الحرب بين أميركا والصين

خفض بكين قيمة اليوان يوتّر واشنطن

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الكتاب وصفته جريدة »فايننشال تايمز« اللندنية بأنه يستمد قيمته أولاً من عنصر التوقيت الذي صدر فيه، حيث تتجلى حالياً أبعاد علاقات التناقض بين الصين والولايات المتحدة، سواء في ضوء حرب العملات التي اندلعت أخيراً بين اليوان الصيني وبين الدولار الأميركي، أو فيما تنفذه الصين حالياً من مخططات التوسع في مناطق الشرق الأقصى..

حيث وصل الأمر إلى إنشاء الصين جزراً اصطناعية تابعة لها في مياه المحيط الهادي، وهو ما أثار حفيظة كل من أميركا واليابان على السواء. ولعل القيمة المحورية لهذا الكتاب، على حد ما يذهب إليه البروفيسور برندان نسيمز، الأستاذ بجامعة كامبردج، تتمثل في أن الكتاب يفتح نافذة عقلانية ساحرة على مجابهة كامنة (بين الصين وأميركا) وبعد هذه المجابهة لن تعود الأمور (في عالمنا) إلى سابق عهدها بأي حال من الأحوال.

والمهم أن مؤلف الكتاب انطلق من دروس التاريخ الحديث أو القريب نسبياً (أواخر القرن 19 ومطلع القرن العشرين إلى مرحلة اندلاع الحرب العالمية الأولى) ..

لكي يحضّ الساسة والقيادات في كل من واشنطن وبكين وغيرهما من عواصم العالم، على ألا يستسلموا إلى دعاة التصور باستحالة الصراع بين القطبين الصيني والأميركي، ولكن على الجميع أن يتعامل مع هذه الاحتمالات بكل جدية وبما يتطلب العمل الجاد والدؤوب على تحاشي وقوع مثل هذا الصراع.

 أصبح ذائعاً وشائعاً ذلك التعبير الذي يقول بما يلي: حروب الجيل الرابع.. وأحياناً الجيل السابع.. إلخ. وبصرف النظر عن حكاية هذا الترتيب العددي، فإن ثمة حرباً غير معلنة باتت تدور في الفترة الراهنة..

ويمكن أن يصدق عليها الوصف التالي: حرب العملات. وبديهي أن الشرارة التي أشعلت نيران تلك الحرب انطلقت أخيراً من الصين التي عمدت عند منتصف أغسطس الماضي إلى أكثر من إجراء انطوى على تخفيض اليوان - عملة الصين الوطنية، وجاءت هذه الإجراءات مثل زلزال أصاب البورصات وأسواق الأموال ومضاربات العملات الدولية في طول عالمنا وعرضه على السواء.

وسط هذه الأجواء شبه المحمومة، سارع المراقبون السياسيون في الولايات المتحدة، وهي أكبر بلد منافس للصين إلى طرح تحليلات وتوقعات وصلت إلى حد التنبؤ بأن حرباً مقبلة يمكن أن يندلع لهيبها على نحو أو آخر بين أميركا والصين.

هل الصينيون قادمون؟

وسط هذه الدوامات العصبية، كما قد نسميها، بدأ الناس يتهامسون بشعارات ومصطلحات، جاء على رأسها الشعار العتيد إياه: الصينيون.. قادمون، وهو شعار يكاد ينطوي على نذر تهدد بصراعات لا يعلم بها إلا الله.

لكن في غمار الدوامات نفسها ترتفع، ولو في تواضع موضوعي، أصوات أكثر اتزاناً وكأنما تهيب بالمحللين وصانعي القرار في أميركا والغرب بشكل عام كي يخففوا من غلوائهم فيتعاملوا بقدر أكبر من الموضوعية أو يتناولوا أمر الصراع الحالي أو الصدام المحتمل بين الصين وأميركا بعقل بارد بعيداً عن انفعالات اللحظة وحالة التهاب الأعصاب.

هنا نحيل إلى واحد من أحدث الكتب الصادرة خلال الصيف القائظ من العام الجاري. الكتاب يحمل العنوان التالي: »الحرب غير المحتملة«

بمعنى غير المحتملة من حيث النشوب أو الاندلاع.

أما العنوان الفرعي لهذا الكتاب فهو يؤدي إلى إقحام القارئ مباشرة في غمار الموضوع، فالعنوان الفرعي يقول بما يلي: الصين والولايات المتحدة ومنطق الصراع بين القوى العظمى.

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور كريستوفر كوكر أستاذ العلاقات الدولية في واحد من أهم المعاهد العلمية البحثية المرموقة في العالم، وهو مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

احتمالات الصراع

يكاد كتابنا يستهل مقولاته بسؤال جوهري يهّم كل سكان العالم، وفي مقدمتهم بالطبع شعوبنا في الوطن العربي الكبير. السؤال هو: ما هي احتمالات الصراع الذي يكاد يهدد السلام الدولي ويدمر المصالح الدولية إذا ما اندلعت نيرانه بين الصين وأميركا. وبحكم الدور الذي تضطلع به كل من الدولتين الكبيرتين في مضمار السياسة والاقتصاد بشكل عام؟

مؤلف الكتاب يدلف إلى ساحة موضوعه الخطير من باب يستعيد فيه بمنطق التحليل السياسي واستقاء العِبَر مجموعة الدروس المستفادة من مسير التاريخ القريب.

في هذا الخصوص يذهب البروفيسور كوكر إلى أن أميركا استبّد بها طائف من الخيلاء السياسية مع مطلع عقد التسعينات، آخر عقود القرن العشرين. لمـــاذا؟ في عام 1990 سادت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش- الأب حالة من نشوة الفوز، كيف لا وقد شهد الصيف من عام 1989 انهيار سور برلين ..

وكان ذلك إيذاناً، أو فلنقل بشيراً، بانتصار أميركا (والغرب بشكل عام) على المعسكر الشرقي، غريمهم خلال سنوات الحرب الباردة، بقدر ما كان ذلك إيذاناً بانهيار ومن ثم زوال الاتحاد السوفيتي ذاته، بقدر ما كان ذلك أيضاً وعْداً خلّاباً بأن تتبوأ أميركا موقع القطب العولمي الوحيد- المتفرد، وهو ما ظلت واشنطن تنعم به خلال سنوات التسعينات.

دروس الماضي

هنا أيضاً يتحول كتابنا إلى استرجاع دروس الماضي، وخاصة في مطلع القرن العشرين، حين ساد منطق القوى والدول والإمبراطوريات الكبرى في ذلك الزمان. ويطرح المؤلف المقولة التالية: لقد ساد مثل هذا المنطق التطميني كما قد نسميه - مع بدايات القرن العشرين. يومها قال المفكرون والمحللون باستحالة نشوب حرب بين القوى العالمية التي كانت تحكم عالم تلك الحقبة.

قالوا إن أي صراع عسكري دموي يستحيل عقلاً أن يحدث على مستوى الشعوب والإمبراطوريات، ولكن القوى الكبرى ما لبثت أن اندفعت إلى ساحات الصراع بعيداً عن منطق العقل وجادة الرشد، فكان أن اشتعلت الحرب العالمية الأولى ليقع ضحيتها أكثر من 30 مليون نسمة بين قتيل وجريح، وهو رقم جسيم في ضوء حجم سكان العالم منذ مئة عام.

والمعنى كما يوضح المؤلف- أن الذين يتدافعون إلى التورط في الصراعات الدموية لا يكادون يستخدمون منطق العقل أو الرشد أو حسابات التكاليف الباهظة بل المدمرة الماحقة التي تترتب على الحرب من حيث خسائر الأرواح والأموال.

والمؤلف يضيف في هذا المضمار موضحاً ما يلي: إن الطروحات والمقولات الأيديولوجية وشعارات الأهداف الوطنية والقومية لها تأثير بالغ العمق والخطورة سواء على الدول والقيادات أو على الجماهير ولدرجة تتجاوز بكثير حسابات الكلفة العائد بالنسبة لمصالح الوطنية القومية.

هنا أيضاً وكما تلاحظ مجلة (فورين أفيرز) في سياق التنويه الذي نشرته (عدد يونيه 2015) عن هذا الكتاب، فإن المؤلف إذ لا يبادر إلى التنبؤ بحرب صينية أميركية وشيكة الوقوع، ولكنه يطرح بعمق رؤيته التي تقول إن صعود الصين (اقتصادياً ومن ثم سياسياً) من شأنه أن يلحق ضرراً جسيماً بهيكل النظام الدولي الراهن الذي تقوده حتي الآن على الأقل الولايات المتحدة.

صعود ألمانيا بعد 1870

يواصل المؤلف إحالته إلى تخصصه في العلوم السياسية وتطورها حين يحيل القارئ إلى دروس التاريخ الحديث قائلاً: »إن صعود الصين في هذه المرحلة من القرن الحادي والعشرين يأتي في تصوري- أقرب إلى صعود ألمانيا بعد عام 1870 بقيادة مستشارها العتيد والشهير أوتو بسمارك (1815- 1898).

وبقدر ما أدى صعود ألمانيا وقتها إلى ضعضعة النظام الدولي الذي كانت تقوده وقتها إنجلترا، فإن علينا أن لا نستبعد أن يؤدي صعود الصين في مرحلتنا الراهنة إلى تغييرات يعلم الله فحواها ومداها وآثارها، بحيث يلحق بالنظام الدولي الحالي الذي تقوده أميركا في هذه الأيام.

وبديهي يضيف مؤلف الكتاب- أن القوى الصاعدة- سواء كانت في الماضي ألمانية في وسط أوروبا- أو كانت حاضراً ومستقبلاً صينية في شرقي آسيا، يتمثل هدفها باستمرار في إعادة كتابة قواعد النظام الدولي، وهو ما يتوقع المؤلف أن تقوم به الصين الصاعدة، فيما يتوقع بالقدر نفسه أن يلقي هذا الأمر مقاومة من جانب الولايات المتحدة حفاظاً على مصالحها وصوناً لمكانتها على صعيد المنظومة الدولية الراهنة.

انهيار التفاؤل

ترى هل يذهب الكتاب إلى تأكيد حتمية الحرب بين تلك القوى السوبر- كبرى؟

إن سطور الكتاب لا تلبث أن تكرر القول بأن الحرب قد تكون غير محتملة الوقوع، باعتبارها مغامرة غير محسوبة العواقب، وهي تشكل ملحمة جسيمة بل فادحة التكاليف، لكنها ليست مستحيلة الوقوع. وسطور الكتاب- على نحو ما ألمحنا سلفاً- تحتكم إلى دروس التاريخ المعاصر وخاصة عند مشارف الحقبة التي أسلمت إلى اندلاع الحرب العظمى الأولى في عام 1914:

أيامها كان زعماء أوروبا ينعمون بروح التفاؤل، خاصة مع حلول قرن جديد حمل إليهم كما هو معروف نعمة تيار الكهرباء واختراع السيارة ومتعة الاستماع إلى اسطوانات الفونوغراف (الغراموفون).. و.. البقية كانت آتية على جناح هذا التفاؤل. من جهتها كانت ألمانيا- الإمبراطورية وقتها تتصور نفسها في حال من المنعة والقوة العاتية إزاء كل من فرنسا وروسيا، بل كانت تتصور أن بريطانيا سوف تلزم موقف الحياد في حالة نشوب الحرب.

لكن الذي حدث كان على عكس ما توقع المتفائلون ودفعت شعوب العالم ثمن هذا كله، ومنها بالطبع شعوب أمتنا في المشرق العربي على وجه الخصوص. وهذا بالضبط ما ينبه إليه مؤلف هذا الكتاب، محذراً مما يطلق عليه الوصف التالي: الاستسلام إلى عوامل الغرور الفكري.

ثم يبادر البروفيسور كريستوفر كوكر إلى تفسير أو ترجمة هذا الوصف على نحو يقول فيه: إذا ما ظل الزعماء، سواء في بكين أو في واشنطن يتصورون أن الحرب أمر مستحيل، فذلك معناه أنهم سوف يركنون إلى منطق الدعة بحيث لا ينهضون بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم..

وهي التي تفرض عليهم أن يبذلوا جهداً شاقاً من أجل تخطي حالات الافتقار إلى عوامل الثقة المتبادلة بين هذه القوى الكبرى الغربية والآسيوية. وهو ما أرسى روحاً من الخصومة بين الطرفين بحكم صراع المصالح وتضارب القيم والاختلافات الجذرية في نظرة كل منهما إلى العالم الذي نعيش فيه.

عام 1979 شكل نقطة تحول في علاقات واشنطن ببكين

يعمد مؤلف كتابنا إلى التذكير بما احتوته أحداث وتطورات العقد السابق على التسعينات. ويتوقف البروفيسور كوكر عند عام 1979 على وجه الخصوص، وهو العام الذي شهد، كما يوضح المؤلف، اثنين من التحولات الجذرية التي شكلت تحديات بالنسبة لأميركا وللغرب الأوروبي على السواء.

: : .هكذا تكلمت " فايننشال تايمز" 

ألقت صحيفة »فايننشال تايمز« اللندنية الضوء على الأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها كتاب كريستوفر كوكر، مشيرة إلى أنه يقدم إيضاحاً للعديد من النقاط الجديرة بالتحذير في العلاقات بين أميركا والصين.

وذكرت على سبيل المثال أن تقلص الحروب بين القوى الكبرى ليس له تأثير على احتمال نشوب حرب بين واشنطن وبكين، وشددت الصحيفة في الوقت ذاته على أن لاعقلانية الحرب لا تجعل منها بالضرورة شيئاً مستحيل الحدوث.

 المؤلف

 البروفيسور كريستوفر كوكر ( مواليد 29 مارس 1953) يعمل أستاذاً في واحد من أهم المعاهد العلمية - البحثية في العالم، وهو مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، حيث يقوم بتدريس العلاقات الدولية، بمعنى أنه يجمع في اختصاصه ورؤيته بين قضايا السياسة، ولكن من منظور الأوضاع العالمية، ومن خلال تحليل واقع وتطورات العلاقات بين النظم والدول.

 

تأليف:كريستوفر كوكر

- عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة اكسفورد، لندن، 2015

عدد الصفحات: 256 صفحة

Email