هل تنوي الصين شراء العالم؟

أشواط طويلة أمام بكين لكسب سباق الرقم واحد

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء صدور هذا الكتاب ليبدد الكثير من التوقعات الأقرب موضوعياً إلى الوساوس أو الهواجس، التي كانت تراود كوكبة المحللين السياسيين، خصوصاً المهتمين بالشأن الصيني، ومفادها أن الصين توشك أن تشتري العالم، بمعنى أن تصبح القوة الاقتصادية رقم واحد، أو تصبح العنصر المهيمن على مقاليد الأنشطة الاستثمارية والإنتاجية في العالم، حيث تسبق بذلك مجموعة الدول السبع، التي تضم الدول الصناعية المتقدمة في غرب أوروبا و الولايات المتحدة الأميركية.

من هنا فقد عمد مؤلف الكتاب إلى استثمار خلفيته الأكاديمية وخبراته الميدانية بالصين، لكي يوضح أنه ما زال أمام الصين أشواط عديدة وطويلة كي تقطعها إلى حيث التكافؤ في سباق الهيمنة على مقاليد الاقتصاد العالمي، وذلك برغم ما حققته موضوعياً من أشواط وإنجازات على هذا الطريق، حيث أصبحت من أكبر، إن لم تكن أكبر، حائز للعملات الدولية الصعبة، فضلاً عن وصول منتوجاتها- الاستهلاكية بالذات إلى شتى أماكن العالم.

ثمة مقولات ما برحت رائجة على الصعيد الدولي، وتفيد بأن الصين تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم (بعد الولايات المتحدة الأميركية مباشرة). وهو ترتيب يبدو مؤقتاً أو مرحلياً، حيث إن هناك من المحللين من يتوقع قفزة صينية إلى الموقع رقم واحد، في غضون سنوات قليلة. أما المقولة الثابتة الأخرى فتفيد بدورها بما يلي: إن الصين تعد حالياً أكبر طرف مُصدِّر في الاقتصاد العولمي.

المقولة نفسها تشير أيضاً إلى التالي: إن الصين باتت تمتلك أكبر احتياطيات من النقد الأجنبي، وأن لديها 29 شركة ومؤسسة إنتاجية أصبحت تندرج- بكل فخر- ضمن قائمة أكبر وأهم 500 شركة في العالم.

وعلى عادة أهل الإعلام، وهم مبالغون بحكم التعريف وبمقتضي المهنة أيضاً، فقد أصبح منتشراً القول بأن العملاق الأصفر، على نحو ما وصفه بونابرت منذ أكثر من 200 سنة من عمر الزمان الحديث، قد استيقظ، ومن ثم بدأ الحراك بشكل دينامي مقتحماً في ذلك عوالم الصناعة والنمو والانتاج، بحيث بات السؤال الجائر مطروحاً على نحو يقول ببساطة: هل تخطط الصين لشراء العالم؟

هذا السؤال اختاره المفكر الباحث بيتر نولان عنواناً لكتابه، الذي نعايشه في هذه السطور. مؤلف هذا الكتاب ليس مجرد محلل أو معلق على الشأن الصيني وعلى تطورات الأمور على صعيد البلد الآسيوي الكبير.

والبروفيسور نولان أستاذ اختصاصي في الشؤون الصينية في جامعة كامبردج البريطانية، وهو ما يُطمئن قارئ هذا الكتاب إلى أن الرجل قادر - بحكم الخبرة البحثية والخلفية الأكاديمية - على أن يشقّ بسفينة الكتاب بحار الدرس الموضوعي بعيداً عن المبالغات الاعلامية وبمنأى عن الغلو في التصريحات أو التحذيرات التي لا تفتأ تصدر عن أوساط أميركية بالذات، وباعتبار أن المقارنات في حالة الصين إنما يتم عقدها مع أميركا التي ما برحت تخشي على مكانتها بوصفها - خصوصاً بعد انقضاء الحرب الباردة في مطلع تسعينات القرن المنصرم- القوة العولمية الوحيدة من حيث المنعة السياسية والقدرة الاقتصادية على السواء.

ظاهرة صعود الصين

تبدأ مقولات هذا الكتاب من منطلق يحمل العنوان التالي: صعود الصين كظاهرة سياسية - اقتصادية لا سبيل إلى تجاهلها أو إنكارها.

وفي ضوء هذه الظاهرة ترصد الفصول الأولى من كتابنا ظاهرة موازية أيضاً، وتتمثل في من يصفهم المؤلف بأنهم أولئك الذين يعيّنون أنفسهم بأنفسهم في مناصب المراقبين والمحللين والمتابعين للشؤون الصينية، ومن ثم فهم لا يزالون يتابعون كل خطوة، وكل حركة تأتي من جانب الزعامات الحاكمة في عاصمتها بكين، ابتداء برئيسها شي جينبنغ وليس انتهاء بكبير وزرائها لي كبيانغ، حيث ما زالت أخبارها تتصدر صفحات الجرائد ومقدمات النشرات الاخبارية التي يتم بثها عبر موجات الاذاعة والتلفزيون.

وفي غمار هذه الطروحات نجمت مقولة يصفها الكتاب بالبساطة، ومؤداها أن الغرب مطالب بأن يضمن لنفسه إمكانات الاستمرار في حالة صعود الصين إلى مكانتها الاقتصادية المتوقعة، التي تمثل خطراً على مكانة أميركا والغرب بشكل عام. ومن ثم فهذا الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) مُطَالب بأن يتخذ استعدادات حازمة، ويصطنع ردود فعل بالغة القوة، لكي يحول بين الصين وبين أن تستولي على مقاليد أمور الاقتصاد في عالم القرن الحادي والعشرين.

خطر على الأمن القومي

في هذا الإطار أيضاً، لم يكّذب دهاقنة واشنطن - كما يقول المَثَل- خبراً: بادروا من جانبهم إلى ترسانة مصطلحاتهم الاثيرة، فبدأوا يتحدثون- كما يوضح مؤلفنا- عن الصين بوصفها خطراً يهدد الأمن القومي، أو الصين باعتبارها منافساً استراتيجياً ومن شأنه، في تصورهم، أن يغّير من معادلات التوازن من ناحية القوة العسكرية. أما في أوروبا فقد كان القوم معنيين أكثر بعالَم الاقتصاد: ظل صناع السياسة في دول الاتحاد الاوروبي يعربون عن شواغل عميقة تساورهم إزاء ما تنتجه المؤسسات المملوكة للدولة في الصين، وإزاء الصادرات الصينية التي يتردد أنها مدعومة من جانب حكومتها في بكين، يستوي في ذلك ألواح توليد الطاقة الشمسية بقدر ما يستوي أيضاً مواسير الصلب، ناهيك عن المنتوجات الصينية التي تجمع - كما أصبح معروفاً- بين غزارة الكمّ ورخص الاسعار، وهو ما أدى إلى إغراق الاسواق العولمية بها، وما أفضى في الوقت نفسه - كما يؤكد هذا الكتاب - سواء إلى انتشار الكساد في الاسواق الاوروبية المنافِسة بقدر ما أدي كذلك إلى تفاقم ظاهرة- آفة البطالة على صعيد الكتلة الاوروبية بأسرها.

ثم تمضي فصول الكتاب لكي توضّح كيف استطاعت صين السنوات الاخيرة من القرن العشرين، ومن ثم صين مطلع القرن الحالي، أن تفوق اليابان، بكل قدراتها بل وسمعتها في مضمار الصناعة والانتاج، وبحيث أصبحت المنتوجات الصينية، الصناعة الاستهلاكية بالذات، موجودة في كل ركن قصي، وفي كل بقعة نائية على خريطة العالم الذي نعيش فيه.

إجابة السؤال بالنفي

ثم تتواصل المقولات، أو بصورة أدق المراهنات، في بورصة التحليلات والتوقعات إذا ما قُيّض لهذه المؤسسات أو الشركات الصينية العملاقة أن تتوسع وتمد أجنحتها على أصقاع الشرق وأرجاء الغرب. وبحكم ما أصبحت تملكه دولة العملاق الأصفر إياه من احتياطيات طائلة ومضمونه بالنقد الاجنبي، فلا بد من أن يصدر التحذير الذي بات يتصدّر مجامع السياسة والفكر والتخطيط الاستراتيجي في أكثر من مكان من العالم، والتحذير هو أن الصين تعمل على حشد واستخدام مواردها المالية لكي تشتري.. العالم. هنا كان لا بد وأن يتدخل مؤلف كتابنا، البروفيسور بيتر نولان، بوصفه واحداً من العلماء والخبراء في الشؤون الصينية بالدرجة الأولى.

ثم إنه يتدخل، على نحو ما لاحظ محللو هذا الكتاب وقت صدوره في أميركا، لكي يطرح إجابات عن سؤال شراء العالم. وهي إجابات وصفها المحللون على النحو التالي: إنها موضوعية، ومتوازنة، وعاقلة، وبمعنى ألا تجرفها الانفعالات ولا تستبد بها مبالغات البروباغاندا. في هذا المضمار يقول المؤلف في أكثر من موضع من فصول الكتاب: إن إجابة سؤال الصين تشتري العالم هي بالنفي. فالصين لم تُقدم طبعاً على شراء العالم، كما أن التحليل الموضوعي لأمورها لا يكاد تظهر معه أي علامات تدل على أنها قد تُقدم على هذا الشراء في المستقبل القريب.

العكس هو الصحيح

الصين أصبحت حالياً منفتحة أمام الترحيب بالمستثمرين الأجانب، بل إن مصانع الصين - بكل ضخامة إنتاجها - في تصوّر مؤلف الكتاب أيضاً، ما زالت بعيدة عن أن ترقى إلى مستويات التقدم التي بلغتها في مواقع سوبر - متقدمة من خريطة عالمنا.

وبرغم أن الصين، وهذا أمر طبيعي في كل دولة، لا تلبث أن تحيط مؤسساتها وشركاتها المملوكة للدولة (القطاع العام) بأضواء الرعاية والتشجيع إلى حد التهليل في بعض الاحيان، إلا أن هذه المؤسسات لا يزال أمامها أشواط صعبة وطويلة كي تصمد ومن ثم ترتقي في ساحة المنافسة مع سائر المنتجين، خصوصاً في مضمار التكنولوجيا السوبر- متقدمة وفي مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على وجه الخصوص، حيث قطع الغرب- أميركا بالذات- مسافات شبه مذهلة على نحو ما بات يشهده وادي السليكون في كاليفورنيا، وحيث لا تزال الانجازات السوبر- رفيعة تتوالى في هذه المجالات ابتداء من منتوجات البرمجيات الحاسوبية (السوفت وير) وليس انتهاء بفتوحات النانو تكنولوجي وما في حكمها.

مع الدول النامية

على أن المؤلف لا يفوته - شأن أي باحث متعمق - أن يتوقف ملّياً عند منحى أصبحت الصين تعطيه حالياً قدراً كبيراً من الاهتمام: البروفيسور نولان يخصص الفصل الثالث من كتابنا للحديث عن اهتمام الصين بتوطيد وترسيخ علاقاتها مع الدول النامية أولاً باعتبار أن الدول المذكورة تضم ما يمكن وصفه بأنه الاسواق البكر المفتوحة بغير منافسة داخلية يُعتّد بها من جانب عناصر التصنيع الوطنية - الداخلية، وثانياً لأن الصين ما زالت حريصة - فيما يبدو - على تأكيد دورها المحوري على صعيد أقطار وسياسات العالم الثالث، على نحو ما يجسّده التجمع الدولي لتلك الدول، وهو التجمع الناطق باسمها على طول الخط في دوائر واجتماعات المنظومة الدولية للأمم المتحدة، وقد حمل هذا التجمع على مدار سنوات طويلة ترجع حتى إلى عقد الستينات من القرن الماضي- الاسم التالي: »مجموعة السبع والصين«

وبفضل هذه الوشائج ما زال بإمكان الصين أن تَنْفذ إلى دواخل القارة الإفريقية، وأن تقيم علاقات مثمرة حقاً مع العديد من أقطارها في إطار ما حرصت عليه بكين من الاخذ بسياسة المشاريع المشتركة، ومن طمأنة الشركاء الأفارقة إلى بديهية أحسنت بكين استثمارها، وهي أن الشريك الصيني جاء إلى أراضي ومناجم وأسواق القارة السمراء دون أن يجّر وراءه تركة كولونيالية تنتمي إلى عصور القهر الامبريالي والاستغلال الاستعماري. على كل حال، فلا يزال السباق محتدماً - كما يخلص إلى ذلك مؤلف هذا الكتاب - بين متنافسين:

صين- ما بعد ماو تسي تونغ وهي صين الانفتاح على الخارج التي فتح أبوابها دنغ هيساو بنغ الذي بني سياساته الانفتاحية والتواصلية على أنقاض عزلة الثورة الثقافية التي سبق إلى فرضها على بلاده الزعيم ماو.

 

المضي في مسار تصاعدي

يلفت المؤلف أنظارنا كقارئين إلى نقطة محورية آخر ضمن المسار التصاعدي للأشواط الإيجابية التي ما برحت تقطعها الصين من نقطة إلى أخرى على طريق التقدم والتوسع في الإنتاج الصناعي بالذات.

ولهذا توضح فصول كتابنا، وعلى عكس الشائع والرائج أو المتصَّور، أن الصين إنما تؤثر على العالم بقدر ما يؤثر هذا العالم على الصين. وهنا يطرح المؤلف اثنتين من الحقائق الأساسية:

الحقيقة الأولى: أن الصين تضم حالياً عدداً من الشركات الدولية المتعددة الجنسيات التي تمارس أنشطتها الإنتاجية - الاقتصادية في السوق الصينية، ولدرجة أن أعمالها باتت تشكل - كما يؤكد هذا الكتاب - نحو الثلثين من مجمل الناتج الصيني في مجال التكنولوجيا الرفيعة، فيما تشكل أكثر من نســـبة 90 في المائة من صادرات الصين من نواتج هذه التكنولوجيا المتقدمة.

الحقيقة الثانية: أن الشركات العالمية ما زالت تمارس أنشطتها في أعماق منظومة الأعمال الصينية ذاتها، وأنها ما برحت تضغط على سلطات بكين- الإدارة والحزب الحاكم لكي توّسع هذه الاحتكارات الاجنبية العملاقة أنشطتها فيما يعود بالنفع على الطرفين.

ثم هناك حقيقة إضافية يشير إليها مؤلف كتابنا ومؤداها أن العكس ليس هو الصحيح: وبمعنى أنه لا توجد شركات صينية عملاقة استطاعت أن تنفَذ بوجودها وأنشطتها في صميم أقطار الغرب، لا في أوروبا ولا في الولايات المتحدة، وهذه الحقيقة هي التي دفعت المؤلف إلى أن يضيف في هذا الصدد قائلا: إننا (الغرب) نَفْذنا إلى داخلهم، ولكنهم (الصين) لم ينفُذوا إلى داخلنا.

ثم أن الصناعات والأنشطة الكبرى في اقتصاد الصين ما زالت تتبع أساليب التكنولوجيا المتقدمة وما برحت تستخدم نواتج هذا النمط الرفيع من التكنولوجيا، وهي تستخدمها ولا تنتجها، يستوي في ذلك أنشطة وصناعات مثل أعمال البنوك والصناعات المعدنية وصناعات الاستخراج والتعدين والنفط وتوليد الطاقة والبناء والتشييد والنقل فضلاً عن صناعات وأنشطة الاتصالات السلكية واللاسلكية.

 

منافسة محتدمة

المنافسة المحتدمة في الصين تدور رحاها أولاً على تحصيل واقتناء أكبر كميات أو مبالغ - يصفها المؤلف بأنها فلكية - من العملات الصعبة القابلة للاستخدام والتداول والرواج على صعيد الأسواق العالمية، فيما يزداد احتدامها ثانياً في ضوء رغبة كل من الأطراف المتنافسة في رعاية واستخدام أكثر المواهب ذات المستوى العالمي نبوغاً، ثم في إدارة المشروعات التجارية والأعمال (البيزنس) أو في مجالات تنمية الإنتاج، ناهيك عن مجالات البحث والتطوير (آر آند دي) كما أصبحت تسمى في المجامع العلمية.

 

المؤلف في سطور

البروفيسور بيتر هيو نولان هو أستاذ علم الإدارة الصينية في جامعة كامبردج بالمملكة المتحدة. ويتولى أيضاً منصب مدير برنامج تلك الجامعة المرموقة المعني بدوائر المال والاعمال في الصين. حصل المؤلف على درجة البكالوريوس من جامعة كامبردج، ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه من مدرسة الدراسات الإفريقية والشرقية في لندن وهي أرفع المؤسسات العلمية - التعليمية في هذا المجال على مستوى العالم، فيما منحته جامعة كوبنهاغن- الدانمرك درجة الدكتوراه الفخرية تكريماً لبحوثه في مجال الدراسات المتعلقة بالصين ومستقبلها. وقد اتسعت شهرته العلمية في الآونة الأخيرة، خصوصاً بالنسبة إلى منطقة الشرق الأقصى.

عدد الصفحات: 120 صفحة

تأليف: بيتر نولان

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة بوليتي، نيويورك، 2015

Email