياقها محاور الاهتمام الثلاثة التي يعرض لها هذا الكتاب بحثاً وتحليلاً.

وهذه المحاور هي: النفط + القوة (السلطة) + فلسطين، ثم يسارع العنوان إلى ربط الثلاثي السابق مع المنحى الأساسي الذي رسمته المؤلفة، وهو أسس السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، أما العنوان الرئيسي لهذا الكتاب فيمكن ترجمته كما يلي: المحاولة اليائسة للنسيان.

ثم تسود صفحات الكتاب، وتكاد تهيمن على أبوابـــه الستة وفصوله الأربعة عشرة، نغمة أو مقولة أساسية تلخصها حقيقة واحدة لا تفتأ تؤكدها المؤلفة، البروفيسور إيرين غنديزير، وهي أن النفط ظل محوراً أساسياً تدور من حوله توجهات ومآلات السياسة الخارجية للولايــــات المتحدة، ابتداءً من عقد الأربعــينيات من القرن العشرين.

أميركا خلال الأربعينيات

وبديهي أن سنوات العقد الأربعيني من القرن العشرين هي التي شهدت تنامي وربما اكتمال دور أميركا، بوصفها قوة عالمية يحسب لها كل حساب، بدأ العقد المذكور بدخول أميركا شريكاً أساسياً وطرفاً فاعلاً في كتلة الحلفاء الغرب أوروبيين + روسيا ستالين في خضم المواجهة العسكرية ضد دول المحور، الذي كان يضم وقتها كلاً من ألمانيا الهتلرية، وإيطاليا الفاشية، واليابان الإمبراطورية، كان الطرف الألماني طامعاً في السيطرة بالذات على أوروبا، وكان رديفه الإيطالي طامعاً في السيطرة على أصقاع تمتد من البحر المتوسط وشمال أفريقيا (ليبيا بالذات) إلى الحبشة في الشرق – القرن الأفريقي.

أما الحليف الثالث فكان يتطلع إلى فرض سيطرته وسطوته الإمبريالية على أرجاء شتى في جنوب آسيا وشرقها الأقصى، ولاسيما الصين وشبه الجزيرة الكورية.

وعندما قرر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1882- 1945) دخول الحرب العالمية الثانية تحولت مسارات هذا الصراع الدولي كي تفضي إلى اندحار ألمانيا وانهيار إيطاليا واستسلام اليابان. كانت أميركا، وقد حكمها رئيسها الجديد هاري ترومان، تتهيأ لقطف ثمار تفوقها العسكري وسمعتها الإيجابية، بوصفها محررة الشعوب وتخليصها من دعايات وتهجمات هتلر وموسوليني وأعوانهما، فيما عزز من هذه السمعة الإيجابية نجاح واشنطن وأجهزتها في استخدام ما أصبح يُعرف بعد ذلك بأنه القوة الناعمة.

بدايات أهمية النفط

لهذا كله تتوقف مؤلفة الكتاب عند الفترة 1945- 1946 على وجه الخصوص، وتجعل منها مفتتح كتابها، حيث تختار لهذا الباب الأول من كتابها العنوان التالي: نظام النفط فيما بعد الحرب والقضية الفلسطينية.

والمعنى بداهة هو أن النفط الذي بدأت أهميته تتزايد على صعيد منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في ربوع المشرق العربي، بدأ منذ تلك الأيام يشكل عاملاً أساسياً، جوهرياً في تشكيل ســياسة أميركا تجاه تلك المنطقة بالذات.

ثم تشاء تصاريف الأحداث ومحصّلة التطورات أن تتزامن تلك الفترة، النصف الأخير من أربعينيات القرن العشرين، مع ملابسات وأحداث بل ومؤامرات ترجمة المشروع الصهيوني في قلب الشرق الأوسط من مخططات ومحاولات ومناوشات إلى الشروع في بناء كـــيان سياسي يهودي، صهيوني يحمل - كما هـــو معروف - اسم إسرائيل.

وكم كان موفقاً وموضوعياً ذلك القول الذي لا يزال يصدق على الكيان الصهيوني في فلسطين - قلب العالم العربي وهو: إن إسرائيل كيان مستطيع بغيره.

والمعنى، بالطبع، أن مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني، منذ أن ظهرت طبعته المبدئية مجسدة في الكتاب التحريضي الذي أصدره الصحافي النمساوي تيودور هيرتزل في عام 1897، وإلى يوم إعلان ما وصفوه بأنه إسرائيل في 15 مايو 1948 – هذا المخطط ظل على مدار تلك السنوات الخمسين قائماً على قاعدة الاعتماد على الغير.

عن العلاقة النفطية

في هذا الإطار، تتوالى أبواب وفصول كتابنا، الذي نتصور مدى أهميته بالنسبة لأركان ومسؤولي ودارسي السياسة الخارجية الأميركية ومواقفها تجاه المشرق العربي بالذات. وإلى جانب الباب الأول الذي ألمحنا إليه يركز الباب الثاني على ما تطلق عليه المؤلفة الوصف التالي: الرابطة – العلاقة النفطية.

يسترعي انتباه القارئ عند هذا المنعطف من طروحات كتابنا أن المؤلفة عمدت بالذات إلى الاطلاع على المراسلات التي دارت في شتاء وربيع عام 1948 بين مدير شعبة النفط والغاز بوزارة الداخلية الأميركية مع ممثل الوكالة اليهودية في الولايات المتحدة.

وقد تمت هذه المراسلات المتبادلة قبيل أشهر معدودة من مبادرة الرئيس الأميركي هاري ترومان (1884، 1972) بإعلان اعترافه بإسرائيل، وهنا تحرص المؤلفة، بحكم موضوعيتها الأكاديمية، على إثبات ما اطّلعت عليه أيضاً من وثائق تم الإفراج عنها بمقتضى قانون حرية المعلومات في بلادها، وهي تفيد بأن قناصل أميركا ومبعوثيها وممثليها في منطقة الشرق الأوسط ظلوا يبعثون برسائلهم، محّذرين من أن الاعتراف بإسرائيل وتقسيم فلسطين أمور سوف تترتب عليها نتائج تؤدي إلى أضرار فادحة إلى حد بعيد.

صحيح، تضيف المؤلفة، أن جهوداً كانت تبذل مع مطلع عام 1948 بالذات من أجل معاودة النظر في قرارات التقسيم، والاستعاضة عن هذا الوضع بوصاية تضطلع بها الأمم المتحدة بالنسبة لفلسطين، إلا أن هذه الجهود تبددت من جراء مبادرة الطرف الصهيوني إلى ما وُصف، كما ذكرنا، بأنه إعلان الاستقلال.

فضلاً عن الاعتراف الأميركي المبادر بقيام إسرائيل: صحيح أيضاً، توضح مؤلفة الكتاب، أن واشنطن أقامت حساباتها السياسية في تلك الفترة على أساس إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين طبقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الصادر في 11 ديسمبر 1948 إلى جانب اتخاذ المبادرة إلى تحديد معالم الحدود وإضفاء الشخصية الدولية على مدينة القــــدس.

إلا أن مصالح أميركا في الشرق الأوسط، على نحو ما تؤكد المؤلفة أيضاً، ولاسيما حماية المصالح النفطية الأميركية بالمنطقة، هي التي دفعت المسؤولين الأميركيين إلى معاودة التفكير في جعل إسرائيل حليفاً استراتيجيا،ً على أساس إمكانات عسكرية حافلة ومؤثرة بكل المقاييس.

عنصران أساسيان

المعنى الذي يخلص إليه قارئ هذا الكتاب يتمثل إذن في محورين، كانت تدور حولهما منذ تلك الفترة وقوامها نحو 65 سنة، سياسة أميركا الخارجية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط. وهما: البترول + الدفاع.

لكن هذا كله كان يشكل الجانب الأول من جوانب الصورة.

الجانب الموازي الآخر كان شديد الاختلاف، هو الجانب الذي تابعت فيه مؤلفة الكتاب استقراء الوثائق وتحليل ما سجلته من آراء وأفكار وسياسات، وما أفضت إليه من قرارات وأحداث، وكلها أدت بدورها إلى تشكيل ما ظلت تؤكد عليه الأبواب والفصول من الكتاب بشأن تشكيل وقيام العلاقة النفطية التي ألمحنا إليها في ما سبق من هذه السطور.

صيغت هذه العــــلاقة إيـاهــــــا من واقع الاجتــماعات التي عـــقدتها الوكالة اليــــهودية مـــع عناصر نافذة في الإدارة الأميركية، وتمثلت نتائجها في تأكيد التصورات التي عملت على التكامل والتواؤم مصالح الإدارة والشركات والاحتكارات النفطية الأميركية مع مخططات (وأطماع) الوكالة اليهـــودية، ومن ثم مصالح أميركا وهي تدخل في غمار الحرب الباردة (مع الغريم السوفييتي) بشكل عام.

هنا أيضاً تسترعي المؤلفة أنظار القارئ إلى ما سبق إلى التصريح به نائب المندوب الأميركي في الأمم المتحدة، فيليب جيسوب، حين قال بالنص: نحن نفترض، من الناحية الاستراتيجية،أن فلسطين، ومعها الأقطار المجاورة، سوف تكون عاملاً رئيسياً بالمنطقة وتشكل أهمية حيوية بالنسبة لأميركا، سواء باعتبارها منطقة محورية مستقبلاً أو فيما يتعلق بخطوط مواصلاتنا، بل يمكن كذلك أن نرى في مواردها النفطية عنصراً حيوياً في هذا المجال.

واشنطن ترصد مشكلات الشرق الأوسط

القضية الفلسطينية، على طول تاريخها الممتد من أيام الانتداب البريطاني الذي قضت به عصبة الأمم منذ عشرينيات القرن الماضي، وإلى أواخر الأربعينيات، حيث تجليات نفوذ وتأثير الولايات المتحدة، لم تكن قضية تَعامُل مع إرادات الشعوب ومصالحها المشروعة، بقدر ما كانت مسألة محكومة على طول الخط، وعلى نحو ما يؤكده موقع كيركوس الثقافي الأميركي في تحليله النقدي لهذا الكتاب بواقع الأهمية الفائقة الحاسمة للنفط بالنسبة لسياسة (ومصالح) الولايات المتحدة منذ الأربعينيات والحقبة التي أعقبتها.

الموقع الأميركي المذكور نفسه يؤكد كذلك أن كتابنا يكتسب قيمته العلمية - الموضوعية، من واقع ما بذلته البروفيسور إيرين غنديزير من جهود، كان في طليعتها توخيها الدقة الشديدة في إعادة تجميع السجلات البيروقراطية (الأميركية) المتصلة بالفترة بين عامي 1945 و1949.

وعلى الرغم من أن كثيراً من هذه المعلومات أصبحت مذاعة في أوساط شتى، إلا أن المؤلفة يحسب لها أن استطاعت بأسلوب العرض والفرز والتحليل، أن تطرح من القرائن ما يشهد بأن المسؤولين الأميركيين كانوا يفهمون منذ البداية حقيقة المشكلات المطروحة على أرض الواقع في فلسطين، وكانوا يدركون مدى الحاجة للتوصل إلى توافق في الآراء على مستوى اليهود والعرب، فيما كانوا يدركون بالقدر نفسه عزوف الوكالة اليهودية عن القبول بأي شيء بخلاف العمل الفوري على قيام دولة مستقلة، بكل ما كان يرتبط بذلك، على نحو ما يضيف الموقع النقدي الأميركي، من كارثة تلحق بالفلسطينيين.

والسبب على نحو ما تحرص المؤلفة على إيضاحه، بموضوعية وجلاء، يتمثل في حكاية العنصر النفطي أو الصلة - الذريعة البترولية، وهي ترجع في هذا الجانب إلى ما سبق أن توصلت إليه هيئة أركان الحرب في الجيش الأميركي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خلال رسم خارطة المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، من إدراك أن إسرائيل إذا ما قامت في عام 1948 سوف تشكل ضماناً لمصالح أميركا النفطية في المنطقة.

وبحيث يتم تزويدها بكل ما يؤدي إلى تفوقها العسكري بما يكفل تدفق النهر البترولي النابع في الشرق الأوسط بغير إعاقة ولا انقطاع، وكأن إسرائيل هي مندوب إقليمي عن أميركا، ومن شأنها أن تجعل الاتحاد السوفييتي، مع مطلع الخمسينيات، يلزم حدوده بعيداً عن تخوم الشرق الأوسط.

تحذير

في جانب مهم من تصورات المؤلفة، وبحكم ما التزمت به من منهج الدرس الموضوعي والتحليل العلمي، تسلّم من واقع ما اطلعت عليه من وثائق ومستندات بأن المسؤولين الأميركيين، منذ إدارة الرئيس ترومان، كانوا على قدر واضح من الإحاطة بمشكلات المنطقة منذ عام 1945، وفي ذلك الوقت كانت الحكمة السائدة تذهب إلى أن فرض دولة إسرائيلية مستقلة يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وقد يهدد استفادة أميركا من الإمكانات النفطية بالمنطقة، بل وقد يفضي أيضاً إلى فتح أبواب الشرق الأوسط أمام نفوذ السوفييت.

المؤلف

إيرين غنديزير أستاذ فخري في كبرى الجامعات الأميركية. حصلت على الليسانس والماجستير والدكتوراه من جامعة كولومبيا، حيث تخصصت في دراسات السياسة المقارنة والتطورات السياسية والاقتصاد السياسي على المستوى الدولي، فضلاً عن الدراسات التي اتخذت منطقة الشرق الأوسط، مشكلاتها وقضاياها، محوراً أساسياً.

وقد راعت في دراساتها السياسية المقارنة عنصر التكامل والتداخل بين الجوانب السياسية والأوضاع الاجتماعية، على نحو ما أنجزته في دراستها التي حملت عنوان السياسة والمجتمع في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وهي دراسة جمعت، على نحو ما يفيد به عنوانها، بين رصد التطورات السياسية وتحليل الأوضاع الاجتماعية، في المغرب العربي والمشرق العربي على السواء.

تأليف: إيرين غنديزير

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: جامعة كولومبيا، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 400 صفحة

Email