ظِلّ كيسنغــر

كيسنغر يواصل حضوره في السياسة الأميركية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

برغم بلوغه سن الثالثة والتسعين، فلا يزال هنري كيسنغر يملأ الدنيا ويشغل الناس، يستوي في ذلك كبار الساسة وصانعي القرار، بقدر ما يستوي أيضاً صفوة الباحثين والمحللين السياسيين، ومنهم الدكتور جريج غراندن مؤلف هذا الكتاب، الذي حرص على أن يوضح كيف أن كيسنغر لا يزال يلقي بظلاله، بمعنى تأثيره وبعض من تصوراته وأفكاره، على مجريات شتى في مضمار السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

ويتوقف الكتاب ملياً عند ما وصفه محللو ظاهرة وظلال كيسنغر، بأنه نهج الواقعية السياسية (ريال بوليتيك)، وقد استقاه كيسنغر منذ فترات الطَلَب الأكاديمي في جامعة هارفارد من تاريخ السياسي النمساوي الداهية مترنيخ، وهو نهج يتعامل مع معطيات الواقع كما هي وقد أضاف إليه كيسنغر ما يدفع إلى عدم التوقف كثيراً عند ما قد ينجم عن هذا السلوك من دمار للبلدان، في العالم الثالث بالذات، أو من معاناة فادحة تكابدها الشعوب، وهو عين ما حدث بسبب كيسنغر، إذ كان صانع السياسة الخارجية في حقبتي الرئيس نيكسون ثم الرئيس فورد، سواء في أميركا اللاتينية أو في جنوب شرقي آسيا .

والمشكلة، كما يوضح الكتاب، تتمثل في أن أفكار وتصورات كيسنغر لا تزال ماثلة في مضمار السياسة الخارجية الأميركية.

على مدار القرن العشرين، ظلت آلة الدعاية في أميركا مشغولة بصياغة الشعارات التي لا تلبث أن تروج وتنتشر عبر أجواز الكرة الأرضية، عندما تتردد أصداؤها عبر وسائل النشر وأدوات الإعلام، وفي عشرينيات ذلك القرن، ردد الناس شعاراً ابتدعه الرئيس الأميركي ويلسون، وهو »عصبة الأمم«. وفي الثلاثينيات، رددوا شعار الصفقة الجديدة (نيو ديل)، دليل على الإصلاحات التي استخدمها رئيس آخر، اسمه فرانكلين روزفلت، لمواجهة أزمة الكساد الفادح الذي أصاب اقتصاد الولايات المتحدة.

وفي الأربعينيات، كان الشعار الأمثل هو »منظمة الأمم المتحدة«. أما في الخمسينيات، فقد جاء رواج السياسة التي نادي بها سفيرهم المخضرم كينان لمواجهة الخصم السوفييتي أيام الحرب الباردة، وهي سياسة الاحتواء.

وفي مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدأ العالم يستمع لشعار جديد، لخصته عبارة راجت واتسعت شهرتها، وهي: »دبلوماسية المكوك«. وتوازت معها عبارة أخرى، هي دبلوماسية تنس الطاولة.

ومع انتصاف العقد السبعيني، أصبحت العبارتان هما عنوان المرحلة بالنسبة للسياسة والدبلوماسية الأميركية، الأولى تم تطبيقها على شكل رحلات ذهاب وإياب بصورة دؤوبة، وأحياناً بوتيرة يومية، وخاصة بين الطرفين المصري والإسرائيلي، تمهيداً لمعاهدة سلام بين مصر، السادات، وإسرائيل، مناحيم بيغن، أما دبلوماسية التنس، فكانت مقدمات في مجال المنافسة الرياضية، أفضت إلى علاقات مستجدة بين أميركا والتنيّن الصيني، إيذاناً باعتراف واشنطن الذي تأخر سنوات طويلة، بجمهورية الصين الشعبية وقيادتها التاريخية، ممثلة مع انتصاف السبعينيات، بالزعيم ماو تسي تونغ. والحاصل، أن ارتبط شعار المكوك وشعار كرة التنس باسم واحد من نجوم السياسة الخارجية الأميركية، وهو هنري كيسنغر.

يدخل الرجل حالياً في عامه الثالث والتسعين، لم تنحسر عن اسمه أضواء الشهرة، وكان أحدثها لقاءه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال زيارته الأخيرة إلى نيويورك، وجاء اجتماع السيسي- كيسنغر، على هامش انعقاد الدورة السبعين لمنظمة الأمم المتحدة.

حادثة لا تنسى

في الأيام الأولى من شهر أكتوبر الجاري، صدر كتاب في أميركا لا يزال محطّاً لتسليط أضواء الاهتمام من جانب المراقبين والمحللين السياسيين، برغم عنوانه الطويل والغريب أيضاً، والعنوان هو: »ظِلّ (شبح) كيسنغر: آخر حدود السياسي الأكثر إثارة للجدل في أميركا«.

وفي تحليله النقدي لهذا الكتاب، لا ينسى البروفيسور مارك أتوود لورانس، أستاذ التاريخ في جامعة تكساس، أن يستعيد حادثة لا تُنسى، شهدتها قاعات الكونغرس الأميركي في يناير الماضي، يومها، كان الدكتور هنري كيسنغر مدعواً للإدلاء بشهادة سياسية أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، دخل الدبلوماسي التسعيني إلى قاعة اللجنة، التي كانت غاصة بالأعضاء وبأفراد آخرين، فوجئ الحاضرون بارتفاع العقائر بهتافات وشعارات دوت في أرجاء المكان، تقول منادية بأعلى الأصوات: اقبضوا على هنري كيسنغر، طاردوا مجرم الحرب!

وفي غمرة الإثارة التي عمت الأرجاء، فوجئ الحاضرون بشاب يقترب من الدكتور كيسنغر، حين كان يستوي في مقعده، وإذا بالشاب الأميركي يرفع قيداً من حديد، ويلوّح به فوق رأس السياسي العجوز، متهماً إياه بارتكاب جرائم الحرب، ويطالب بمعاقبته عليها.

93 سنة والظلال باقية

ومع الصفحات الاستهلالية من الكتاب، يتضح للقارئ ما يقصده المؤلف من استخدام تعبير »الظل- الشبح« في عنوان الكتاب، البروفيسور غراندن، يرى أن كيسنغر ما زال يترك ظلاله على مواضع شتى من ساحة السياسة الدولية، والأميركية بالذات.

ومن هذا المدخل، ينطلق المؤلف موضحاً أنها، في أغلبها، كانت وما زالت ظلالاً سلبية، بقدر ما كانت كئيبة وضارة بمصالح الأمم ومصائر الشعوب.

في هذا الإطار، تعرض فصول كتابنا لمواقف هنري كيسنغر في أميركا اللاتينية، وفي جنوب شرقي آسيا، فضلاً عن الشرق الأوسط، ما بين أوضاع شيلي، إلى أوضاع كمبوديا، إلى التعامل مع قضية الصراع العربي- الإسرائيلي.

ويذهب مؤلفنا إلى أنه برغم مرور أربعين سنة وأكثر على مغادرة كيسنغر مراكز صنع القرار في مجالات السياسة الدولية للولايات المتحدة، سواء كان ذلك من موقعه مستشاراً رئاسياً للأمن القومي، أو كان وزيراً للخارجية، إلا أن هنري كيسنغر، يضيف المؤلف، ما زال يسيطر على تركة موروثة في كل هذه المجالات.

وهنا، نلاحظ، كقارئين، أن المؤلف يستخدم لغة أقرب إلى الإبداع الأدبي، حين يصف الأدوار أو الظلال المرتبطة بالدكتور كيسنغر على النحو التالي:

محّرك الدمي في مسرح العرائس المسمى بوضع الوفاق الدولي (بين معسكري الشرق والغرب في الحرب الباردة في مطلع السبعينيات).

مخترع وممارس دبلوماسية المكوك (وخاصة بين الطرفين المصري والإسرائيلي في صراعات الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر 1973).

ساحر الدبلوماسية، الذي لا شك في حذقه وبراعته، وربما خبثه في هذا الميدان. السياسي، السوبر ستار، القادر على جذب كل الأضواء وكل الهالات وكل الاهتمامات على اختلاف القضايا والأوضاع التي يتعامل معها، سواء كان ذلك في الصين، عند أقصى الشرق من العالم، أو كان في الشرق الأوسط، الواقع عند محور القلب من الكرة الأرضية.

أسلوب كيسنغر

زاد الأمر سوءاً، تلك الجهود التي ظل كيسنغر يبذلها لإبقاء مخططات أو مؤامرات قصف كمبوديا طي الكتمان على مدار سنوات عديدة. وهنا أيضاً، يمضي المؤلف إلى تأكيد أن خطورة مثل هذه المواقف والتصورات الكيسنغرية، ما لبثت أن ازدادت وتوسعت، حتى بعد تحوّله عن مناصبه التي ألمحنا إليها، وبالتحديد، بعد أن جاء من بعده أفراد أو أجيال من صانعي وممارسي السياسة الخارجية الأميركية، فإذا بهم يعتنقون فلسفته، ويتبعون خطاه، وفي مقدمها، المبدأ الذي يصفه المؤلف بأنه فلسفة الفعل، وبمعنى الانطلاق من أبعاد الواقع، لا بوصفه قيداً على حركة رجل السياسة أو صانع القرار، ولكن باعتباره أمراً يتعامل معه الفرد المسؤول بعيداً عن موانع أو كوابح السلوك، حيث يتخطى حواجز الروتين وسلوك البيروقراطية الوظيفية، وبحيث لا يلقي المسؤول (الأميركي) بالاً إلى المعارضة السياسية في هذا البلد أو ذاك، ولا إلى المفاهيم والضوابط القانونية، ومنها مثلاً، ما يؤكد حرمة السيادة الوطنية.

ريال بوليتيك

في كل حال يكاد المؤلف يصنّف النهج السياسي الذي اختطه هنري كيسنغر، وعمد إلى تنفيذه على مدار عقد السبعينيات الماضي، في الخانة المعروفة بالمصطلح التالي: الواقعية السياسية (ريال بوليتيك).

وفيما يمثل هذا المسار توجهاً إيجابياً في جملته، باعتباره نهجاً ينطلق من معطيات الواقع الموضوعي، ولا يصدر عن طائف الخيالات أو التعلل بالأمنيات، إلا أن المشكلة، كما ينبه المؤلف أيضاً، تجسّدت في أن هذا النهج ما لبث أن تبّناه فصيل المحافظين الجدد، خلال حقبة الرئيس بوش- الابن، مع السنوات الاستهلالية من هذا القرن الجديد، ثم أضافوا إليه المحاور التي عرفت باسم الفوضى الخلّاقة، وقد نبعت، كما أصبح معروفاً، من فكرة »من ليس معنا فهو بالضرورة ضدنا«، فجاءت تطبيقاتها على حساب مصالح وأرواح ومستقبل الملايين من شعوب العالم الثالث على وجه الخصوص.

ثم يلاحظ قارئو ومحللو هذا الكتاب، كيف جهد المؤلف في استقراء الأفكار الأساسية التي ظل هنري كيسنغر يصدر عنها، ويعتمدها في نهجه المتَّبع في سياسة أميركا الخارجية، وهي الأفكار التي تبدت في دراساته وإصداراته بعد تخرجه في جامعة هارفارد، وكلها تبلور ما يصفه المحللون السياسيون بأنه النهج الوجودي، وترجمته باختصار تقول بأن عظمة المرء، إنما ترتبط بقدرته على أن يُخضع الواقع لرغباته ومقاصده، وهو ما طبقه كيسنغر، على نحو ما يذهب إليه مؤلف الكتاب، في تعامله مع قضايا الصراع في جنوب شرقي آسيا، ما بين فيتنام إلى كمبوديا،.

ثم يواصل المؤلف إدانته، موضحاً عبر صفحات الكتاب، تفاصيل ما قام به هنري كيسنغر شخصياً من الإشراف على وقائع كوارث هذا القصف.

وكانت النتائج هي أن السنوات الأربع الفاصلة بين عامي 1969 و1973، التي استغرقتها حملة كمبوديا، شهدت، كما يقول الكتاب، مصرع ما يقدر بـ 100 ألف من المدنيين في تلك الأصقاع البائسة من جنوب الشرق الآسيوي.

أفكاره صبغت سياسة واشنطن بالعنف الشديد

مؤلفنا يمضي خطوة أبعد، في تصورنا، حين يواصل توصيف تأثير هنري كيسنغر ودوره، بل وتأثيره في أنماط ومسارات السياسة الخارجية الأميركية، في هذا المضمار، يذكر المؤلف أن ظلال كيسنغر، التي لا تزال ماثلة على نهج السياسة الخارجية لواشنطن، ما برحت تصبغ هذه السياسة بطابع العنف الشديد، مؤكدة في ذلك على أن هذا العنف هو العنصر الحيوي لما يصفه المؤلف بأنه القيادة أو الزعامة الأميركية، ومن ثم للمصداقية التي تتمتع بها أميركا على مستوى العالم والعصر، وهو ما تجلى، يضيف مؤلف الكتاب، في حروب أميركا الخارجية، ابتداء من فيتنام، وليس انتهاء بما شهده كل من أفغانستان والعراق.

و يفرد المؤلف صفحات مسهبة للتدليل على هذا التحليل لتأثيرات هنري كيسنغر خلال شَغْله مواقعه في تشكيل وتوجيه السياسة الخارجية الأميركية .

هنا، يطالع القارئ الأدوار التي لعبها كيسنغر في إنجاح الانقلاب العسكري في شيلي ، ومن ثم التمكين لحكم الديكتاتور الدموي الجنرال أوغسطو بينوشيه.

دور آخر

وفي السياق نفسه، يعرض المؤلف لدور آخر، قام به هنري كيسنغر، متهماً إياه بأنه أفضى إلى اشتعال حرب ضروس وغير مشروعة ضد كمبوديا، دام اندلاعها وتواصلت مآسيها الدموية في ذلك البلد الآسيوي على مدار الفترة 1969 - 1973، ما أفضى، كما يشير الكتاب، إلى شن حملات من القصف المدمر، وأدى إلى تهيئة الظروف التي جاءت بعصابات الخمير الحمر الإرهابية إلى حكم البلاد.

نظرة على تاريخ كيسنغر

يحرص الكتاب على إلقاء نظرة فاحصة، وإن تكن مكثفة، على التاريخ الشخصي للدكتور هنري كيسنغر، موضحاً كيف أنه ينتمي إلى أسرة يهودية مهاجرة من ألمانيا، سعت إلى الفرار من بطش النظام النازي، وانخرط فتاها هنري في سلك التعليم الأميركي، إلى حين تخرجه وحصوله على الدكتوراه من واحدة من أرقى جامعات الولايات المتحدة، فيما لم يكن صدفة مثلاً، أن اختار لموضوع رسالته العلمية، سيرة وأفكار وأعمال السياسي النمساوي كليمنس مترنيخ (1773 - 1859)، الذي اشتهر باتباعه نهج الواقعية، واتباع مبدأ توازن القوى في إدارة المشكلات والأزمات السياسية.

المؤلف

في 13 سبتمبر الماضي، أكمل البروفيسور جريج غراندن عامه الثالث والخمسين. وهو مؤرخ أميركي بارز، ويعمل أستاذاً لعلم التاريخ في جامعة نيويورك، التي ولد ونشأ في أحيائها الشعبية، فيما تعلم وتخرج في واحدة من أهم جامعات الولايات المتحدة، وهي جامعة يال. وقد نال المؤلف عدة جوائز وزمالات علمية لقاء إنجازاته الأكاديمية وإصداراته الفكرية، سواء في أميركا أو كندا.

تأليف: جريج غراندن

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة متروبوليتان، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 270 صفحة

Email