الإخوان المسلمون والصعود إلى الهاوية (7)

مؤامرة ثلاثية لتنصيب بديل للمرشد عاكف

ت + ت - الحجم الطبيعي

يرصد النائب الأول لمرشد الإخوان الأسبق الدكتور محمد حبيب في هذه الحلقة من مذكراته، ما يصفه بأنه خيوط المؤامرة التي قادها ضده محمود عزت، الأمين العام لجماعة الإخوان في ذلك الوقت، ومحمد مرسي أمين القسم السياسي، ومحيي حامد عضو المكتب.

حبيب اكتشف أثناء وجوده في مكتب الإرشاد في أغسطس 2009، أن قادة المكتب يرتبون لانتخاب مرشد جديد خلفاً لمهدي عاكف، من خلف ظهر النائب الأول، وهو ما اعتبره خيانة تقطع الطريق عليه حتى لا يتم تصعيده مرشداً عاماً للجماعة.

وهو يلقي الضوء بصورة مفصلة على أبعاد هذه المؤامرة، مشيراً إلى أنه بادر إلى كتابة استقالته من كل مناصبه في الجماعة، وأنه من الصعب على الإنسان اكتشاف خيانة أقرب الناس إليه.

قبل إجراء انتخابات مكتب الإرشاد واختيار المرشد الجديد بأربعة أشهر، وضعت يدي على مؤامرة شارك في نسج خيوطها أساساً ثلاثة من أعضاء مكتب الإرشاد، هم د. محمود عزت، د. محمد مرسي، ود. محيي حامد، وذلك لاختيار مرشح لمنصب المرشد، شخصية يرضون عنها وتنسجم مع توجهاتهم وأمزجتهم في المرحلة المقبلة. كانت الشخصية التي وقع عليها الاختيار هي جمعة أمين، لكنه لم يلق قبولاً حين عرض اسمه على المهندس خيرت الشاطر (الذي كان في السجن آنذاك)، وعلل رفضه بعدم ورع الرجل في ما يتعلق بالذمة المالية، فانصرفوا عنه لآخر، وهو الدكتور محمد بديع.

وقد تعددت المصادر والروايات، وتجمعت الخيوط لدي في أغسطس 2009 حول الذي جري الترتيب له بالليل، وما كان لمثلي أن يأخذ بمصدر واحد حتى لا أقع في مصيدة خبر غير موثق أو دليل ضعيف، فالأمر جد خطير ويحتاج إلى تدقيق.

والحقيقة أن ما توصلت إليه هالني وأفزعني وأقض مضجعي وجافى النوم عن عيني، فهذا السلوك لا يليق بقيادة جماعة عقدية يتمثل رأس مالها حسبما تعلن، في الصدق والشفافية والأمانة والصراحة والوضوح، وعدم اللجوء للتصرفات الخلفية واللاأخلاقية التي تؤخذ على التشكيلات السياسية أو الحزبية.

تفاصيل المؤامرة

كنت أتصور من هؤلاء الإخوان (بدلاً من خيانة الأمانة) أن تنصرف عنايتهم واهتماماتهم إلى تحديد المعايير التي يتم على أساسها اختيار المرشد الذي يصلح لهذه المرحلة، بغض النظر عمن يكون، وأن يتم هذا الأمر بصدق وإخلاص وتجرد وموضوعية، بعيداً عن أي غرض أو هوى، وبعيداً أيضاً عن أي استغلال لمواقعهم وصلاتهم بمفاصل الجماعة. كنت أرى أنه من الأهمية بمكان أن تنصرف جهودهم إلى:

1) تحديد الصلاحيات والمهام الرئيسية والدقيقة التي يضطلع بها المرشد على كل المستويات والمجالات والميادين، داخلياً وخارجياً.

2) تحديد المواصفات التي يجب أن تتوافر في شخص المرشد لكي يكون مؤهلاً ليقوم بهذه المهام.

كنت أتصور أيضاً أن تعرض هذه المعايير على أعضاء مجلس الشورى العام، وأن يأخذوا فرصتهم في التعرف إلى بعضهم، ولو استغرق هذا الأمر أشهراً، حيث إنه متعلق بقيادة سوف يكون لها أثرها في الجماعة والرأي العام لعقود.

كنت أراهم يتصرفون أو يتحدثون بطريقة مريبة وغريبة، فكثيراً ما كنت أشاهد اثنين أو ثلاثة من هؤلاء الإخوة يتناجون في ركن قصي بصوت غير مسموع، فإذا ما اقتربت منهم، توقفوا عن الكلام.

لم ألتفت إلى ذلك في بادئ الأمر، فالثقة بين الإخوان هي الأصل، وقد حاول خصوم الجماعة في فترات كثيرة من تأريخها أن ينفذوا إليها من هذه الزاوية، زاوية زرع بذور الشك في القلوب، وقد نجحوا أحياناً، لكنهم أيضاً فشلوا في كثير من الأحيان، كنت أعي هذه القضية جيداً، لكن ما كان يحدث أمامي ورأيته بأم عيني مراراً، جعل علامات استفهام كثيرة تثور في نفسي، وبرغم ذلك توقفت عن الاسترسال فيما تستدعيه هذه العلامات لأتثبت، إذ لابد في هذه القضية بالذات من الدليل القاطع. لم أسع إلى شيء، ولم أحاول ولو من قبيل الفضول أو حب الاستطلاع أن أقف على ما يفعلون، خاصة أن صلاحياتي وسلطاتي كنائب أول تخول لي ذلك، ثم عرفت أن هناك لقاءات كثيرة تتم بعيداً عن المركز العام لا أعلم عنها شيئاً، لكن تأتيني أخبارها قدراً.

لحظة المواجهة

لقد واجهت المرشد والأمين والأعضاء بهذا كله، لكن ردود الأفعال كانت هزيلة ومتهافتة ومضحكة، والعجيب أنهم أنكروا حدوث مثل ذلك، وهو ما أثار إحساسي بالغثيان، إذ من الصعب على الإنسان أن يكتشف خيانة إخوانه ـ الذين يؤاكلونه ويشاربونه ـ لقيم أصيلة تربينا عليها وندعو الآخرين للالتزام بها.

كيف تسنى لهؤلاء الإخوان الذين يبحرون معك في القارب نفسه، وإلى الوجهة نفسها، ويسيرون معك الدرب الوعر نفسه، أن يفعلوا ذلك؟ صعب على الإنسان أن يجد رفاقه الذين أحبهم وآثرهم على نفسه ووثق بهم، يظهرون شيئاً ويبطنون شيئاً آخر، حتى ولو كان الهدف يقتضي ـ في تصورهم ـ ذلك أن التأريخ القديم والحديث حافل بمآس وفواجع، وتاريخ الإخوان نفسه يحتوي من الأحداث والوقائع ما يجعل الإنسان يقف أمامه حائراً، مذهولاً، مدهوشاً.

لقد قضيت أياماً وليالي لا يعلم عددها إلا الله، وأنا أفكر في مصير الجماعة على يد هؤلاء. إن أفراد الصف الذين يمتلئون حماساً وتدفقاً واستعداداً للبذل والعطاء، ويرون في هذه الجماعة منقذاً وموصلاً إلى الجنة لا يعلمون شيئاً عما يجري، ولا يجب أن يعلموا، فماذا أقول لهم؟ وما أثر ذلك فيهم؟

تساءلت بيني وبين نفسي: إذا كان هذا هو شأن أعلى مستوى قيادي في الجماعة، فهل من الممكن أن يكتب لها التوفيق والنجاح؟ وما القيم التي يعلمونها أو يورثونها لأفراد الصف؟ وهل يتسنى لمثل هذه النوعية من القيادة أن تقوم بدورها في انتشال الشعب من وهدته؟ بالطبع لا، وألف لا.

ربما يكشف عن هذا التدني اللاأخلاقي ما حدث بعد ذلك من وقائع أغرب من الخيال..

لا أنكر من جانبي أنني كنت أتوقع ـ وكان الجميع إخواناً وغير إخوان يتوقعون ـ اختيار أعضاء مجلس الشورى العام لي كمرشد، لكن من خلال إجراءات صحيحة وسليمة، خاصة أن هذا كان أمراً طبيعياً وعادياً، فالنائب الأول للمرشد عادة ما يصبح مرشداً، لكني مع قدر من التفكير والتأمل، وفي لحظة من لحظات الصدق مع الله، واجهت نفسي وقررت حسم هذا الأمر، وقمت بكتابة استقالتي من كل المواقع التي أشغلها، ووضعتها في حقيبتي حتى تكون ملازمة لي في حلي وترحالي.

إن ما رأيته من إخواني: المرشد، والثلاثة الذين وضعوا المؤامرة، والدائرة الثانية المتواطئة معها، وضعني أمام خيارات ثلاثة:

ـ إما أن أنفجر في وجه الجميع وليكن بعد ذلك ما يكون.

ـ أو أغادر المكتب في صمت تاركاً القوم يفعلون ما يريدون.

ـ أو أظل على حضوري متجاوزاً ما يحدث وكأني لا أرى شيئاً.

وقبل أن أحدد ما سوف أتخذه من مواقف، قررت الابتعاد ولو لفترة عن هذا الجو، حتى أستطيع أن أفكر بهدوء، وفعلاً غادرت القاهرة إلى أسيوط في بداية الأسبوع الأخير من رمضان 1430 هـ، وكان ذلك تحديداً في 14 سبتمبر 2009.

وفي مساء الأربعاء 7 أكتوبر 2009 اتصلت بمسعود «سكرتير المرشد»، وقلت له إني بخير وبصحة جيدة، وألا يقلقوا علي وسوف أتوجه إلى القاهرة قريباً، وقلت له أيضاً أن يبلغ المرشد بذلك، استبشر الأخ مسعود، وقال: ما رأيك لو اتصلت به أنت والحقيقة أني لم أكن على استعداد لأن أتحدث إلى المرشد، لأني كنت ـ ومازلت ـ أعتبره أساس المشكلة كلها، وهو السبب وراء ما أصاب المكتب والجماعة، لقد نصحت له كثيراً، وبذلت معه جهوداً مضنية لتصحيح الكثير من الأوضاع، لكنه لم يستجب لأي شيء.

اتصل بي الأخ مسعود وأبلغني أنه أوصل الرسالة للمرشد، فقال له: أريده أن يتصل بي. فقلت: فليتصل بي هو، ولما كنت أعلم أن مسعود لن يقوى على ذلك، وأنه سيتصل بمحمود عزت ليقوم بالأمر بدلاً منه، وقد صدق ما توقعت، فقد اتصل بي عزت متصوراً أني نزلت إلى القاهرة، فأخبرته أني مازلت في أسيوط.

قال: إن المرشد حريص على الحديث معك، وإنه يستعجل عودتك، وقد كلف بديع بالاتصال بك، وأعتقد أنه في الطريق إليك الآن، ورجاني أن أتصل بالمرشد. فقلت: اتصل به أنت. وقد حدث، إذ بعد ثلاث دقائق اتصل بي المرشد، وقال بصوت مأزوم واهن: محمد، هل أنت آت إلى القاهرة أم لا؟ قلت: آت إن شاء الله قريباً.

غضبة عاكف

في يوم الخميس 8 أكتوبر 2009، اتصل بي مساء الدكتور محمد بديع، وأخبرني أنه قادم إلي بعد صلاة الجمعة، وفعلاً، جاءني هو والدكتور سعد الكتاتني، قصا علي بالتفصيل ما حدث من المرشد في جلسة المكتب بشأن الدكتور عصام، وأن المرشد عازم على ألا يعود! وبالتالي لابد من حضوري لتحمل مسؤولياتي كنائب أول. قلت: لا بأس، لكن بشرط أن يكون المرشد في بؤرة الضوء ومركز الصورة، وألا نتخذ قراراً في الأمور الحرجة إلا بعد مشورته وأخذ رأيه، ثم لابد أن نكون على صلة مستمرة به لإحاطته بكل ما يجري.

فأمنا على كلامي، وجرى بيننا حوار طويل حول المرشد وإدارته للمكتب وتصرفات بعض الأعضاء بما يوجع القلب، وأنه إذا لم يحدث استدراك لهذا كله، فسوف يحبط العمل، ولن يكتب له النجاح. قال الأخوان: إذاً، تسافر معنا الليلة لترأس هيئة المكتب غداً. قلت: أمهلاني يوماً، وسوف أسافر السبت (10 أكتوبر 2009) إن شاء الله، وأكون في المكتب الأحد.

كنت أعلم من خلال معرفتي بطبيعة المرشد أنه عائد لا محالة، وأن المسألة لن تعدو كونها «زوبعة في فنجان» صحيح أن ما وقع من أزمة بينه وبين المكتب هذه المرة كان فوق تصوره، إلا أنه لم يكن ليبتعد عن إخوانه، ولو حاول ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهذه خصلة طيبة في المرشد يحمد عليها .

المؤلف في سطور

قضى الدكتور محمد السيد حبيب، كاتب هذه المذكرات، 40 عاماً داخل صفوف جماعة الإخوان، منها 25 عاماً عضواً بمكتب إرشادها الذي التحق به عام 1985، وخرج منه مطلع 2010، بعد «إسقاطه» في انتخابات داخلية أثارت عاصفة من الجدل نهاية 2009.

بحكم موقعه كنائب أول لمرشد الجماعة، اطلع الدكتور حبيب على أدق تفاصيل وأسرار التنظيم، من علاقة الإخوان بنظام مبارك إلى اتصالاتهم مع الأميركيين، كما وقف على مصادر تمويل الجماعة، التي وصفها بأنها سر لا يجوز حتى للأعضاء الاطلاع عليه.

الخريف الصعب

غني عن البيان أن أهلي وأولادي كانوا يعيشون عذاباتي وقلقي طوال خريف عام 2009، وكانوا يستشعرون مدى الضغوط التي عانيتها بسبب تصرفات المرشد، وكان رأيهم أن أدع المرشد يعالج مشكلاته بنفسه مع المكتب. قلت: ليس من طبيعتي أن أنتهز فرصة ضعف الرجل، قالوا: هل نسيت ما صنعه معك؟ قلت: لم أنس، لكن إدارة شؤون الجماعة تستلزم أن نتجاوز ما حدث. قالوا: إن ما حدث لم يكن خطأ في حقك، بقدر ما كان خطأ في حق الجماعة، وعموماً أنت صاحب قرارك، ونحن لا نملك سوى النصح.

تصعيد العريان يثير عاصفة

في هذه الفترة وتحديداً يوم الخميس 24 سبتمبر 2009، توفي محمد هلال عضو مكتب الإرشاد، ولما كانت الوفاة في الدقهلية، لم أستطع حضور صلاة الجنازة أو العزاء.

وفي أول اجتماع ـ لم أكن فيه حاضراً ـ طرح المرشد على الإخوة أعضاء مكتب الإرشاد موضوع عضوية الدكتور عصام العريان للمكتب، فها هي الفرصة التي انتظرها مدة عام ونصف العام قد جاءته على طبق من فضة، ولن يكون في هذه الحالة في حاجة إلى التحايل على المكتب بإضافة اسم الدكتور مصطفى الغنيمي. لقد ظن المرشد أن أعضاء المكتب سوف يلبون له رغبته هذه المرة، خاصة أن الولوج إلى عضوية المكتب من حق الأخ عصام.

إن المرشد يعلم عن يقين مدى رفض وكراهية الإخوة الأعضاء للدكتور عصام، وأن أعضاء المكتب سوف يسارعون، بل يتسابقون إلى نيل «رضاه» بتنفيذ هذه الرغبة! ألم يقل إن مجلس الشورى الدولي سوف ينتخب الشخص الذي اختاره المرشد ليكون نائباً ثالثاً، لمجرد علم المجلس أن هذه هي رغبة المرشد!

غير أن الإخوة الأعضاء الحاضرين آنذاك، خيبوا ظنه وعصفوا برغبته، بل ضربوا بها عرض الحائط. تودد الرجل إليهم، فلم يزدهم ذلك إلا مكابرة وإصراراً على الرفض، فقبول الدكتور عصام عضو مكتب إرشاد دونه خرط القتاد. وخرج المرشد من الاجتماع غاضباً، وغادر إلى البيت على أمل ألا يعود.

ذهب إليه الأعضاء في محاولة لاسترضائه، ولكن دون التنازل عن موقفهم الرافض، فتعامل معهم المرشد بقسوة وغلظة.

ولا أدري كيف تسرب الخبر إلى وسائل الإعلام بهذه السرعة، اتصل بعضهم بالمهندس الحاج حلمي عبد المجيد كي يقوم بالوساطة بين المرشد وبين أعضاء المكتب، لكن الوساطة فشلت، حيث كان الحاج حلمي يرى أن على أعضاء المكتب محاولة استرضاء المرشد، وأن يكونوا أكثر مرونة في تطبيق اللائحة، لكن الأعضاء وضعوه في موقف حرج للغاية، قرر بعده ألا يتوسط في الأمر، بل ويأخذ موقفاً ضد أعضاء المكتب، حتى إن محمود عزت ـ كما روى لي ـ طلب الذهاب إليه فنصحه بألا يفعل!

مذكرات نائب المرشد محمد حبيب 

إعداد: محمد سعد عبد الحفيظ

تنشر بالتعاون مع «الشروق»

Email