الخوف على الأسرار والمصالح الكبرى يُؤرق الدول فائقة التقدم

الشعوب المتقدمة تدفع ثمن إنجازاتها غالباً

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجمع هذا الكتاب بين عنصرين أولهما تُلخّصه كلمة «التطور» أما الثاني فتلخصه كلمة «الرعب».

والمعنى أن بذل مؤلفا الكتاب كل جهدهما في إجراء البحث الميداني وتدوين الملاحظات المبنية على أساس الاستنتاج العلمي، من أجل التوصل إلى نتيجة تكاد تُحذّر العالم بأن كل ما استطاع أن ينجزه من تطورات يصل بعضها إلى مستوى الفتوحات، وخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال، ومجال الاستخدام الحاسوبي عبر شبكات الانترنت، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي وما في حكمها.

هذه الفتوحات المرموقة لها وجه آخر بالغ السلبية وجسيم الخطورة، ويتمثل في أن كل هذه الوسائل الالكترونية وما في حكمها باتت تمثل خطراً على المعلومات التي تخّص الافراد والمجتمعات والحكومات، المصالح الفردية والفئوية والقومية على السواء.

والمعنى أيضاً أن يصبح مستباحاً أو بالأدق قابلاً للانتهاك والاستراق والتلصص والاطلاع المشروع أحياناً وغير المشروع في معظم الاحيان، وهو ما دأبت فصول هذا الكتاب على التحذير من عواقبه التي باتت تتمثل في استخدام هذه التطورات التكنولوجية، المذهلة في بعض الاحيان، وسيلة لانتهاك الخصوصيات واغتصاب حرمة البيانات المودعة في أقبية وسراديب الإدارات الحكومية.

في رائعته التي يعارض فيها همزية البوصيري يرسل أمير الشعراء أحمد شوقي مقولته الحكيمة «ومِنْ السموم الناقعات دواء».

وفيما استمع الناس إلى هذه الحكمة الشعرية عند أوائل القرن العشرين، فها نحن نشهد في أوائل هذا القرن الحادي والعشرين ما يمكن أن يتعارض، إن لم يتناقض، مع ما سبق إليه أحمد شوقي، وإلى حد يوصّلنا إلى أن نقول من جانبنا:«ومن الدواء ما يمكن أن يكون سموماً ناقعات».

ولقد سبق إلى تصوّر هذا الكابوس، الذي يمكن أن يصيب الحياة الراهنة في عالمنا مفكر إنجليزي هو ألدوس هكسلي (1894، 1963) حين أصدر في عام 1931 روايته، الكابوسية كما قد نصفها، بعنوان «عالم جديد شجاع» وتصوّر فيها عالماً أو كوكباً أرضياً يتحمل مغبة الانجازات التي سبق إلى تحقيقها علماؤه وباحثوه ومخترعوه .

في القرن السابق نفسه، وفي عام 1921 بالذات، عرض المسرح التشيكي مسرحية بقلم كاتبهم كاريل شاييك الذي كان أول من استخدم كلمة «روبوت» كي تنطبق على ما تصَّوره المسرحي التشيكي المذكور، بأنه كائن ميكانيكي يجسد في الأساس آلة تدار أيامها بطاقة الكهرباء، كي تؤدي بعض ما اعتاد المخلوق البشري أن يؤديه في مختلف مرافق الحياة.

وحين جاء عام 1928، شهد الناس أول روبوت، أول كائن اصطناعي كان من اختراع المهندس العالم و. ريتشارد وكان عبارة عن جسم مصنوع من معدن الالمنيوم ومزّود بأحد عشر مغناطيساً كهربائياً إضافة إلى محرك (موتور) متصل بمصدر كهربائي ويضم طاقة 12 فولتا.

وفيما حدد الروائي الانجليزي هكسلي لأحداث روايته التي ألمحنا إليها أن تدور في لندن عام 2540، وسرد فيها ما صّوره خياله الواسع من مستقبليات كابوسية يعيشها عالمه وعالمنا بعد أكثر من 600 سنة، فقد طوّح به هذا الخيال الواسع إلى تصوّر استغناء العالم عن عملية التكاثر، الانجاب بأسلوب العلاقة المعهودة بين الجنسين، فضلا عن استخدام أقرب إلى التنويم الايحائي، المغناطيسي في تعليم وتدريب الناشئة.

من الروبوت إلى الميكروبات

هذا الشغف بما تخبئه صفحات المستقبل هو المنطلق الذي تصدر عنه أفكار الأستاذين اللذين أصدرا أخيراً الكتاب الذي نتعامل معه، بمنطق الاطلاع والتأمل في السطور الحالية.

الكتاب يحمل أساساً العنوان التالي: مستقبل العنف، ولا يلبث الكاتبان أن يضيفا عنواناً فرعياً، أو بالأدق عنواناً تفصيلياً أو تفسيرياً يقول بما يلي: الروبوت، والجراثيم والهاكرز (لصوص البيانات) والطائرات بغير طيار. وكأنما لم يكفهما العنوان المفصل السابق، فقد عمدا إلى إضافة عنوان ثالث أقرب إلى جرس الانذار ويقول: مجابهة عصر جديد من التهديد.

والحق أن أول ما يراود القارئ من مطلعة مقولات هذا الكتاب هو شعور أقرب إلى صدمة المستقبل كما قد نقول. لمــــاذا؟

لأن المؤلفيْن لا يتورعان عن مفاجأة بل مداهمة القارئ عند مستهل الصفحات، حين يبادران إلى تسجيل ما يلي: على سبيل التجربة الفكرية، تخيّل عالَماً يضم في المستقبل (كما هو متوقع) مليارات البشر وهم يمضون جيئة وذهاباً بينما يحملون في جيوبهم عدداً من الأسلحة.. النووية.

هنا يخف الناقد الأميركي مات ويلش إلى تعليق خاطف على هذه العبارات فيقول: إن هذه المقولة التي تتصدر استهلال كتاب «مستقبل العنف» لا يمكن أن تؤخذ سوى على محمل الجد الشديد العميق، رغم أنها تجسد تلخيصاً باعثاً على كل الأسى بشأن ما سوف يتعين على واشنطن (وأميركا والعالم) أن يعاينوه أو يعايشوه عندما تكتسب التكنولوجيا بطابع الانتشار والذيوع الديمقراطي.

والمعنى أن هذه «الدمقرطة» للتكنولوجيا وانجازاتها وربما فتوحاتها غير المسبوقة ستكون كفيلة بأن تنزل هذه التكنولوجيا من أبراجها العاجية في المختبرات العلمية ومؤسسات البحوث المنعزلة إلى حيث تصبح بضاعة شائعة وأساليب متداولة في شوارع العالم.

وهنا أيضاً يبادر المؤلفان إلى تشخيص موجز لمثل هذه التوقعات المنذرة بالقلق، وهما يطلقان على هذا الاحتمال التوصيف التالي: تكنولوجيات التمكين الجماهيري.

أخطار تكنولوجيا المستقبل

وفي محاولة لشرح دلالات هذا المصطلح، يبادر المؤلفان إلى إثبات وتعداد المنجزات التالية التي بات العالم يشهدها، أو يرتقبها في ميادين التكنولوجيا. ومنها ما يلي على سبيل المثال: شبكة اتصالات الانترنت، تخصيب وتقسيم وتوجيه الجينات الوراثية، تكنولوجيا الصغريات – (النانو تكنولوجي)، كائنات الذكاء الاصطناعي، الروبوت واستخداماتها المستقبلية.

هنا لا نملك كقارئين سوى أن نستعيد مقولة الشاعر أحمد شوقي بشأن احتمال تحوّل البلسم الشافي إلى سمّ زعاف، حيث يوضح مؤلفا هذا الكتاب أن ما يتوصل إليه عقلنا البشري وعالمنا السائر بسرعة مشهودة على صراط التطورات المذهلة في بعض الاحيان، يمكن أن يوّصل إلى قيام بيئة كوكبية تصفها سطور هذا الكتاب بأنها تسودها حرية بغير مسؤولية .

استعادة تنبؤات كاسندرا

يصدق الوصف النقدي حين يذهب إلى أن مؤلفي كتابنا يقومان عبر الصفحات والسطور بدور كاساندرا، عرّافة النذير في أساطير اليونان الاقدمين، ومن ذلك مثلا ما يحذران إزاءه من تعرض المؤسسات والبيانات والسجلات الحكومية لغارات اجتياحها، من جانب لصوص البيانات الحاسوبية وقراصنة الاسرار الاستراتيجية، وهو ما يدفع فصول هذا الكتاب إلى أن تردد الدعوة إلى تحصين هذه المؤسسات، في أميركا مثلا وغيرها.

من أخطار مَنْ يعملون على اقتحام خصوصياتها، يستوي في ذلك مثلا عصابات الأفراد داخل أميركا، بقدر ما تستوي – في تصورات المؤلفيْن، جهود أو اقتحامات يمكن أن تصدر عن أطراف على الجانب الآخر من الصورة ومنهم مثلاً الرئيس الروسي بوتين كما يقول هذا الكتاب.

هنا أيضاً لا يتورع المؤلفان عن الاحالة إلى رواية كابوسية أخرى، مازالت لها شهرتها الكوكبية في عالمنا، وهي رواية «1984» التي نشرها في عام 1949 المبدع الانجليزي جورج أورويل (1903، 1950) وحذّر فيها من منظور الرؤى المستقبلية من نظام الدولة الديكتاتورية التي لا يتورع فيها الحاكم المطلق عن مصادرة حريات المحكومين ومراقبة حركاتهم ورصد سكناتهم، فيما يضفي عليه المؤلف جورج أورويل الوصف الشهير التالي: الأخ الكبير

هنالك يتحدث مؤلفا كتابنا عن شقيق آخر من شجرة العائلة نفسها التي لا تحترم حريات الناس ولا تصون خصوصياتهم، وهذا الآخر هو:الأخ الصغير.

الأخوان الصغير والأوسط

والمعنى، كما يوضح المؤلفان، أن المستقبل كفيل بأن يشهد أكثر من «أخ صغير». وهما يؤكدان عبر السطور أن الخطر الأكبر إنما يتأتى من «أَعداد لا حصر لها من هذه النوعية من الاخوة الصغار ومن الاخوة المتوسطي الحجم ممن يكونون نتاجاً للتكنولوجيا التي استطعنا التوصل إليها».

هنا يشدد مؤلفا الكتاب على أن هناك دوراً بالغ القوة وشديد الفعالية لابد وأن تضطلع به الدولة الحديثة، في الحاضر والمستقبل، من أجل حماية مواطنيها بكل ما يتصل بهم وبمصالحهم من أسرار وبيانات ومصالح وخصوصيات، في مواجهة خطر تلك التيارات التكنولوجيا التي تهدد بالإغارة على كل هذه الأسرار والمعلومات، وبما يجعل المجتمع مكشوفاً ومعرضاً لسائر أنواع التهجم،.

هنا أيضاً نلاحظ أن كتابنا، الصادر منذ أشهر قليلة، يعمد للإحالة إلى كتاب آخر سبق وأن صدر في موضوع الدولة منذ 350 سنة من تأليف السياسي الانجليزي توماس هوبز، الذي شدد على دور الدولة بوصفها قوة حزم إن لم تكن إرادة ردع، فلم يتورع عن أن يطلق على الدولة وصف المارد أو التنّين (Leviathan) الذي يضطلع بدور حاسم قاطع في الحيلولة دون اشتعال نيران حرب الجميع ضد الجميع.

وفيما يسلّم مؤلفا الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور بأن لا سبيل على الاطلاق لاستعادة هذا الدور بالنسبة للدولة الحديثة أو المعاصرة، الراهنة، بعد أن عرف عالمنا ونظمنا السياسية معنى الحرية والديمقراطية، إلا أنهما يؤكدان على أن رؤية الفيلسوف الانجليزي هوبز لاتزال صحيحة، من حيث واجب الدولة في زماننا الراهن إزاء المسؤولية عن حماية رعاياها.

أبعاد جديدة للمشروعية

هنا أيضاً يشير الكاتبان إلى ما أصبح ممكناً بفضل الإنجازات الحاسوبية والتطورات المعلوماتية من إتاحة سبل التوصل إلى، والاطلاع على، مفاتيح المعلومة أو كلمة السر (Pass Word) التي طالما ظّن الكثيرون أنها تشكل حائط الصدّ الذي يحول دون الاطلاع على خزائن المعلومات الفردية أو الجماعية ومن ثم الحفاظ على أسرار البشر والدول والنظم، لقد ثبت أن هناك من قراصنة المعلومات، على نحو ما يحذر كتابنا، مَنْ استطاع خلال فترات قريبة ماضية أن يتوصل إلى ما أصبح يوصف بأنه السبل المتقدمة والمعقّدة لإدارة وتفكيك كلمات السر.

ليس صدفة إذن أن ينشر مثقف أميركي بارز، هو البروفيسور دﻳفيد كول، أستاذ القانون بجامعة «جورج تاون» دراسة بشأن موضوع الكتاب ثم يختار لها عنواناً لا نخطئ دلالته وهو«أميركا الجديدة: قليل من الخصوصية، مزيد من الرعب».

أساليب جيمس بوند

على الجانب المقابل من هذه التحذيرات التي يسجلها كتابنا، يحاول المؤلفان تجسيد ما يتوقعانه وما يحذران من وقوعه، في سنوات ليست بالبعيدة من تاريخنا الراهن. بيد أننا نلاحظ كقارئين أنهما يعمدان إلى طرح صور التحذير المستقبلية تحت الصيغة الشهيرة التي تتألف من كلمتين: مـــــــاذا.. لـــــو؟

وفي ظل هذه العبارة تتوالى طروحات الكتاب على النهج التالي: عن حكاية التهديد بمادة الأنثراكس المدمرة خلال ملابسات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في أميركا. لقد عمدت عناصر الإرهاب وقتها إلى نثر المادة المذكورة في مظاريف بريدية هنا أو هناك، فماذا لو استخدموا يومها طائرة غير مأهولة (بدون طيار)، لكي تتسلل وتنثر المسحوق الخطير إياه فوق جمهور غفير من آلاف البشر قابع في استاد لمشاهدة إحدى المباريات؟

ومـــــاذا أيضاً؟ ماذا لو عمد خريج، مجرد خريج في علم بيولوجيا الجزيئات، إلى إعادة توليد فيروس وباء الجدري، ومن ثم إلى استخدامه سلاحاً من أسلحة الحرب؟

ثم ماذا لو عمد رجل الأعمال فلان إلى اغتيال، نَعَم اغتيال، شريك مخالِف أو منافس خطير، ولن تتم هذه الجريمة في سيارة الضحية أو تحت جنح الظلام، بل تتم ـ يضيف كتابنا- بينما يكون الضحية المغدور واقفاً، ومستسلماً وربما ماشياً تحت مياه الدشّ الذي يفضله بارداً أو ساخناً في حمام بيته الانيق، وهنا يتم تسليط عنكبوت اصطناعي – روبوتي يخترق المكان، ثم يدمر نفسه ذاتياً بين جدران الحمام.

صحيح أن مؤلفي هذا الكتاب يقتربان أحياناً في بعض مواضع التحذير من أسلوب جيمس بوند إياه، على نحو ما تلاحظه جريدة «وول ستريت جورنال»، إلا أن الجريدة الأميركية المذكورة لا تلبث أن تعترف بأن العالَم جدير بأن يواجه، في مستقبل ليس بالبعيد، العديد من مثل هذه السيناريوهات الحافلة بالتهديدات المتنوعة سواء على مستوى الافراد المقّدر لهم أن يواجهوا أخطاراً غير مسبوقة ولا معروفة من قبل، أو سواء من جانب الدول والكيانات السياسية المحورية المكتوب عليها بدورها أن تواجه عناصر وأعداء من غير الدول وإن كانوا قادرين على إلحاق أضرار فادحة والتسبب في مشكلات معقدة بغير حدود.

مشروعية

الكتاب يحسن التأكيد على أن مشروعية أي حكومة لا تُستمد فقط من الاقتصار على أساليب الاقتراع أو ممارسات المجالس التشريعية وما في حكمها، ويشدد على أن مشروعية الحكومة تتحقق وتتأكد من خلال قدرتها على حماية مواطنيها من مغّبة انتهاك أسرارهم أو الاعتداء على ما يخصهم من معلومات أو بيانات ابتداءً من محيط الاسرة، وليس انتهاء بحسابات البنوك. وفصول الكتاب تصدر هنا عن تأكيد العلاقة المتآزرة والمتبادلة بين الحرية والامان، على أساس أن أياً من هذين الجانبين لابد وأن يظل مكمّلا للجانب الآخر.

المؤلفان

بنجامين ويتس كاتب وباحث أميركي تخرج من كلية أوبرلين، وتخصص مع بدء حياته العملية في البحوث القانونية وبعدها تحوّل إلى دراسات أساليب إدارة الحكم ، حيث يشغل الآن موقع الباحث الأقدم في مؤسسة بروكنغز .

الدكتورة غابرييلا بلوم تعمل أستاذة في مجال قانون حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني بكلية الحقوق في جامعة هارفارد. وهي تشارك في إدارة مشروع مؤسسة بروكنغز بشأن القانون والأمن.

تأليف: بنجامين ويتس وغابرييلا بلوم

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: بيسك بوكس، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 324 صفحة

Email