هل هي نهاية القرن الأميركي؟

أوروبا والهند والصين تستعد لمنافسة أميركا

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يصدر هذا الكتاب بقلم مفكر أميركي بارز واختصاصي في مجالات العلاقات الدولية وقضايا السياسة الخارجية، ويدور حول مستقبل أميركا بوصفها قوة كوكبية، بل يمكن اعتبارها القطب العالمي الأوحد وخاصة بعد تداعي، ومن ثم زوال، أكبر منافس لها على مدار حقبة الحرب الباردة (1945- 1990) وهو الاتحاد السوفييتي. ويتناول الكتاب من منظور تحليلي تطور الدور الأميركي فيما يصدر في الوقت نفسه عن روح من التفاؤل لصالح أميركا مع تدارس الأوضاع العالمية ومستقبل القوى المختلفة التي يمكن ان تشكل عناصر لتحدي دور ومكانة أميركا.

وفي هذا السياق يتوقف الكتاب عند ثلاثة اقطاب مرشحة لدور التحدي على مستوى العالم وهي أوروبا والهند والصين، بينما يتولى المؤلف عرض وتحليل ظروف وإمكانات هذه الأطراف الثلاثة من منظور قدرتها، أو عدم قدرتها، على إزاحة واشنطن عن المكانة التي ما برحت تتمتع بها.

عقد التسعينات من القرن العشرين، كان حقبة عشرية حافلة بالتغيرات بقدر ما جاءت مشحونة بالمفاجآت. بدأ هذا العقد الختامي من القرن الماضي بتداعي المعسكر الشرقي (وكان يحمل صفة الاشتراكي) ولمّا يستهل سنته الأولى إلا وجاء النذير السياسي يحمل النبأ الخطير: لقد انتهى الكيان المعروف باسم الاتحاد السوفييتي. وتهيأت الولايات المتحدة لكي تصبح القطب العولمي- الكوكبي الوحيد بل الأوحد على مستوى عالم التسعينات.

ولم تشأ حقبة التسعينات أن تنقضي إلا بعد أن رددت أصداؤها اثنتين من المقولات أو الدعوات انشغل العالم بأمرهما ربما حتى الوقت الحاضر:

المقولة الأولى تمثلت فيما ذهب إليه البروفيسور صمويل هنتنغتون أستاذ علم السياسة والفلسفة السياسية بجامعة هارفارد الأميركية وحملت العنوان التالي: »تصادم الحضارات«، ومعناها ينصرف إلى أن صداماً كفيلاً بأن يقع بين الكيانات والطروحات العقائدية والدينية في طول العالم وعرضه، وفي مقدمتها كما قال الأكاديمي السالف الذكر، صِدام بين الحضارة الغربية في مجملها وبين الإسلام كياناً وفكراً وحضارة على السواء.

وفيما أثارت مقولة هنتنغتون خليطاً ملحوظاً من الاتفاق، والاختلاف، التقبّل والاستياء ظهرت مقولة أخرى في عقد التسعينات نفسه، وكانت تنطوي هذه المرة على قدر لا يخفي من الايجابية والطرافة والواقعية في آن معا.

يومها حملت هذه المقولة عنوانا يمكن ان تلخصه العبارة التالية: القوى الناعمة والقوى الخشنة، أما الناعمة فهي القوى غير المادية التي تملكها كل أمة وكل مجتمع، ويأتي في مقدمتها عناصر التراث والإبداع والفكر بكل ما ينطوي عليه هذا كله من أعمال الفلسفة والفن واللغة وما إلى ذلك.

وأما القوى الخشنة، فيمكن أن تنصرف إلى المعنى الذي يغطّي جوانب النشاط والنظام الاقتصادي والنواحي العسكرية وما إليها.

تطبيقات القوى الناعمة

وفي كل الأحوال فقد انشغل العالم، ولايزال منشغلا، بمقولة القوى الناعمة بالذات، بقدر تقديره لما يصدر من اجتهادات عن صاحب هذه المقولة، وهو المفكر الأميركي البروفيسور جوزيف ناي استاذ علم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة هارفارد.

ولعل ترمومتر الانشغال قد ارتفع أخيرا من خلال ما يصدر من اجتهادات عن البروفيسور جوزيف ناي، وخاصة مع صدور أحدث مؤلفاته في مطلع عامنا الحالي تحت عنوان لايزال لافتا بكل المقاييس، وقد جاءت صياغته على شكل السؤال التالي: هل انتهي القرن الأميركي؟

وبديهي أن هذا الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور، يستعد للإجابة عن تساؤلات مطروحة عبر الفصول والصفحات، وفي مقدمتها التساؤل بشأن ما إذا كانت المرحلة الراهنة وما يليها من مراحل يمكن أن تُؤذن بغروب شمس المكانة التي ظلت أميركا تتمتع بها، وخاصة منذ خروج غريمها السوفييتي إياه في الحرب الباردة، بعيدا إلى زوايا النسيان.

والحق ان هذه التساؤلات، التي بات يطرحها في الوقت الحالي مجموعات المفكرين والمحللين السياسيين في أميركا بالذات، انما ترتبط بشكل عضوي كما نتصور، بالهواجس التي ما برحت تساور نخبة الاستخبارات داخل أميركا وخارجها بخصوص مستقبل المكانة الأميركية خلال الحقبة الوشيكة المقبلة.

وفيما سبق للكاتب الأميركي من أصل هندي- فريد زكريا- أن أصدر كتابه الشهير منذ 8 سنوات أو نحوها بعنوان »عالم ما بعد أميركا«، فقد حرصت مجلة »فورين أفيرز« على أن تطالع قراءها في واحد من أحدث اعدادها الصادرة في أواخر العام الحالي بملّف ناقشت فيه بدورها مآلات الدور الأميركي في مستقبل الشرق الأوسط.

اما مؤلف كتابنا فهو يتناول مستقبل أميركا الدور والمكانة والتأثير العولمي- من زاوية محددة للغاية حين يذهب عبر صفحات الكتاب إلى أن أميركا لن يُكتب لها أو يُكتب عليها أن تفقد مكانتها في المستقبل المنظور على الاقل، بل إنها جديرة بأن تواصل شَغْل موقعها القيادي المرموق في ساحة الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكية كما يسمونها) وكأنها تواصل ما سبق ان تنبأ به مؤلفنا جوزيف ناي نفسه في كتابه الصادر منذ سنوات سبقت، وقد اختار له بدوره عنوانا له دلالة لا تخفى في وصف دور الولايات المتحدة وهو: مكتوب عليها ان تقود.

شمس أميركا لن تغرب

الكتاب الذي نطالع صفحاته في سطورنا هذه يصدر عن مقولة مفتاحية كما قد نصفها وهي: أميركا لن تغرب شمسها، ولن يُقَّدر لها أن تفقد دورها بوصفها قطباً قيادياً في عالمنا.

والسبب هو أن سائر الأطراف الدولية المرشحة من أجل، والقادرة على أن تتحدى هذه المكانة التي ما برحت تشغلها واشنطن ليست مؤهلة حتى الآن من حيث القدرات والإمكانات والقوى الناعمة والخشنة كي تتحدى أميركا أو تقدر على إزاحتها عن تلك المكانة المتفردة على صعيد كوكبنا.

ولأن مؤلف هذا الكتاب استاذ جامعي، فهو يستهل الفصول بإشارات تفيد بأن القلق بشأن مكانة أميركا وانحسار دورها وتراجع أهميتها، له تاريخ طويل يبدأ ويا للغرابة- مع بدايات الكيان الأميركي ذاته، أي منذ ايام القرن السابع عشر حين كان الآباء المؤسسون كما يسميهم التاريخ الأميركي، تراودهم الهواجس وتستبد بهم المخاوف خشية أن يتدهور الحال بالجمهورية التي أنشؤوها، أي حيث تندكّ قوائمها وتتفسخ أجزاؤها، فإذا بها تلقى مصير امبراطورية روما القديمة التي ارتفع شأوها، ثم ما لبثت أن جابهت مصير التحلل والانهيار على نحو ما تحكي حوليات التاريخ.

من هنا يبدأ مؤلفنا بتفنيد هذه النبوءات، وخاصة تلك التي نشرها أخيرا المفكر الأميركي مايكل ليندا الباحث في مؤسسة »نيو أميركا« الفكرية، حين كتب يقول إن السياسة الخارجية الأميركية باتت في حال من الانهيار، وأن اقتصاد أميركا اصبح عليلا بفعل الأزمات، وأن ديمقراطيتها تحطمت وأعيقت مسيرتها.. الخ.

هنا مؤلف كتابنا والعهدة عليه بالطبع- يطل على الساحة من منظور مغاير، هو منظور التفاؤل حين يتوقع لأميركا أن تواصل اضطلاعها بدور مركزي، أو محوري، في إطار التوازن العالمي- الكوكبي حتى عقد الأربعينات من القرن الحالي.

عن التفاؤل ومبرراته

وحين نسأل كقارئين أو محللين عن جذور، أو مبررات، هذا التفاؤل من جانب أستاذ مخضرم للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، تأتي الاجابة على النسق التالي: أوروبا لا تكاد تشكل تحديا يؤبه به. صحيح ان الكيان الأوروبي- كما يوضح المؤلف- يفوق الكيان الأميركي من حيث حجم الاقتصاد وعدد السكان، لكن الأصح كما يضيف البروفيسور ناي أيضا - هو أن القارة العجوز تعاني حالة من الركود من حيث عدد السكان على وجه الخصوص، وهو ما تؤكده الإحصائية المبسطة التالية: في عام 1900 كان سكان أوروبا يشكلون ربع سكان العالم (25%) أما في عام 2060، فلن يشكل سكان أوروبا سوى نسبة 6 في المئة من سكان عالم الفترة المستقبلية المذكورة، علما بأن ثلث هؤلاء السكان سيزيد عمرهم على 65 سنة.

والمعنى بداهة أن نصرف النظر عن اي تحدٍ من جانب أوروبا ضد أميركا. فماذا عن بلد اسيوي كبير وصاعد اسمه الهنــد؟

هنا يقول المؤلف: بحلول عام 2025، ستكون الهند أكبر بلد حافل بالسكان على سطح الأرض. ثم إن الهند تملك عناصر لا يستهان بها بين مواطنيها من أهل القوى الناعمة، بمعنى عناصر التعامل الكفء المقتدر مع ثورة تكنولوجيا المعلومات والعوالم الافتراضية والعالم الرقمي (ديجتال). لكن هذه العناصر الهندية لا تعيش في أغلبها على أرض وطنها الأم في الهند، بل هي مقيمة في أرجاء الدياسبورا- أرض المهجر والشتات، وهو ما جعل حجم المتعلمين في الهند- على عهدة مؤلف كتابنا- لا تزيد نسبته على 63 في المئة.

ثم ماذا بعد؟

هكذا يتساءل قارئ هذا الكتاب. ماذا بعد ان استخدم مؤلفه أسلوب الاستبعاد حيث استّهل افكار الكتاب باستبعاد أوروبا، وتلتها الهند وأخيرا جاء استبعاد الصين عن منافسة أميركا على مكانتها في المستقبل القريب، فضلا عما أضافه المؤلف من سوء علاقات بكين بجيرانها في أصقاع جنوب شرقي اسيا، حيث لم تفلح الصين حسب رأي مؤلفنا في الفوز بعقول وقلوب هؤلاء الجيران، ومنهم الفلبين مثلا وخاصة ما يتعلق بنزاع بكين الصينية ومانيلا- الفلبين على جزر تحتويها مياه بحر الصين الجنوبي. ثم يتمادى المؤلف قائلا بأن الصين لم يعد لديها سوى قلة قليلة من الأصدقاء الذين يُعتّد بهم أو يمكن التعويل على صداقتهم، اللهم إلا إذا أحصيْنا بينهم كلا من كوريا الشمالية وزمبابوي.

المؤلف

البروفيسور جوزيف صمويل ناي يبلغ من العمر 79 عاماً ويعمل أستاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في كلية أصول الحكم بجامعة هارفارد. وقد شاءت حظوظه أن يتعلم ويتخرج في ثلاث من أهم المؤسسات الأكاديمية في العالم. وقد ذاعت شهرته حين طرح مقولة القوى الناعمة.وبفضل اهتمامه بالكتابة في مجال العلوم السياسية، جاء تصنيفه ضمن الأكاديميين الأميركيين بوصفه المفكر الأكثر تأثيراً على السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

الشيخوخة تلقي بظلالها على الصين

هنا أيضاً نلاحظ كيف يلجأ مؤلفنا إلى أسلوب التحوّط أو الاستدراك حين يمضي موضّحاً أن الهند بكل قوتها الناعمة الحافلة بحق تستطيع أن تشكل تحدياً لأميركا، ولكن إذا ما اتحدت الهند مع جارتها الصين كي تشكلاً تحالفاً آسيوياً في مواجهة أميركا ونفوذها وإمكاناتها.

بيد أن البروفيسور جوزيف ناي يسارع إلى الاعتراف بأن مثل هذا التحالف أمر مستبعد في الوقت الحالي. لماذا؟ لأن الهنود في رأيه مهيؤون للتقارب مع واشنطن في حين تراودهم شكوك كثيرة تجاه بكين.

هنا أيضا نستعيد قراءتنا لكتاب فريد زكريا الذي ألمحنا إليه في مستهل هذا العرض، فالكاتب المذكور يرى أن عالم ما بعد أميركا الذي يتصوره جدير بأن تواجه فيه أميركا قطبين من آسيا: أولهما يشغل موقع الحليف بالنسبة لأميركا واسمه الهند، وثانيهما يحتل موقع الغريم واسمه الصين.

ثم تشاء المصادفات- الفكرية بالطبع- أن يتفق مؤلفنا مع فريد زكريا وبعد مرور تلك السنوات على اجتهاد الأخير، حيث يمضي ناي موضحا أن الصين هي أرجح منافس لأميركا على مكانة الدولة- القوة العظمى (سوبر باور). وفي هذا المضمار يعمد البروفيسور ناي إلى تطبيق منظوره الشهير من حيث القوى الخشنة التي تمتع بها الصين باعتبارها تملك في رأي مؤلفنا- أكبر جيش في العالم، كما أن اقتصادها في طريقه إلى أن يصبح اقوى، إن لم يصبح من أقوى الاقتصادات في العالم أيضا.

إذن، فما الذي يحول بين الصين وبين تحدي أميركا ومنافستها؟

يجيب مؤلفنا بأن على الصين أن تلبث في حالة انتظار لمدة عقود عديدة من الزمن، أي أن تصبح مضاهية لأميركا في مجال امتلاك وتطوير التكنولوجيا السوبر- متقدمة، وربما لن يتسنى لها التوصل إلى هذه المكانة في المستقبل المنظور، على نحو ما يسجله مؤلفنا أيضا في فصول هذا الكتاب.

وفي هذا السياق كذلك، لا يتردد المؤلف في تناول الشأن الصيني من منظور مستقبلي موضحاً أن الصين في عام 2030 سيكون لديها من السكان عدد من كبار السن، المعتمدين بالتالي على غيرهم، وبحيث يفوق هذا العدد من المسنّين ما يمكن أن تضمه الصين من أجيال الشباب والأطفال (وربما كان في هذه التوقعات ما دفع النظام الحاكم في الصين إلى اتخاذ قراره أخيراً بالتخلي عن سياسة الطفل الواحد للأسرة الواحدة متوخياً في ذلك زيادة حجم الأجيال المقبلة التي يحتاج إليها وطنهم في مستقبل الأيام).

هل تستمر مكانة أميركا العولمية ؟

يهرع المؤلف إلى توضيح أن الأمر لا يدعو إلى اليأس من استمرار مكانة أميركا العولمية. ولذلك نجد أن الصفحات الأخيرة من الكتاب تحفل بأكثر من شعاع للأمل في هذا المجال، حيث يؤكد المؤلف أن أميركا لا تزال في رأيه- قطباً جاذباً للمواهب الأجنبية، وأن الإحصاءات أوضحت أن نسبة 82 في المئة من مواطنيها أفادوا بأنها تعد أفضل مكان للعيش فيه على مستوى العالم، ثم إن نسبة الذين اهتموا بالمشاركة في التصويت خلال الانتخابات الأميركية المحلية والقومية ما برحت في ازدياد منذ عام 2000 للميلاد.

تأليف: جوزيف ناي

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة بوليتي، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 152 صفحة

Email