نهاية الثقافة الأميركية في الشرق الأوسط

أبناء الشرق الأوسط يحققون استقلالهم الثقافي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يأتي هذا الكتاب الصادر في أواخر عام 2015، ليشكل حلقة جديدة في السلسلة الشهيرة التي تبدأ كما أصبح معروفاً بكلمة «نهاية». وهي السلسلة التي جاءت بداهة في مطلع عقد التسعينات من القرن العشرين من خلال الكتاب الذي سبق إلى إصداره المفكر السياسي الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما بعنوانه الشهير «نهاية التاريخ».

وفيما قصد فوكوياما الإشارة، بل والاحتفال بما كان يتصوره من حقبة مستجدة تماماً على الساحة العالمية تشكل عنواناً على انتهاء الحرب الباردة، هزيمة وسقوط، ومن ثم زوال القطب الشيوعي السوفييتي إلا أن الكتاب الذي وضعه البروفيسور بريان إدواردز يصدر عن تفسير مخالف تماماً لتلك النهاية التي قال بها فوكوياما، بمعنى أن التصوّر الذي نحن بصدده يرى أن الثقافة التي ظلت أميركا تؤثر فيها على العالم قد آذنت تأثيراتها بنوع من الانحسار.

وخاصة في ضوء ما استجد على عالمنا من ثورات في مجالات عمليات البث الإعلامي الفضائية، وفي إنجازات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كل هذه المستجدات الثورية أتاحت للشعوب في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم، أن تتعامل مع الثقافة الأميركية لا بمنطق التسليم السلبي، ولكن بمنطق الفرز والتمحيص وإعادة الصياغة، ومن ثم تحويلها إلى نمط يكاد يخالف الأصل الذي منه نبعت.

هنري لوس، اسم لايزال يتردد في حوليات المهنة الصحافية على مستوى العالم كله. عاش هذا المثقف الأميركي على مدار الفترة من 1898 إلى 1967. درس في جامعة يال التي مازالت تعد في طليعة المؤسسات الأكاديمية بالولايات المتحدة، وبعدها طرق أبواب صناعة النشر ومهنة الكتابة والتحقيق الصحافي.

ثم دخل تاريخ مهنة البحث ــ كما يسمونها ــ عن المتاعب من باب بالغ الأهمية، وذلك حين قرر أن يضفي على أعماله واهتماماته الصحافية صفة المؤسسة. ومن هنا ارتبط اسمه في التاريخ الصحافي بحقيقة محورية هي تأسيس مجلة «تايم» السياسية ومجلة «لايف» المصورة.

في سنة 1941 أطلق هنري لوس، شعاره الشهير الذي ينادي بالتالي: «نحن نعيش القرن الأميركي».

هذا الشعار جاء معبراً عما آلت إليه أوضاع عالم ذلك الزمان، كانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها قبل إطلاق الشعار المذكور بنحو 23 سنة، وكانت الإمبراطوريتان الإنجليزية والفرنسية قد مالتا نحو الغروب، فيما نهضت الأقطار الجنوبية المستعمَرة كي تتطلع إلى غد من الحرية والاستقلال الوطني، وكان شرق أوروبا في حال من التوجه نحو روسيا الستالينية في ذلك الزمان.

ساعتها تطلّع الكاتب الصحافي لوس من حوله (وكان بالطبع في أوج نضجه العمري، وطموحه المهني، 43 سنة) فلم يكد يجد سوى أميركا: بلد بغير تركة استعمارية، رغم مواريث لم تكن ظاهرة بما يكفي من مقاليد الهيمنة على أقطار نصف الكرة الغربي، بقدر ما كانت أميركا بلداً محظوظاً بإمكانات واعدة، وكـــيانات متعافية وكفاءات كانت في معظمها وافدة من وراء الأطلسي، حاملة وسط متاعها خبرات وإمكانات وقدرات ومواهب وأحلاماً قُيض لها أن تدفع ثم تصبّ كل هذه الإمكانات في شـــرايين الحياة الأميركية.

شعبية الثقافة الأميركية

هنالك أطلق لوس شعاره الذي ألمحنا إليه، ثم بادر إلى ما يسميه أهل المهنة بأنه التخديم على مضامين ودلالات هذا الشعار، مستخدماً في ذلك كلاً من «لايف» و«تايم» على السواء.

هنا كان بديهياً أن تتجسد عملية التخديم المذكورة أعلاه في إطلاق العنان لجهود وتغطيات وتحقيقات صحافية متواصلة الخطي وشاسعة النطاق، بحيث ظلت المواقع والمنافذ والمؤسسات والقدرات الأميركية قائمة على أمرها، انطلاقاً من المبدأ الذي أشاعه هنري لوس، ومن ثم شق طريقه إلى حياة وأفهام وجهود المخابرات بين صفوف مثقفي ومفكري ومبدعي أميركا.

فضلاً عن صفوف مسؤوليها في شتى مناحي النشاط على السواء. والمبدأ يقول إن الثقافة الأميركية أصبحت تنعم بقدر لا يخفى من الشعبية والرواج، وهو ما سوف يجعل العالم معجَباً، ومن ثم مؤيداً لمصالح أميركا وأهدافها على مستوى العالم بأسره.

ولأن دوام الحال هو بديهياً من المحال، فقد جاء هذا الحين من الدهر لكي تتغير الأوضاع، وتتبدل معالم الصورة، ثم تترجم الأمور نفسها إلى مرحلة باتت تعرف في اللحظة الزمانية الراهنة بأنها العصر الرقمي، حيث أصبحت بدورها مؤذنة بأن ما كان يوصف بأنه «القرن الأميركي» قد أصبح، أو يكاد يصبح من ذكريات الماضي.

عن التطورات المستجدة

هذه التطورات هي التي يقصد إلى التعامل معها أحدث كتاب صادر في هذا الشأن، وقد اختار له مؤلفه عنواناً يكاد يلخص كل ما ذهبنا إليه وهو: «ما بعد القرن الإفريقي: نهايات الثقافة الأميركية في الشرق الأوسط».

أما المؤلف البروفيسور بريان إدواردز فهو أستاذ جامعي وأكاديمي اختصاصي في الدراسات الدولية وقضايا العولمة، وبالذات ما يتعلق ــ كما تفيد بذلك سيرة حياته واهتماماته ــ بالإنتاج والنشاط الثقافي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ما يضفي بداهة قدراً لا يخفي من المصداقية على ما يطرحه من أفكار وما يخلص إليه من أحكام.

ولعل أول ما يسترعي اهتمام قارئ هذا الكتاب أن المؤلف يبادر إلى طرح المقولة المحورية التالية: لم تعد مخرجات، بمعنى نواتج، الثقافة الأميركية تشق طريقها بشكل مباشر كما كانت في مراحل سبقت إلى عقول وإلى وجدان الشعوب الأخرى.

ربما كان ذلك ميسوراً وبديهياً في أيام سينما هوليوود وأفلامها وتصاويرها المزوقة بكل الألوان الطبيعية. نحن الآن في العصر الرقمي بكل ما يحفل به من وسائل الاتصال الاجتماعية ومن فتوحات التقدم الإلكتروني، ولقد أدت منجزات وسبل هذا العصر إلى أن أصبحت النواتج الشعبية للثقافة الأميركية، ما بين كتب الكوميديا إلى رومانسيات المراهقين إلى مواقع التواصل، يعاد صياغتها بما أصبح يتلاءم مع الثقافات الوطنية والأذواق المحلية في كل بلد، وإلى حيث أصبحت تتخذ أشكالاً مختلفة عن الأصل الأميركي تمام الاختلاف.

ماذا فعلت شعوب المنطقة؟

يلمح مؤلف الكتاب إلى ما لايزال يشيع في أرجاء الشرق الأوسط من عوامل القلق إلى حد الاضطراب، في بعض الأحيان، وتلك عوامل تدفع الشعوب منطقياً إلى التطلع نحو حالة من الاستقرار، ما يدعوها للتمسك بأهداب واقعها الوطني وتراثها القومي وأعرافها المحلية المجسدة منطقياً في مسارات ثقافاتها الأصلية، وهو ما يجعلها، منطقياً كذلك، في حال من العزوف عن الإصغاء السلبي لأصوات تترامى من خارج الحدود.

وبديهي أن ينــبّه مؤلفنا إلى أن شعوب الشرق الأوسط لن تبادر مثلاً إلى تغيير مضامين الفيلم الأميركي، ولكنها سوف تعمد في ضوء المستجدات المتوالية إلى إعادة فهم للمضمون أو إلى تنقيح مفاهيم سبقت، أو إلى بلورة مواقف ودروس مستفادة واعية على ضوء التجارب التي سبقت إزاء هذا المنتَج الوافـــد من ساحات الولايات المتحدة.

والمعنى أنه مع صحوة شعوب الشرق الأوسط، ضمن مجمل شعوب العالم الثالث، وبالذات في القارات النامية الثلاث، فإن هذه المؤسسات عبر الوطنية (ترانزناشونال) لن تظل محافظة، كما كان الأمر في الماضي، على فعالية تأثيراتهـــا في وجدان شعوب تلك القارات التـــي حان الوقت لكي تدرك فعالية مؤثراتها الوطنية كما ألمحنا، تــماماً كما حان الوقت الذي بدأت معه تلك الشـــعوب، النامية في أغلبها، في مراجـــعة مــسيرتها وعلاقاتها مع المؤسسات المالية والاقتصادية عبر الوطنية من أجل تحجيم تأثير تلك المؤسسات من جهة وترشيد جهود ومخططات تلك المؤسسات في تلك الأصقاع من جهة أخرى.

ولاشك في أنه أتى على العالم حين طويل من الدهر، وخاصة بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، تحولت فيه أميركا لتصبح أقرب إلى سيدة النفوذ الأدبي أو مصدر المؤثرات الثقافية في عالم ذلك الزمان.

بيد أن هذا التأثير الثقافي لم يكن ليتمثل في إنتاج أعظم الأعمال الأدبية، بقدر ما جاء مجسداً في ما استطاعت أميركا أن تقدمه لعالمها متمثلاً باختصار شديد في أسلوب كان مستجداً، إن لم نقل مبتكراً وسائغاً للمعيشة، ابتداء من شيوع لفظة «أوكيه» بمعنى اتفقنا، أو حسنا، أو كما يقال بالعامية الدارجة «ماشي»، (وقد انتشر استخدام اللفظة المذكورة لدرجة أصبح معها الإحصائيون يصنّفون «أوكيه» باعتبارها أشهر لفظة في العالم وأوسعها شيوعاً، يستوي في ذلك أهل البوادي وأرباب الحضر مع ساكني الجبال والسهوب والغابات ومَن إليهم)، بقدر ما أصبحت أميركا بأفلامها الهوليوودية ورسوم ديزني المتحركة.

ومجلة «المختار» العتيدة (ريدرز دايجست) ناهيك عن حكاية قميص التي- شيرت البسيط، ثم السروال الجينز الذي يتم ارتداؤه بقدر ملحوظ قد يوحي بالإهمال أو عدم الاكتراث المتعمد، كما قد نقول، فما بالنا بأهم منتوجات هذه الثقافة أو بالأدق طريقة الحياة الأميركية متمثلة في مشروب الكولا الذي يعد بدوره أشهر اسم متداول ــ كما يقول الخبراء ــ في أنحاء العالم، كل ذلك جعل هذا المُدخل الثقافي الأميركي عنصراً بالغ التأثير على عقل ووجدان قطاعات وشرائح وأجيال وأقـــطار متنوعة من شمال عالمنا وجنوبه على السواء، وعلى مدار عقـــود عدة من حقبة القرن العشرين.

وقبل أن ينــفضّ هذا العالم، بعد التشبّع بهـــذا الأسلوب في المعيشة، ومع اشتداد ساعد حركات التحرير الوطنـــية في الأقطار المتأثرة، إذْ بأميركا، وقد بدأت تدرك انحسار مؤثراتها، تبادر من جانبها إلى اكتشاف آفاق مستــجدة على فهم العالم وتصورات شعوبه.

وكانت آفاقاً رائعة وغير مسبوقة بكل المعاني، حيث تراوحت بين تطوير الإرسال ومن ثم التأثير التلـــفزيوني مع اكتشاف إمكانات البث بوساطة الأقمار الاصــــطناعية، إلى جهود ارتياد الفـــضاء واستكشاف سطح القمر الحــــقيقي ــ الطبيعي هذه المرة ــ إلى أن نجحت في إنجاز ما أصبح يعرف باسم ثورة الحواسيب، وهو ما أوصل إلى استكــشاف واستخدام شبكة الإنترنت التي فتحت أبواب حقبة رائعة، عرفت باسم عصر العولمة.

منطق العصر يفرض نفسه

تتنقّل منظورات هذا الكتاب عبر مواقع عدة من ساحة الشرق الأوسط، ما بين طهران وصناعة السينما الإيرانية إلى الدار البيضاء، حيث يتسنى رصد المستجدات التي ما برحت تطرأ على المشهد العام في المغرب العربي، إلى القاهرة، وخاصة بعد مشاهد ومواقع ميادين التحرير وتغييرات الحياة في مصر العربية عقب ما اصطلح المراقبون على وصفه ــ في دوائر الغرب بالذات ــ بأنه الربيع العربي، هذه المواقع التي تعرض لها فصول كتابنا الخمسة تشهد ــ في رأي المؤلف ــ بأن الثقافة الأميركية لم تعد هي محور حياة الناس، ولا ظلت هي المؤثر الوحيد أو الأساسي في تشكيل مسارات حياتهم الثقافية أو الوجدانية.

صحيح أن أميركا لاتزال مؤثرة من خلال ما اصطلحوا على وصفه بأنه القوى الناعمة. لكن الأصح، كما يوضح المؤلف أيضاً، أن هذه القوى الناعمة، بلغت من نعومتها إلى حد لم تعد قوى صامدة أو فعالة أو مؤثرة في نحو ما كانت عليه الحال في عقود سبقت من القرن العشرين، أولاً لأنها لم تعد تستجيب لما أصبح يراود جماهير الشرق الأوسط من آمال وتطلعات، فضلاً عما كانت تعانيه من مشكلات وتعقيدات وآلام.

وثانياً لأن أقطار الشرق الأوسط بلغت سن الرشد من حيث الوعي بحقائق عالمنا وبتطورات الأحداث، ومن ثم فقد تشكلت لها وتبلورت أيضاً أنماط ثقافاتها الوطنية والقومية الخاصة بها والمعبّرة عما بات يجيش في صدورها من آلام وآمال.

صحيح أنها لا تستغني عن مفردات ومخرجات الثقافة الأميركية، لكن بعد أن تمارس عمليات من المراجعة والفرز والتمحيص والتقييم لهذه النواتج الوافدة من وراء المحيط، وبحيث تتحول من موقع المتلقي السلبي إلى موقع آخر يتيح لها اتخاذ موقف المستفيد المتفاعل أو المستورد الإيجابي الذي يعيد تشكيل البضاعة الواردة، ويضيف عليها إلى حيث يغيّر صياغاتها ويبّدل مضامينها في الوقت نفسه.

والذي يساعد على ذلك هو أنه حتى هذه البضاعة الثقافية الأميركية أصبحت، حسب منطق عصر العولمة، تتسم بالطابع الإلكتروني والرقمي، وكأنها تتكلم لغة كوكبية، ما يتيح للمنطق نفسه إضفاء التغييرات المطلوبة عليها، باعتبار أن الحواسيب إنما تتكلم لغة كوكبية بدورها.

ومن ثم فلم يعد من سبيل ــ على نحو ما يؤكد مؤلف هذا الكتاب ــ إلى اقتصار شعوب الشرق الأوسط على مجرد محاكاة أو تكرار نواتج الثقافة الأميركية، في حين أن منطق العصر نفسه بات يقضي بأن تبدأ الشعوب بتلقّي وتحليل هذه المخرجات الوافدة، ومن ثم تبادر إلى هضمها واستيعابها ثم إعادة إنتاجها تمهيداً لطرحها في إهاب مبتكر.

تجاوز

فيما بدأت أميركا تتصور أنها تؤدي إلى تكثيف تأثيراتها الثقافية، إذا بهذا العصر بكل ما جاد به من وسائل التواصل الاجتماعي، يؤدي من جانبه إلى إتاحة السبل التي ينجح من خلالها العالم المتلقي للرسالة الثقافية الأميركية في تفسير وتحوير هذه الرسالة من منظور الواقع الوطني والثقافات الوطنية، ومن ثم في إعادة بثها وكأنما اكتسبت بذلك ثوباً جديداً، مغايراً للأصل الأميركي وهو ما جهد مؤلف كتابنا في تدارسه من خلال ما قام برصده وتحليله على صعيد أقطار شتى .

المؤلف

البروفيسور بريان إدواردز، أستاذ دراسات الشرق الأوسط و شمال إفريقيا في الجامعات الأميركية. وبهذه المؤهلات أوكل إليه إنشاء برنامج اختصاصي في الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط .

تخّرج المؤلف في جامعة يال التي حصل منها على درجة الدكتوراه، وعكف على تدارس ما وصفه بأنه العلاقة بين الولايات المتحدة وأقطار الشمال الإفريقي، على نحو ما يتجلى في مصنَّفه بعنوان «نحو المغرب، من الدار البيضاء إلى إكسبريس مراكش».

تأليف: بريان ت. إدواردز

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة كولومبيا، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 288 صفحة

Email