الطرد.. العالم إزاء التوحش والتعقيد

البيئة والمياه أخطر مشكلات العالم المعاصر

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يكاد هذا الكتاب يُشكّل بياناً شاملاً موجهاً إلى كل ذوي العلاقة المهتمين بشؤون العالم وتطورات أوضاعه، من ساسة ومفكرين ومسؤولين، فضلاً عن المهتمين بقضايا الشأن العام. الكتاب يرصد تجليات ظاهرة العولمة التي أفضت إلى أن يعيش الناس في قرية كونية - كوكبية، كما يصفونها، فيما أدت أيضاً إلى عولمة النشاط الاقتصادي مجسّداً بدوره في الكيانات السوبر- عملاقة، التي أصبحت أنشطتها متعددة الجنسيات وعابرة للحدود والقارات..

وهو ما أدى إلى تجريد جماهير السكان وخاصة في أصقاع العالم الثالث من سبل معيشتهم، وخاصة الأرض التي تعرضت للاستحواذ والاستيلاء، سواء لأغراض زراعتها أو استخراج ثرواتها المعدنية لصالح الكيانات عبر الوطنية..

وهو ما أفضى بهؤلاء السكان إلى حالة من الفقر، ما لبثت أن دفعتهم إلى معاناة النزوح والهجرة القسرية ومواجهة مصير اللجوء، بعد أن انقطعت سبل المعيشة وعزّت الأرزاق والأقوات، وهو ما تصفه أيضاً مقولات هذا الكتاب، بل ويلخصه عنوانه في كلمة »الطرد«، بمعنى النبذ والحرمان والإقصاء والتهميش.

من هنا يأتي تعامل النقاد مع مقولات هذا الكتاب على أنه بلاغ أكاديمي مشفوع بأسانيد مستقاة من الأحوال والشواهد الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، في مواقع شتى من عالمنا.

 لا يكاد المثقف العادي في هذه المرحلة المائجة في عالمنا، يذكر السياسي الفرنسي جورج كليمنصو (1841- 1929). ورغم أن للرجل تاريخاً مشهوداً، إذ كان رئيس وزراء فرنسا وقاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الأولى، إلا أننا نذكره بمناسبة عبارته التي ما زالت بليغة من حيث المعنى والدلالات. فقد قال: إن الحرب أمر خطير، أخطر من أن نتركه للجنرالات.

والمعنى أن الأمور الخطيرة لا ينبغي أن تترك برمّتها للاختصاصيين فقط، لأنهم لا يتعاملون مع هذه الظاهرة أو تلك المشكلة إلا من منظور تخصصهم، وهو منظور محدود ويفتقر إلى الشمول بحكم التعريف.

وربما ينطبق هذا القول على المادة التي يتناولها الكتاب الذي نقلب صفحاته ونستعرض أفكاره في هذه السطور.

الطرد ومعانيه

ومن عجب أن تختار المؤلفة كلمة وحيدة، صادقة في تصورنا لتجعلها عنواناً رئيسياً للكتاب، والكلمة هي: الطـــــــرد (بمعنى النبذ أو الاستبعاد أو التهميش أو الإقصاء). بعدها تبادر البروفيسور ساسين إلى عبارة في العنوان الفرعي أكثر تفصيلاً، وربما أوضح إبانة عن توجهات الكتاب، والعبارة هي:

التوّحش والتعقيد في الاقتصاد العالمي.

هنالك تعمل الفصول الأولى من كتابنا على إدخال القارئ مباشرة في خضم التيارات والظواهر السلبية التي ما برح يموج بها اقتصاد عالمنا في الوقت الراهن، وفي هذا الإطار تحدثنا المؤلفة عن تفاقم آفة اللامساواة في الدخْل وزيادة معدلات البطالة، مع تزايد حجم السكان.

ثم تضيف إلى هذه المشكلات آفة أخرى أصبحت تتمثل مع اللحظة الراهنة في ظاهرة السكان المشردين داخلياً (في بلدهم الأم) أو المشردين خارجياً في مجتمعات اللجوء.

هكذا تجهد المؤلفة في تشكيل منظور علمي- أكاديمي يتسم بالشمول من حيث الإطلالة على المشكلات التي ما برحت تقّض مضاجع عالمنا، وخاصة في دوامة عقابيل الأزمة المالية- الاقتصادية التي سبق وأن نشبت كما هو معروف في عام 2008 ..

ومازالت أضرارها تصيب الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عبر العالم كله، ثم زاد من اشتداد وطأتها ما ترصده فصول هذا الكتاب من ظواهر أو مشكلات ناجمة عن اثنتين من القضايا السلبية التي استجّدت عبر الفترة الفاصلة والواصلة أيضاً بين القرن العشرين وهذا القرن الواحد والعشرين. وهاتان القضيتان هما باختصار شديد:

(1) قضية البيئة: بكل ما يحدق بها من تفريعات سلبية تتمثل في تغيّر المناخ، وظاهرة الاحترار الكوكبي (غازات الاحتباس الحراري) إضافة إلى تدهور النظم الأيكولوجية (البيئية) سواء بسبب ضراوة الأنشطة الصناعية بكل ما ينتج عنها من عوادم ونفايات أو ظاهرة التآكل، التي باتت تهدد بزوال مساحات شاسعة من اليابسة، فضلاً عن خطر اختفاء كيانات جزرية عـــديدة بكل من عليها من بشر وكل ما عليها من كائنات النبات أو الحيوان.

(2) قضية المياه: وتتعامل معها المؤلفة أولاً على أساس المياه العذبة، التي تراها في حال من التناقص مجسَّدة في ظواهر كوارث الجفاف التي لم تعد لتقتصر على مساحات تعيسة في أفريقيا، بل امتدت غوائل الجفاف كي تصيب مواسمه مناطق في عالم الأثرياء .

العدوان على المياه

في قضية المياه أيضاً يتطرق هذا الكتاب إلى مياه المحيطات. ومنها ما هو مهدد بارتفاع المنسوب نتيجة انصهار وزوال الجبال الجليدية من القطبين الشمالي والجنوبي..

ومنها ما أصبح معّرضاً ومنكشفاً أمام الأنشطة الضارة من صنع الإنسان، التفجيرات النووية على سبيل المثال، وهنا تنفجر أعماق المحيط وتهلك الحرث والنسل، كما يقولون، على نحو ما أدت إليه كوارث موجات »التسونامي« في المحيطين الهندي والهادئ، الذي لم يعد هادئاً على الإطلاق.

في هذا السياق تدير المؤلفة أهم مقولات الكتاب على فكرة »الاستبعاد« التي يجسدها عنوان الكتاب، وتقصد بها حالة الإقصاء التي تتعرض لها، بل وتكابدها ملايين البشر، سواء بين جموع الفقراء في مجتمعات أوروبا وأميركا، ناهيك عن ملايين، عشرات الملايين، من أفراد شعوب العالم الثالث في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

والكتاب يحاول تعريف هذه الحالة من الاستبعاد على النحو التالي: إنها استبعاد الرجال والنساء من مجالات الاقتصاد، من المشاريع الحياتية، ومن سبل المعيشة ومن إطار العقد الاجتماعي الذي يكمن في قلب الديمقراطية الليبرالية، وهذا الاستبعاد (أو النبذ الإقصاء- الحرمان) يتمثل على مستوى الداخل في اختفاء فرص العمل اللائق (إنسانياً واقتصادياً).

فيما يتمثل على مستوى الخارج في استبعاد الناس من ديارهم وبيوتهم ومواقع معيشتهم بل وأوطانهم لصالح أوضاع التشريد، سواء تحت طائلة نشوب نيران الحرب والصراع وتفشي العنف أو بســـبب اندلاع الكوارث الطبيعية أو بحكم تداعي وانهيار شبكات الأمن الاجتماعي.

استبعاد الهـــــواء

هنا أيضاً تصل مقولات الكتاب إلى آفاق التحليل بالأسلوب الأدبي، تضيف المؤلفة، أن آفة الاستبعاد لم تعد لتقتصر في زماننا على البشر وحدهم: إن لعنة الاستبعاد أصابت المحيط الحيوي أيضاً (بيوسفير) بمعنى الأجواء المحيطة بكوكبنا الأرضي المهيض.

من هذا المحيط الحيوي تم استبعاد الهواء النظيف بسبب غازات أول وثاني أوكسيد الكربون، وتعرّضت للاستبعاد أيضاً مصادر المياه النقية المأمونة للاستخدام البشري، بسبب استشراء صناعات وأنشطة استخراجات المعادن، ومنها ما يتخلف عنه مواد سُميّة تؤدي بالتالي إلى تلوث مصادر المياه اللازمة للحياة.

في ضوء هذا كله، تذهب مؤلفة الكتاب إلى أن القضية في مرحلتنا الزمانية الراهنة، لم تعد تجسدها المشكلات الاقتصادية فقط، بقدر ما أنها أصبحت تتجسد في شبكة متكاملة أو فلنقل أصبحت مصفوفة تتراوح ما بين المال إلى التعدين وما بين الظلم الاجتماعي للبشـــر إلى الظلم السافر للبيئة وللطبيعة.

وفي تصورنا، فإن من أهم فصول الكتاب ذلك الفصل الذي يتعرض للتحولات التي استجّدت على العالم منذ عقد التسعينات الماضي وفي أعقاب انتهاء الحرب الباردة. وقد تجسدت تلك التحولات..

كما تؤكد مؤلفة الكتابفيما طرأ على النهج والنظام الرأسمالي من متغيرات تمثلت في فتح الطريق أمام توسيع فرص الربح»اقتناص المكاسب« حسب تعبير الكتاب من أي سبيل حتى ولو أدى ذلك إلى تعاسة أو إفقار أو حتى تشريد أفراد وعائلات وربما انهيار أنساق اجتماعية بأكملها. المهم هو الربح أولاً وقبل كل شيء، لا يهم في ذلك فداحة الإضرار بالبشر أو الطبيعة أو البيئة،.

ثم هناك ما استجدّ على ساحة عالمنا من نشاط وسيطرة لاحتكارات جاءت على شكل شركات متعدّية الجنسيات أو شركات عبر وطــنية عـــملاقة، وهــي التي يطلق عليها هذا الكتاب الوصف التــــالي: الشـــركات الكوكبية (العولمية).

الطرد خارجياً وداخلياً

في كل الأحوال، يتضح من سطور هذا الكتاب أن المؤلفة لاتزال يستبد بها الانشغال الأكاديمي بظاهرة العولمة، التي أصبحت مهيمنة، أو شبه مهيمنة، على أحوال عالمنا، بعد أن لاحت أولى تجلياتها مع ثورة الاتصال والبث الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية منذ ستينات القرن الماضي، مروراً بثورة الحواسيب وشبكة الإنترنت ثم وسائل التواصل الاجتماعي، التي جسّدتها ..

كما هو معروف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في آخر عقود القرن المذكور، من هنا كان طبيعياً أن تركز طروحات الكتاب بالذات على الانعكاسات ذات الطابع الاقتصادي الاجتماعي لكل هذه التطورات الجذرية ممثَّلة، كما تكرر فصول الكتاب، فيما أصاب القطاعات الغالبةعددياً- من المجتمع البشري - العالمي من سلبيات بل آفات الإقصاء والتهميش أو هو »الطرد« من رحمة الشعور والعمل الإنساني...

حيث تعبر المؤلفة عن هذا الطرد كما ألمحنا بأنه إما »داخلي« كما في حالة عشوائيات المدن وأحيائها الفقيرة، أو في حالة ندرة وأحياناً غياب فرص العمل وكسب الرزق أمام جموع الشباب في تلك البيئات المحرومة والمهمشة، أو هي حالة طرد »خارجي« بالمعنى الحرفي وتترجمها معاناة الجموع من السكان المهاجرين، المطرودين، النازحين أو اللاجئين على السواء.

حالة  " الطرد"

يشير الكتاب بأصابع الاتهام إلى الاحتكارات العملاقة عابرة القارات، التي تركّز اهتماماتها على الاستحواذ على مساحات الأرض عبر قارات العالم بكل ما تحويه من موارد المياه وركازات الثروات المعدنية، وبحيث يكون الوجه الآخر لعملية الاستحواذ أو السيطرة أو السلب هو الاستبعاد والنزوح والهجرة، بعد أن تشح الموارد المتاحة لجموع الفقراء والمهمشين والمحرومين ومسلوبي الحقوق..

وبحيث تظل حالة »الطرد« بمثابة الوجه الآخر لظاهرة العولمة، وهو وجه يرى الباحثون أنه متجهم الملامح، بالغ القسوة. ومن ثم فالأمر يقتضي اتخاذ إجراءات ناجزة لمداواة ما تخلّف عن هذه الأوضاع من إصابة اقتصاد العولمة من آفة التعقيد بل من غياب الروح الإنسانية إلى درجة الوحشية، كما يقول عنوان الكتاب.

هكذا تكلمت باتريشيا كيلي

 أبدت الباحثة الأميركية باتريشيا كيلي الأستاذة بجامعة برينستون الأميركية، اهتماماً كبيراً بكتاب »الطرد«، ووصفته بأنه يتميز بالجرأة الفكرية والقدرة على الإقناع..

حيث تلقي مؤلفته الضوء على القوى المتصارعة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على امتداد العالم، وتبرز الفوارق الكبيرة بين العالم كما يتفهمه معظم الناس، والعالم كما يتطور على أرض الواقع باتجاه شكل متطرف من أشكال أنماط الإنتاج والتفاعل السياسي.

الفجوة بين الأغنياء والفقراء أصبحت ذات طابع عالمي

 الشركات العملاقة العابرة للحدود أكدت، وما برحت تؤكد، على نمط بعينه من أنماط الإنتاج، الذي تحشد له ما تملكه وما تحتكره وتسيطر عليه من موارد. وتعني به المؤلفة »الإنتاج من أجل التصدير«..

وهو ما يتم على حساب تلبية الاحتياجات الوطنية للسكان. وإذا ما كان هناك تلبية أو إشباع لتلك الاحتياجات فهو يتم بواسطة سلع أقل جودة وأدنى نوعية. صحيح أن المحصلة تمثلت في تحقيق درجة أعلى من النمو، لكنها لم تحقق الهدف المنشود من التنمية: وشتّان بين النمو والتنمية: المفهوم الأول ينطوي على زيادة في الحجم، وهو يصبّ عادة في خزائن المستثمرين، والمفهوم الثاني يشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية إلى جانب النجاح الاقتصادي والعائد المالي.

وكلما أمعن المجتمع في حكاية النمو، اتسعت الهوة الفاصلة بين النخب المقتدرة، الأقليات الموسرة، والعناصر المتنفذة في المجتمع وبين القاعدة العريضة من بسطاء المواطنين، وتفاقمت معه بحكم التعريف فجوة اللامساواة الفاصلة بين الفريقين، حيث يكون »الطرد« بمصطلح الكتابمن نصيب أولئك البسطاء في نهاية المطاف.

وفيما تعمد المؤلفة إلى توسيع آفاق نظرتها إلى أحوال عالمنا، فهي لا تتردد في توسيع الحديث عن تلك الفجوة الفاصلة بين الذين يملكون والذين لا يملكون: الفجوة في تصورها ليست مقتصرة على دواخل المجتمعات القطرية في هذا البلد أو ذاك:

الفجوة فاصلة أيضاً بين دول وشعوب تملك ودول وشعوب لا تملك، وبمعنى أنها أصبحت فجوة ذات طابع ومقياس عالمي، وعلى ضفاف هذه الفجوة الفاصلة لا تتورع الاحتكارات العولمية عن اقتحام أقاليم وأقطار الدول والشعوب التي لا تملك، فإذا بهذه الكيانات العملاقة وقد فرضت سيطرتها على مساحات شاسعة من أراضي وأوطان تلك الدول والشعوب، تقطع أشجارها لزوم تجارة الأخشاب..

وتزيل غاباتها لزوم زراعة المساحات الشاسعة، وتكاد تمحو غطاءها النباتي الذي يشكل عاملاً جوهرياً في سلامة الدورة المائية التي لا تلبث أن تصاب بالاختلال، ومن ثم تفضي إلى الإصابة بظاهرة الجفاف، التي لا يكابد عواقبها سوى الملايين من بسطاء تلك الشعوب، الذين يتعرضون حسب تعابير هذا الكتاب إلى مصير الطرد من رحمة المدنية، والإقصاء بعيداً عن موكب التقدم والنبذ والتهميش بمنأى محرومين للأسف من سبل العيش الإنساني الكريم أو المعقول.

المؤلفة في سطور

 الدكتورة ساسكيا ساسين أستاذة جامعية أميركية من أصل هولندي، تبلغ من العمر حاليا 66 سنة. وهي مولودة في مدينة لاهاي الشهيرة (مقر محكمة العدل الدولية ومعهد القانون الدولي) في هولندا، وقد بدأت دراساتها الجامعية الأولى في جامعة نوتردام، وبعدها توسعت في مجالات التخصص في علوم الاجتماع، حيث تعمل حاليا أستاذة لعلم الاجتماع في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة.

وبحكم اتساع اهتمامات المؤلفة، فقد تُرجمت كتبها الصادرة بالإنجليزية في هذه المواضيع إلى أكثر من 20 لغة، كما حظي كتابها بعنوان »مدينة العولمة« باهتمام واسع النطاق.

 عدد الصفحات: 304 صفحات

تأليف: ساسكيا ساسين

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة هارفارد، نيويورك، 2015

Email