تغيير المسار.. سياسة أوباما الخارجية

إصلاح الاقتصاد الأميركي القضية الأولى مهما كانت النجاحات

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الكتاب يعده المحللون السياسيون بمثابة أول عمل علمي يصدر عن ثلاثة من الأكاديميين من خبراء الدراسات السياسية، ويضم تقييماً علمياً للنهج السياسي الذي اتّبعه، وما برح يتّبعه، الرئيس الأميركي باراك أوباما منذ أن تولى منصبه الرفيع مع مطلع عام 2009 وحتى هذه الفترة من ولايته الرئاسية، التي لم يتبق منها سوى عام وبضعة من عام.

وفي هذا السياق عملت فصول الكتاب على رصد ومتابعة المنطلقات الأساسية التي ظل يصدُر عنها أوباما، سواء من حيث الرؤية التي يطل منها على قضايا الشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، أو من حيث المواقف التي ما برح يتخذها الرئيس الأميركي تجاه الأوضاع والمشكلات الدولية، ومنها ما ورثه عن ولاية سلَفه الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وهو ما يتمثل في عقابيل الأزمة المالية الاقتصادية، التي لا يزال الكتاب يطالب أوباما بالتصدي لها بمنطق التقويم والإصلاح.

كما أن منها ما استجّد على المشهد العالمي الراهن وفي مقدمتها بالذات غوائل الإرهاب الدولي المسلّح. من هنا يرى الكتاب أن أوباما يراوح في سلوكه السياسي الخارجي بين شخصية الواقعي وشخصية البراغماتي وشخصية التقدمي، وكأن الكتاب يذهب في معرض تقييم الرئيس الأميركي إلى فكرة اتصافه بالمراوحة بين موقفي الإقدام والإحجام.

يكتسب كتابناهذا أهميته من واقع عوامل عديدة نحاول أن نوجزها فيما يلي:

(1) إنه يدور حول محور السياسة الخارجية لأهم قطب عولمي في واقعنا الحاضر، وهو الولايات المتحدة الأميركية.

(2) إنه يعرض لأحوال هذه السياسة الخارجية، لا من منظور التتبّع التاريخي، ولكن من منظور الواقع المعاش واللحظة الراهنة. ثم إن مجموعة مؤلفي الكتاب يتصدرهم خبير سياسي مازال يجمع بين كونه دبلوماسياً متمرساً وأستاذاً جامعياً، وهو يعبر عن اهتماماته النظرية والتطبيقية بقضايا منطقة الشرق الاوسط بكل ما يكتنفها من مشكلات وتعقيدات. أما زميلاه فهما بدورهما متخصصان في القضايا الدولية ما بين أوضاع الصين وأفغانستان إلى قضايا السلاح والطاقة النووية في العالم.

عنوان الكتاب الرئيسي هو تغيير مسار التاريخ، ثم يتلوه عنوان تفسيري يقول بما يلي، السياسة الخارجية لباراك أوباما

ثلاثي المؤلفين يتصدرهم مارك انديك إلى جانب زميليه كينيث لبرتال ومايكل أوهانلون.

نعم. نستطيع

يستهل كتابنا مقولاته عند عام 2008، العام الذي تسامع فيه الأميركيون، بل وسكان العالم، بنبأ الفوز الذي حققه الشاب الأسمر ذو السحنة الإفريقية والاسم الذي يعكس انتماء إسلامياً في انتخابات الرئاسة الأميركية مع خريف العام المذكور.

وفيما كان الفائز الشاب، واسمه بالطبع باراك حسين أوباما، يلقي خطابه الافتتاحي في يناير من عام 2009، كان مواطنوه، وخاصة الشباب، يتذاكرون فيما بينهم الشعار الأثير الذي ردده المرشح أوباما خلال ملابسات حمْلته. وكانت العبارة- المفتاح في هذا الشعار تقول، نعم، نحن نستطيـــع، هنالك انتعشت الآمال بالنسبة لما كان مقرراً أو كان منتظراً أن يرسمه ويتخذه المرشح الشاب من سياسات في الداخل والخارج على السواء.

وهنا يستهل الثلاثي مؤلفو هذا الكتاب بدايات طروحاتهم بالإشارة إلى ما يصفونه بأنه الوعد العظيم الذي جسّده اختيار أوباما رئيساً لبلادهم، ثم يتوقفون ملياً عند ما يسمونه أيضاً بأنه مقدرة الرئيس الأفرو- أميركي المستجّد في الاستحواذ على اهتمام الملايين بل وشحن خيالهم بآمال مبشرة وعريضة. بعدها يسارع المؤلفون إلى طرح السؤال المحوري التالي، إلى أي حد إذن استطاع باراك أوباما أن ينهض بالواجبات التي ألقيت على عاتقه، خاصة وأنه بحكم المنصب الرفيع كان عليه أن يضطلع بمهام المواقع الثلاثة التالية، القائد الاعلى للجيش دبلوماسي القمة مسؤول الاستراتيجية رقم واحد.

بين اليمين واليسار السياسي

وفي محاولة لاستكشاف إجابات عن هذه التساؤلات، تذهب فصول الكتاب إلى وجود ظاهرة أو حالة من اختلاف الآراء حول أداء أوباما، وعلى النحو التالي، أجنحة اليمين السياسي في أميركا ترى أن أوباما سياسي يتبع أسلوب التبرير الساذج، حيث يصل به هذا المنحى إلى حد الإضرار بالمكانة الاستثنائية التي ظلت ترتبط بأميركا.

لكن من أجنحة اليسار الأميركي ما لا يزال يراهن على الرئيس باراك، وهم بهذا يصفونه بأنه شخصية سياسية شغوفة بالتحولات، فضلا عن كونه في نظرهم يمثل النقيض على طول الخط من سلفه جورج بوش الابن بنزعته الحربية العنيفة.

ثم هناك تيار آخر في ساحة السياسة والرأي العام في أميركا، يرى أن باراك أوباما شخصية ترضى بما هو قائم وما هو موجود أو حتى ما هو وإن كان في رأي هذا التيار الثالث يفتقر إلى العزم الذي يدفعه إلى إنهاء الأوضاع المتطرفة التي خلفتها سياسات جورج بوش على امتداد السنوات الثماني الأولى من القرن الحادي والعشرين، خاصة وأن تلك الأوضاع والسياسات كانت من صنع فصيل المحافظين الجدد الذين أحدقوا برئاسة بوش فيما ظلوا يجمعون بين صفات التعصّب السياسي والرؤية المتعلقة أو المتمحورة حول دور أميركي منفرد ومتفّرد أيضاً في التعامل مع قضايا سائر الأقطار ومصائر الشعوب.

هنا يخلص الكتاب إلى توصيف نراه كقارئين أقرب إلى الموضوعية أو الصواب.

إن الكتاب يرى في باراك أوباما مسؤولا براغماتيا في التعامل مع مسارات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبمعنى أنه لا يصدر بالضرورة عن منطلقات الأيديولوجية ولا القناعات النظرية، بقدر ما يتحرك حسب ضرورات الأحوال التي يمليها الواقع وبمنهج أقرب إلى التجريب والنفعية.

مع ذلك يحاول مؤلفو الكتاب عند هذا المنعطف من البحث أن ينصفوا الرئيس الأميركي، حين يسجلون أن منهجه البراغماتي، بكل أبعاده الواقعية العملية المنفعية لم يكن ليفتقر إلى عنصر التفكير أو التأمل بل والتخطيط. وهم يوضحون في هذا الصدد أنه كان يعمد إلى الوقوف عند خيارات سياسية منطقية في مناسبات شتى وإلى حد ليس بالقليل، وبأسلوب وصفوه بأنه يجمع بين التعمق والمرونة فضلا عن اتباع أسلوب جماعي لفريق العمل.

بيد أن هذا الأسلوب لم يكن متبعاً على طول الخط، حيث لا ننسى أن النزعة العملية البراغماتية تتنافى بحكم التعريف مع عنصر الاتساق أو الاستمرار لأنها خاضعة للتغير حسب تبدل الظروف.

من هنا ينعي الكتاب على سياسة أوباما الخارجية افتقارها إلى ما يصفه المؤلفون بأنه الاتساق التجانس الاستراتيجي.

الاقتصاد هو الأهم

مع هذا كله فالفصول الأخيرة من هذا الكتاب لا تقصّر كما قد يلاحظ القارئ المتمعن- في تذكير أي رئيس مقبل بعد أوباما يعني في عام 2016- بأن الأمر الأهم والقضية رقم واحد إنما تتمثل في العمل كما يوضح المؤلفون- على اتخاذ خطوات لا غنى عنها من أجل أن يقف الاقتصاد الأميركي على قدميه من جديد.

وعن الإخفاقات في ميدان السياسة فالكتاب يشير في هذا المضمار إلى عدم إحراز أي تقدم يُعتّد به في عملية سلام الشرق الأوسط (بين الفلسطينيين وإسرائيل).

ومرة أخرى يعزو الكتاب هذه السلبيات إلى أن البيت الابيض في واشنطن كان يسكنه على مدار السنوات القريبة الماضية رئيس تصرّ فصول الكتاب على وصفه كما يلي، البراغماتي التقدمي، أو الواقعي المتردد.

إيجابية الاتجاه نحو الصين

وبرغم هذه السلبيات، نلاحظ أن المؤلفين يحمدون للرئيس الأميركي اهتمامه بتحويل دفة سياسة بلاده الخارجية نحو القارة الآسيوية. وإذ يحللون غايات هذا التحويل يرون أن رئيسهم، الذي رفع شعاراً في الفترات القريبة الماضية ينادي بالتحول الاستراتيجي نحو آسيا، إنما كان يحاول اتخاذ خطوات لا يقتصر هدفها فقط على تأكيد، أو إعادة تأكيد، الدور المحوري لأميركا بوصفها قوة باسيفيكية مؤثرة (في إشارة إلى إطلالة أميركا- في شطرها الغربي- على سواحل المحيط الهادئ)، ولكنهم يروْن في هذا الاتجاه الأوبامي كما قد نسميه- رغبة في تعزيز علاقات التبادل التجاري بين أميركا وأطراف القارة الآسيوية، ولصالح أميركا بطبيعة الحال، وأيضاً في ضوء ما يراه مخططو السياسة الخارجية في واشنطن من خطوات بدأت في اتخاذها موسكو مؤخراً لإعادة تواصلها مع أصدقائها- رفاقها السابقين في الصين وفيتنام على سبيل المثال، فضلا عن استعدادات الصين من جانبها إلى مزيد من الانفتاح على معظم أقطار العالم، وهو انفتاح لا يتوسل بأساليب الدعاية السياسية ولا حتى التعبئة الثقافية ولكنه يتجسد في علاقات مستجدة ترغب قيادة بكين في إنشائها وتوطيدها مع تلك أقطار الشرق والغرب وعلى مهاد من التعاون في مشاريع الإنتاج الصناعي السلعي ومخططات التنمية وصروح البني والهياكل الأساسية العملاقة في بعض الأحيان.

في هذا السياق يرصد مؤلفو كتابنا محاولات أوباما الدؤوبة التي مازال يصدر فيها عن رؤيته بشأن عالم متعدد الأقطاب وبمعنى التماس شراكة مع القوى البازغة الناهضة في عالم اليوم وهي رؤية تنطلق بداهة من منظوره الواقعي، البراغماتي، العملي والنفعي على نحو ما يعاود المؤلفون التأكيد عليه في أكثر من موضع من هذا الكتاب.

وفي إطار هذه الرؤية يفسر الكتاب جهود التقرب، إلى حد المغازلة أحياناً، مع أهم قطبين من محاور القارة الآسيوية، وهما الصين والهند، وكأنما استوعب الرئيس الأميركي ما سبق إلى طرحه الكاتب الأميركي من أصل هندي فريد زكريا، حين رصد صوراً تحيل إلى عالم ما بعد أميركا في كتابه الصادر منذ عدة سنوات تحت العنوان السابق، وانتهى فيه إلى هذا العالم الذي من المقرر أن يشهد أطرافاً أخرى تشارك أميركا موقعها الانفرادي كقطب وحيد أو مهيمن على مقادير العالم. وذكر فريد زكريا بالتحديد طرفين مهمين، هما الهند التي اختار لها موقع الصديق ثم الصين التي اختار لها موقع المنافس أو الغريم.

وانطلاقاً من استيعاب أوباما لمثل هذه الأفكار يذهب كتابنا بدوره إلى أن الرئيس الأميركي يرى أن الأمر يستوجب قيام شراكة على نحو أو آخر مع تلك القوى الآسيوية المعتبرة من أجل إدارة المشتركات الكوكبية، كما يسميها الكتاب، ويقصد بها المؤلفون القضايا العولمية المشتركة بكل ما تنطوي عليه من عوامل السلب أو الإيجاب، ثم يلخص كتابنا هذه التحديات المشتركة في قضايا البيئة، وبالذات تغيّر المناخ ثم قضايا التجارة والتنمية وهي أمور تهم كلا من الهند والصين على حد سواء.

 

رئيس أميركي »مخلط«

ومن هنا أيضاً فقد كان من حق محللي كتابنا وناقديه أن يتوقفوا ملياً عند وصف المؤلفين لباراك أوباما بأنه كان رئيساً مخلّطاً، لا بحكم اختلاط دمائه الافريقية والأميركي، ولكن بحكم سياساته التي ظلت تجمع كما يؤكد الكتاب- بين التردد والانطلاق، وبين التأمل والاندفاع، وبين التمدد إلى حيث الدور الكوكبي ثم التقوقع إلى حيث الانغلاق الداخلي.

وفي هذا السياق تقول سطور الكتاب، طالما أظهرت سياسة أوباما الخارجية دلائل تشير إلى تركيبة تجمع ما بين نهج براغماتي واقعي في نظرة التعامل مع العالم تسليماً بأوضاعه القائمة، وبين نهج مثالي وتقدمي يتطلع إلى النظام العالمي الجديد، الذي يسعى أوباما إلى تشكيله وصياغة دعائمه. وكانت النتيجة تضيف صفحات كتابنا- أن السنوات الثلاث الأولي من وجود أوباما في البيت الابيض تجلت على مدارها الرؤية الاصلية للرئيس الأميركي الشاب في تحويل دفة التاريخ نحو إقرار السلام والعدل والاستقرار، ولكن الرجل ما لبث أن فتح عينيه لكي يتصالح بعدها مع واقع العالم كما هو، كان واقعاً معقداً بل ومستعصياً على الفهم والإحاطة في بعض الأحيان.

وفي ضوء هذه التصورات يخلص مؤلفو كتابنا إلى حُكْم يصوغونه ببلاغة لا تخفى، حيث يقولون بما يلي، لقد أثبت أوباما أنه تقدمي عندما يكون ذلك ممكناً وأنه براغماتي عندما يكون ذلك لازماً.

ثم تمضي فصول وصفحات الكتاب لكي تحاول تطبيق هذه الأحكام على المراحل التي اجتازتها السياسة الخارجية الأميركية خلال حقبة أوباما وعلى القضايا والساحات التي حاولت فيها السياسة الأميركية تطبيق تلك الأحكام.

لقد جاءت هذه التطبيقات، التي تراوحت بين التقدمية والنفعية، أو فلنقل بين الإقدام والإحجام، لتصدق مثلا على علاقات أميركا مع الصين، كما تنطبق على أوضاع ومواقف أميركا إزاء الحرب في ساحتي أفغانستان والعراق، ومواقفها تجاه ما يوصف بأنه عملية السلام العربية الإسرائيلية، وبالنسبة لتوسيع الجهود المبذولة على الصعيد الدولي من أجل محاربة آفة الإرهاب، وأخيراً مواقف إدارة أوباما إزاء ظاهرة الانتفاضات التي شهدتها أقطار عربية وحملت أحياناً وصف الربيع العربي.

 

تطورات الأحداث

مشكلة أوباما كما تخلِص مقولات هذا الكتاب- هي أن السياسة الخارجية انطلقت منذ بداياتها من مقولة أي شيء بخلاف جورج بوش. ورغم أن منطق المخالفة كان مقبولا في السنوات الأولى من حقبة الرئيس الأفرو- أميركي، إلا أن تطورات الأحداث في العالم جاءت بمستجدات غير مسبوقة بكل المعاني، وفي مقدمتها بداهة تيارات الإرهاب في الشرق الاوسط بالذات، وهو ما لا يصلح في التعامل معه مجرد الاختلاف مع إدارة، أو إدارات سبقت، بقدر ما يحتاج بالضرورة إلى نهج يجمع بين حسّ المسؤولية واستراتيجية الابتكار في التعامل مع وباء بالغ الخطورة على العالم كله وعلى مستقبل الحضارة الإنسانية بأسرها.

 

المؤلف في سطور

ثلاثة شاركوا في تأليف هذا الكتاب. والثلاثة يجمعون بين عمق المساهمات البحثية وبين اتساع التجارب المباشرة. وفيما اتسعت شهرة المؤلف الثالث البروفيسور مايكل أوهانلون بوصفه واحداً من المحللين الثقات لسياسات الأمن القومي على مستوى أميركا والعالم، فإن المؤلف الثاني، وهو كينيث ليبرتال،يُعد من أهم الخبراء بالصين .

أما أول هذا الثالوث من مؤلفي الكتاب، وهو مارتن أنديك، فلعله الأشهر بين الثلاثة. وقد تخرج في جامعة سيدني بأستراليا . وبعد أن هاجر إلى الولايات المتحدة، واهتم بأوضاع منطقة الشرق الأوسط، أتيح له سبل العمل في مواقع رفيعة منها العمل مساعداً للرئيس الأسبق بيل كلينتون.

عدد الصفحات: 342 صفحة

تأليف: مارتن أنديك وزميلاه

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر، مؤسسة بروكنغز، نيويورك،2015

Email